عشق معلون بالدم (الفصل الثالث)
أنا ذلك البعيد الذي اجتاز حدودك كما يجتاز النهرُ اليابسة عطشًا،
تجاوزتُ أسوارك الخفية، اقتحمتُ مدنك المحرّمة، وسلكتُ دروبًا لم تطأها أقدام غيري،
لا بجرأة عاشقٍ، بل بقدرٍ ساقني إليك.
وأنتِ… أنتِ المستحيل المتجذّر في شراييني،
السكينة التي استعصت على قلبي، والنار التي أحرقتني دون لهب،
أقمتِ في داخلي مقامًا لا يهدمه النسيان ولا تُزيله السنون،
سكنتِ قلبي كما يسكن السرّ في الأعماق،
ولن تنطفئي فيه… أبدًا.
انفجر الليل من حوله كأن الأرض تعلن غضبها، قفز فارس من فراشه مذعورًا، اندفع إلى الشرفة، وعيناه تتسعان أمام المشهد المروع؛
النيران تلتهم الأسطبل، ألسنتها تتعالى في السماء كوحش جائع، وصهيل الخيل يتداخل مع صرخة أنثوية اخترقت سمعه وزلزلت صدره.
هبط الدرج كالعاصفة، وصوته يجلجل بالبيت كله: النار جايده في الأسطبل ياااا بدرررر… ياااا سنننند!
انفجر السكون في الداخل إلى صخب وزعر؛ هرول الجميع مذعورين، وارتفع صوت وهيبة بالنحيب: چري إيه يا ولدي؟
اندفع بدر نحو الخارج، عينيه تشتعلان فزعًا: النار يا مرت عم… طلعوا الخيل يا رچاله! بسرعه!
ولحقه سند وفهمي، وصاح سند بصوت جهوري كأنه يواجه المعركة: افتح المايه يا ولد!
خرجت ليلى ونغم، وخلفهما فاطمة، تتعثر دموعها مع الكلمات: جرى إيه خيتي؟ مين جاد النار؟
هزت وهيبة رأسها، الدموع تخضب وجهها، وغص صوتها المتهدج: مخبراش يا فاطنة… ربنا يستر.
تمسكت ليله بذراع نغم، جسدها كله يرتجف كمن وقع في هاوية لا قرار لها، وهمسة بصوت مخنوق: هو البيت ديه كده علي طول؟
تمسكت بها نغم ،وكلا منها تستند علي ارتجاف الاخري، وهمسة بصوت مرتجف باكي: متخفيش ..
في الخارج،
كان الليل يشتعل كما لو أن السماء هوت على الأرض. ألسنة النار تلتهم الأخشاب، تتلوى في الهواء كأفاع جائعة، والشرر يتطاير في كل اتجاه، يلسع الوجوه ويخنق الأنفاس بدخان كثيف…
ارتفعت أصوات الرجال عند باب الإسطبل، فارس في المقدمة كجدار لا ينكسر، إلى جواره سند وبدر، ومن خلفهم الرجال يندفعون بالماء والأقمشة، يصرخون، يكافحون لوقف زحف النار.
أما حبيبة، فكانت محاصرة كطريدة بين أنياب الوحش. تراجعت بخطوات متعثرة، أنفاسها مبهورة، شهقتها مكتومة كأنها تستجدي الحياة…
ارتطمت قدماها بخشب متناثر وأدوات مبعثرة في كل اتجاه، كأن المكان قد تواطأ ضدها ليقيد خطاها…
لهثت بأنفاس متقطعة، تصارع الدخان الكثيف الذي أخذ يطبق على صدرها حتى شعرت أن الهواء يهرب منها بلا رجعة… وبرجفة يائسة، ودموع تتوهج في عينيها، أفلتت أخيرًا قيود الخيول وفكّت وثاقها، كأنها تحررهم من موت محقق.
عندها دوّى صهيل الخيول المذعورة، فانطلقت كالعاصفة إلى خارج الإسطبل، تدوس الأرض بارتباك مذعور،
فيما هرعت حبيبة تركض هنا وهناك لا تلوي على شيء، تتخبط بين ألسنة اللهب المتصاعدة…
حتى إذا بلغت الجدار، دفعت بعنف صناديق كانت مرصوصة إلى جانبه،
فتدحرجت بصوت مكتوم يختلط بهدير النار. هناك، في لحظة يأس، وقعت عيناها على نافذة صغيرة، ضيقة كشقٍ في جدار كثيف… نافذة لم تبد سوى ثغرة أمل، طريقًا وحيدًا نحو النجاة.
بيدين مرتجفتين سحبت صندوقًا، جرته بصعوبة، صعدت فوقه، واندفعت بجسدها لتقفز…
هوى جسدها أرضًا خارج الإسطبل، ارتطم وجهها بالتراب وصرخة ألم انفجرت منها، لكنها كتمتها كمن يبتلع نصلًا في حلقه.
تأوهت، ثم نهضت رغم الألم الذي يسري في جسدها كتيار حارق…
مدت يدها إلى شالها، لفته على وجهها تخفي ملامحها المرتبكة، وهرولت بخطوات متعثرة بسبب وجع قدمها…
وصلت إلى الفرس، جذبت حبله بيد مرتجفة، عقدته بسرعة، ثم حاولت أن تعتليه…
ارتجف جسدها وهي تقفز فوقه، ولم تنتبه أن حزام السرج التف حول قدمها بطريقة خاطئة، وكأن القدر شد وثاقها.
لكنها لم تر شيئًا غير الهروب، فانطلقت به وسط ظلام يخترقه اللهب والدخان، كأنها تفر من فم جحيم مفتوح.
في الخارج، وبينما النار ما تزال تعوي خلفه، لمح فارس ظل أنثويا يتسلل من شباك ضيق في آخر الإسطبل.
خفق قلبه بصدمة غامضة، لم يمهله عقله وقتا ليفكر، فانطلق كالسهم نحو الجهة الغربية وهتف بصوت جهوري يشق الدخان: بدر! في حد من الناحية الغربية!
أطلق فارس صفيرًا مميزًا، صوته كنداء سري بينه وبين خيله…
ما إن دوى الصفير حتى انطلق أحد الأحصنة نحوه بقوة، كأنه يعرف سيده منذ الأزل….
قفز فارس فوقه بحركة واحدة، بخفة ممزوجة بصلابة، فاستوى على صهوته كما لو أنه جزء منه.
في تلك اللحظة، كان الرجال يفتحون بوابة القصر على مصراعيها، فتدفقت الريح مع الصهيل، وانطلق فارس خلف الطريدة الغامضة بسرعة تفوق إدراك العيون.
على بعد أمامه، كان صوت صهيل فرس فارس يمزق السكون، يدوي كالرعد في ليل مذعور.
التفتت حبيبة برعب، واتسعت عيناها وهي ترى فارس يقترب منها… شدّت بيديها على لجام الفرس، ولكزت بطنه بعنف، وانطلق الفرس كبرقٍ يفر من عاصفة.
لكن القدر كان أسرع؛ الحزام الملتف حول ساقها انزلق فجأة، والبردعة انفلتت، فتأرجح جسدها بعنف.. وارتفع صراخها المذعور اخترق صخب الليل، ثم انقلبت رأسًا على عقب، كأنها تهوي في فراغ كزهرة اقتلعت من جذورها وسط ريح هائجة.
تأرجح جسدها في الهواء، وقدمها لا تزال معلقة بحزام السرج، والفرس الجامح يركض بجنون، يجرها بين الموت والحياة…
لحظةٌ خاطفة، لكنها كانت كفيلة بأن تشطر قلب فارس نصفين… جحظت عيناه وهو يراها تكاد رأسها ترتطم بالأرض، وصوت صهيل الخيل يتداخل مع هدير دمه في أذنيه.
بلا تفكير، لكز فارس بطن حصانه بقوة، فانطلق كالسهم، يقطع الريح ويشق العتمة…
اقترب منها حد الاختناق، ثم انحنى بجسارةٍ تتحدى الموت، ومد يده بارتعاش صلب، فأمسك بذراعها قبل أن تتهشم على التراب….
وبحركه سريعه رفعها وضمها إلى صدره بعنف، شدد عليها وقلبه يقرع بين ضلوعه برعب لا يعرف مصدره،
ثم حرر ساقها من الحزام بعد عراك مع الوقت والخوف. انزلق السرج والبردعة،
وانطلق الفرس الذي كانت تمتطيه عائدًا نحو الدرب، بينما توقف حصان فارس فجأة، كأنه يعي أن سيده أنقذ الحياة ذاتها.
توقف الفرس على حافة الطريق، وقلب فارس يضرب صدره كطبول حرب لم تهدأ…
حملها بين ذراعيه كأنها أمانة السماء، ثم قفز بها من فوق ظهر الحصان، وجلس على الأرض، يسندها فوق ساقيه. تنفس الصعداء بارتجاف مرير، وعيناه لا تفارق ملامحها.
بيده المرتعشة سحب الشال الذي كان يحجب وجهها، وما إن انزاح حتى باغته نور غريب؛
كان الليل يلفهم بظلمته، ومع ذلك بدا وجهها كالبدر يضيء وسط عتمة خانقة…
ارتجف قلبه بعنف لم يعرفه من قبل، وتأملها بذهولٍ
صامت، ثم همس كأن صوته وُلد من أعماق قلبه:لو للچمال وش، يبجى الوش ديه؛ أكيد حورية طاحت من حضن السما لحضني…يستحيل تكوني بت بشر!!
انسكبت نظرات فارس على ملامحها كجمر متقد، لا يعرف الانطفاء ولا يطلب الرحمة؛
كأن وجهها خرج من رحم النار التي أحاطت به ليلقيه في نار أشد لهيبًا….
ارتجفت يده وهو يمررها على وجنتيها، يستشعر نعومة أربكت صلابته، فعض شفته حتى كاد يدميها،
كأنه يحاول أن يكبح في داخله وحشًا هائجا لا يهدأ. ابتلع لعابه بصعوبة، والحروف تتعثر على شفتيه المرتجفتين: فوجي… يا…
توقف، متسمرا بين الذهول والرغبة المباغتة، ثم همس بصوت متصدع كأنه يناجي طيفًا لا جسدًا: يا ترى اسمك إيه؟
ربت بأصابعه على وجنتيها بخوف مشوب بالوله، وكأنه يخشى أن تضيع إن أفلتها أو يضيع قلبه،
خرج صوته أجش، مثقلاً بحرارة لا تكتم:فوجي… متخافيش… فوجي.
تأوهت أنينًا خافتًا، فاختنقت أنفاسه في صدره، وانقطع صوته كما لو شله السحر….
وحين انفرجت عيناها، سال منهما بريق ساحر اخترق كيانه كسهم مسموم…
اتسعت عيناه بدهشة محمومة، وانفلتت كلماته من بين شفتيه كزفرة حارقة:آآاف… من ديه عيون! كملتي عليا يا حته من النور.
التقت عيناها بعينيه، فارتجف الزمن في لحظة معلقة بين الخوف والافتتان،
وغرقت نظراتها كغريق يلقى به فجأة في بحر مجهول المدى لا يعرف له شاطئًا ولا قرارًا…
انحبست أنفاسها في صدرها، وارتعشت شفتاها المرتجفتان كأنهما تستجديان الأمان من وهج عينيه، ثم أفلت منها همسة بصوت واهن مرتعش، أقرب إلى شهقة متوسلة:اانت مـ مين ؟!
انحنى عليها كمن انقاد إلى قدر لا مهرب منه، أصابعه تغور بين خصلاتها المبعثرة، يتلمسها برعشة تحمل في طياتها حنان غريب وشغف محموم….
انحنى أكثر أمام شفتيها، وتلمس وجنتها بخفه، لكنها لمسه اشتعلت في دمه كجمرة مستعرة لا تطفأ…
توقفت أنفاسه عند حدود شفتيها، وانفاسه اللاهثه اختلط بانفاسها المرتعشه، وهمس بصوت خرج من أعماق صدره: أنا فارس… إنتي مين؟
ارتجفت أجفانها كطائر مذعور يحاول أن يستفيق من صدمة الضوء، وارتعشت أصابعها حين وضعت يدها على صدره، فاندفع الدفء من كفها إلى قلبه كتيار صاعق. خرجت منها الكلمات كأنها تهذي، كأنها تخلط بين الوهم والوعي: أنا… هو إنت ..لا انا ؟
توتر فكه، وضم يده فوق يدها، كأنما يخشى أن تتلاشى لو أفلتها…وعينيه تشتعلان بنيران لا يعرف إن كانت غضبًا أم افتتانًا، وصوته يتصدع بين الهيام والجنون: هو إنت كيف؟! إنتي مين؟ جوليلي… جبل ما اتهور يا بت…
أفاقت من غشاوة اللحظة كمن ينتشل من غرق مفاجئ، شهقت شهقة مذعورة وارتعشت أطرافها كطائر اصطدم بالريح،
دفعت صدره بكل ما تبقى من قوتها وصرخت، وعيناها تشتعلان بالذهول والفزع: يخربيتك! إنت هتعمل إيه؟!
تراجع للخلف، فاندفعت واقفة، وأنفاسها تتلاحقة وجسدها كله يتأجج بالرعب والغضب، وهتفت في وجهه بصوت متحشرج: إنت كيف تحطني علي رچلك كده؟! إنت مدبوب؟!
هب واقفًا في لحظة، كالإعصار يثور، قبض على ذراعيها بقبضة حديدية جعلت جسدها كله يرتعش، جذبها إلى صدره حتى التصق جسدها الصغير بجسده الصلب،
وانفجر صوته كالرعد يهدر في الفضاء: بت أتحدتي؟ إنتي مين؟ بت مين في البلد؟ هتجولي ولا أدفنك مطرحك!
شهقت شهقة حارقة، ودموعها انسابت على وجنتيها كجدول مذعور، وراحت تدفعه بذراعيها المرتجفين وهي تبكي بصوت متقطع: ملكش صالح! أوعى… سيب دراعي! هيتكسر!
ازدادت قبضته صلابة، وعيناه تضطرمان بنار وحشية، بينما نبرته الباردة لا تخفي العاصفة المشتعلة في صدره:
يتكسر؟ مش إشكال… أنا مش ههملك غير لما أعرف إنتي مين… وبت مين.
شهقت حبيبة بفزع، دفعت صدره بكل ما بقي في جسدها من قوة، وانتزعت نفسها من بين ذراعيه كمن يفلت من قيد مشتعل. صرخت وهي تهتز من الخوف:
ملكش صالح… سيبني!
تراجعت بخطوات مرتبكة، عيناها تائهتان لا ترى سوى النار في نظراته، حتى انزلقت قدمها فجأة،
فصرخت وهي تهوي وسط الغيط، ساقطة بين عروش الزرع، والألم يلسع ظهرها… جحظت عينا فارس وهو يراها تتهاوى، فاندفع صوته غاضبًا ملهوفًا: يخربيتك!
نهضت حبيبة تتلوى من الوجع، وضغطت على جنبها بيد مرتعشة، لكنها لم تستسلم، بل اندفعت تجري وسط الغيط، وساقيها ترتجفان، وقلبها يقرع صدرها كطبل مذعور.
تقدم فارس في أثرها، اخترق الزرع بجسده العاصف، يركض بعنف لا يوقفه شيء، يبحث بعينيه الملتهبتين عن ظلها المذعور، وهتف بغضب ممزوج بالدهشة: يا بت… وينك؟! الغيط خطر عليكي!
ركضت حبيبة داخل الغيط أعمق ، وأنفاسها لاهثة، عيناها تجولان حولها برعب مستميت، والدموع تنثال على وجنتيها وهمسة برجاء منكسر: يا رب… يا رب أطلع من أهنه.
توقفت خطوات حبيبة فجأة، وتجمد جسدها كحجر بارد حين وجدت أمامها ذئب ضخم، عيناه تقدحان بشرر وحشي، ولسانه يلهث في الهواء الموحش، ولعابه يقطر على الأرض بشكل يثير الرعب …
ارتعش كيانها كله، وانهمرت دموعها بصمت خانق، كأن روحها تستعد للمغادرة.
تقدم الذئب خطوة إلى الأمام، فارتجفت وتراجعت خطوة إلى الوراء، لكن الوحش انقض عليها فجأة وقفز بقوة، فصرخت صرخة مزقت الليل وسقطت أرضًا.
في اللحظة الفاصلة، اندفع فارس كالعاصفة، قفز بجسده امام الذئب، واحتضنه بعنف قاتل، وتهاووا سويًا على التراب….
غاص صوته الغاضب بين أنفاسه اللاهثة، وهو يقاتل الذئب بأيد تشتعل قوة ..
قبض على فكي الذئب بكل غيظه، يحاول أن يسيطر عليه فيما أنيابه تلمع على بُعد أنملة من وجهه.
اندلعت معركة ضارية بين الرجل والوحش، جسدان يتصارعان بجنون،
هدير فارس يمتزج بعواء الذئب الوحشي…
زحفت حبيبة للخلف برعب مشلول، عيناها متسعتان، كأنها تشهد كابوس أمامها.
مد فارس يده والتقط حجرًا ضخمًا، رفعه بكل عنفوانه، وهبط به على رأس الذئب ضربة رجت الأرض أكثر من ضربه .. وتعثر الذئب وعلا صوته بعواء مبحوح مخنوق،
لكن فارس لم يتوقف؛ قبض على فكيه بكل ما يملك من غضب، وشدهما حتى انكسر العظم بصرخة وحشية ترددت في الصمت.
تدلى فك الذئب مشقوقًا، وسقط جسده الهائل خامدًا فوق صدر فارس ككتلة ثقيلة ميتة.
دفع فارس الجثة الهامدة عن صدره بعنف، وهو يلهث صدره يشتعل كأن النار ما زالت تضطرم بداخله…
نهض بخطوات واسعة، كتفاه متشنجتان، والعرق يتصبب على جبينه، ثم انحنى ليجذبها من الأرض بقسوة مشوبة بالرهبة…
ضمها إلى صدره كمن يسترد شيئًا كان يوشك أن يضيع منه إلى الأبد،
وخرج صوته محملًا باللهاث، ممزوجًا بالغضب والذعر والحنين معًا: كتي هتضيعي حالك يا بت الناس… ليه كده؟
شهقت بفزع، وساقيها لم تعودا تطيقان حملها، فكادت تهوي، قبض على خصرها وشدد عليها حتي سمع أنين عظامها … فقبضت على عنقه كالغريق وهو حبل نجاته الأخير. التصقت به حتى بللت دموعها عنقه، وغمغمت بنشيج مقهور: أنا… بدي أروح.
نظر إليها فارس بعينين تضطربان بين نقيضين قسوة الغضب الذي لم يخمد بعد، وحنان جارف يهدده بالانكسار…
مرر كفيه المرتعشتين فوق خصلات شعرها المبللة بالدموع والتراب، وصوته خرج أجش، عميق، كأنه يكلم نفسه بقدر ما يكلمها: خلاص… هروحك.
وفجأة، وكأن عاطفته غلبت كل وعيه، وانحنى وحملها بين ذراعيه. شهقت مذعورة، يداها تضرب صدره بضعف، ودموعها تنهمر وهي تردد بصوت متقطع: لااا…!
تابع خطواته الثقيلة، عيناه تجولان في الغيط كذئبٍ يبحث عن مخرج آمن. وهمس وهو يضمها أكثر، كأنه يقسم قسمًا غامضًا: لازمن أشيلك… بدل ما حنش يجرصك والوص بيكي. خليني أوصلك بيت ناسك بسلام… يا حتة من النور.
ارتجفت بين يديه، وشهقت برعب أعمق، حتى أحاطت عنقه بذراعيها في استسلام مذعور، وهمسة بأنفاس متلاحقة: لاا…حنش إيه؟ وصلني… وصلني.
ابتسم فارس من جانب فمه ابتسامة متوترة، مزيجًا من غيظ لعنادها، وارتعاش لرهبتها، ولهفة لم يستطع إنكارها. شد عليها أكثر وضغطها إلى صدره، كأنه يعلن أمام نفسه قبلها أنه لا يستطيع بعد اليوم أن يتركها تسقط من بين يديه.
وأخيرًا خرج فارس من الغيط، أنفاسه متلاحقة كمن أفلت للتو من براثن الموت…
توقف برهة، عيناه تجولان حول المكان في يقظة حادة، ثم أطلق صفيرًا مميزًا اخترق السكون.
تململت حبيبة بين ذراعيه، تتشبث برعب لم يزل عالقًا في أطرافها،
ثم انزلقت من حضنه مترددة، ودموعها لم تجف بعد. رفعت عينيها المرتبكتين إليه وهمسة باضطراب خافت:
شكرًا.
رمقها بدهشة عبثية، وانعقد حاجبه بسخرية عاتبة، وجاء صوته خافتًا لكنه ملتهب: إنتي… هتجولي شكرًا؟
ارتبكت أكثر، ونظراتها تتشبث بوجهه المرهق والمشحون، وتمتمت بتوتر صادق: أيوه… مش إنت لحجتني؟! كان زماني عشوة الديب دلوق.
اقترب منها خطوة، عيناه تلتهمان ملامحها كجمر يوشك أن ينفجر، وهمس بصوت عميق، حارق: والروح… ديتها شكرًا بردك؟
ارتجفت، وتراجعت خطوة صغيرة، تضع حاجزًا واهيًا بينهما، وهمسة مرتبكة: أومال… ديتها إيه؟
اقترب أكثر، حتى صار يتنفس أنفاسها، اختلط أنفاسه الحارة المضطربة بأنفاسها المذعورة، وخرج صوته خافتًا كزفرة مبحوحة: الروح… بالروح.
قطبت حاجبيها بدهشة، كأنها لم تستوعب المعنى بعد، وردت بصوت مرتجف: كيف يعني؟
قبض على ذراعيها فجأة، وجذبها إلى صدره كمن يخشى أن تفلت للأبد، وغاصت عيناه في عينيها كدوامة لا خلاص منها…
وهمس بصوت أجش يفيض بجنون مكتوم: يعني روحك دلوق… ملكي. لحجتها عشان تبجي بروحي أنا.
رفعت رأسها بتردد، وارتعشت عيناها وهي تغوص في بحر عينيه الملتهبتين…. للحظة بدت الدنيا حولهما كأنها اختفت، لا شيء سوى نبضات قلبين يطرقان بعنف واحد، وأنفاس تختلط حتى تذيب الفواصل بينهما.
لكن اللحظة لم تدم… فاقا من تلك الدوامة حين اقترب الفرس بخطوات قوية، صهيله اخترق الصمت. شهقت حبيبة بذعر، دفعت صدر فارس بكل قوتها المرتبكة، وغمغمت بعجالة مرتعشة: أنا… هروح.. أوع ..بعد عني!
شهقت حبيبة بفزع مكتوم، حين أحاط فارس خصرها بقبضة حديدية، سحبها إليه في حركة مباغتة،
قبل أن يرفعها بين ذراعيه كأنها لا تزن شيئًا، ويضعها على ظهر الفرس….
في لحظة خاطفة، صعد خلفها، جسده التصق بجسدها التصاقًا جعل أنفاسها تتبعثر في صدرها،
قبض على السرج بيد، ولكز الفرس بخفة واثقة، فانطلق بخطوات محسوبة، كأن بينه وبين فارس اتفاق خفي.
ارتجفت وهي تلتفت حولها باضطراب، وهمسة بصوت مرتجف: هو ماشي على مهله كده ليه؟
ابتسم فارس ابتسامة جانبية تحمل عبثًا خطيرًا، وانحنى حتى كادت أنفاسه الحارة تحرق أذنها، وهمس بصوت عميق مبحوح: أصلك خلتيه يرمح كتير وراكي… وتعب جوي.
حدقت به بدهشة مرتبكة، وانعقد حاجبها في تحدي مرتبك، وغمغمت: يا سلام! كيف فرس هيتعب بسرعة كده من الرمح؟ أومال فرس كيف؟
تعلقت عيناه بملامحها التائهة، اشتعلت نظراته كنيران تكاد تلتهمها، وهمس بخطر يفيض رغبه: لما يرمح ورا فرسة جامحة كيفك… هيتعب اكيد…
ارتبكت، ورمشت بعينيها كأنها تحاول التمسك بآخر خيوط السيطرة على أعصابها، ثم همسة بسرعة: أنا لازمن أروح… جبل النهار ما يطلع.
بلل فارس شفتيه، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متلاحقة التصقت بظهرها، وصوته أجشّ يفيض بالحرارة: طب جوليلي بيتكم وين… وأنا هوصلك.
عضت شفتها السفلى، ارتعاشة الخجل والرهبة تتناوب على ملامحها، وهمسة بصوت مبحوح بالكاد مسموع:
انت وصلني… نچع العزيزي… وأنا هـ…
قطب فارس حاجبيه بدهشة متفجرة، صوته خرج حادا:
انتي من نچع العزيزي؟! وچيتي هنا في الوجت ديه ليه؟
رمش بعينيه، وكأن شريط الكارثة في الإسطبل اندفع إلى عقله فجأة. فقبض على ذراعها بعنف مباغت، جسده كله يضطرم بلهيبٍ داخلي، وهدر: وكتي هتعملي إيه… في الإسطبل عندينا؟
غاصت عيناه في ملامحها بنظرات نارية، يفحصها كما لو أراد أن يقتلع السر من أعماقها، وصوته جاء كالرعد: شكلك… مش حرامية.
شهقت حبيبة بفزع، وهزت رأسها نفيًا، الدموع لمعت في عينيها وغمغمت برجاء متوسل: لا… أنا مش حرامية! أنا… حبيبة العزيزي.
ارتج وجه فارس بدهشة مباغتة، رمش بعينيه مرارًا كأنه يحاول استيعاب ما سمع، ثم تمتم بصوت غارق في الذهول: اخت أمير العزيزي؟… بت عمي فوزي العزيزي؟!
نكست رأسها بخجل حارق، وارتعش كتفيها ، وهزت رأسها إيجابا في استسلام خافت، قبل أن ينساب صوتها ضعيفا بالكاد يسمع: أيوه…
ارتفع حاجبه فجأة، بمزيج من الدهشة والغضب يتلون بهما، رفع وجهها بين كفيه ، ونظر لها بنظرات ناريه تقرع فوق قلبها كما يقرع الرعد الصخر…
وهدر بصوت حاد مكتنز بالألم واللوم، لكنّ نبرته المشتعلة لم تُخفِ الارتجاف الخفيّ في أعماقه: انتي مدبوبة! كيف تطلعي من البيت في الوجت ده وتيچي الطريج دي لوحدِك؟ مفكّرتيش في جدر الخطر اللي هتچبليه؟ مخفتيش على حالك؟!”
كانت كلماته كالسياط، لكنها لم تكن موجَّهة إليها وحدها، بل لنفسه أيضا ، كان يجلد نفسه بنبرة غاضبة، يحاول أن يخفي بها اضطرابًا يتغلغل في عروقه…
عيناه كانتا كمن أُجبرتا على الخطيئة، تتنزلقان فوق جسدها دون إرادة، تتأملان تفاصيل منامتها القطنية الضيّقة التي التصقت بجلدها،
تُبرز انحناءاتها الرطبة بالعرق والخوف… يبتلع لعابه بصعوبة، يحاول أن يشيح ببصره عنها، لكن شيئًا فيها كان يشده، كأن أنوثتها قد تفجّرت أمامه بلا استئذان، بلا وعي منها ولا منه.
اشتعلت النار في عينيه، غضبًا منها ومن نفسه، وهدر بصوتٍ متقطعٍ بين الغيظ والرغبة :وكيف تطلعي كده؟ دانا هجطع رجبتك!”
ارتجفت، وانزلقت الدموع من مقلتيها، مزيج الخجل والحزن يخنق صوتها. همسة كمن تبرّر ذنبًا لم تقصده:
كت بدي أعَاوِد طوفان…”
رفعت يدها المرتعشة تحاول سحب التيشيرت للأسفل، تغطي به ساقيها، كأنها تستتر من نظراته التي كانت تمزقها ببطء…
لكن كل حركة منها كانت تزيد النار اشتعالًا في صدره، وكل التفاتةٍ خجولةٍ منها كانت تجرّه أعمق نحو الهوة التي يحاول النجاة منها.
قالت بنحيبٍ متقطع: وانا كنت لابسه چلابية أخوي طه، والنار مسكت فيها، فجلعتها ورميتها، والنار مسكت فالإسطبل من غير ما أجصد!”
خفض رأسه واقترب منها بغير وعي، يلتهمها بعينيه كمن يرى الخطر ويغوص فيه، خرج صوته خشنًا، متقطعًا كأن الكلمات تخدش حنجرته: تِعاوِدي طوفان؟… كيف يعني؟!”
شهقت بصوت حزين، وكأن الألم تكرره من حلق يكاد ينكسر: طوفان فرس أخويا طه… ومجدرتش أتحمل حد غيره ياخده.
أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما بؤبؤين مكبوتين بالغضب واليأس، وقال : طلعتي في الوجت دي تعملي كل ده؟ عجلك كان وين؟!
تنفست بغلظه وصاحت بغضب ممزوج بالخوف، وحاولت أن تقفز من فوق ظهر الفرس: ملكش صالح ..اوع
امسك بها فارس بقوةٍ،وحاوط خصرها وسحبها اليه ، وصوته صار صاعقًا يملأ الهواء: اهدِي يا مدبوبة، كفاية فرك والنعم، مكانك السراية الصفرا!
لكزته بقبضتها وشهقت بدموع، قالت بصرخة متكسرة: لا أنا مش هستنى حد! أنا هكمل وحدي، أنا وصلت خلاص، أوع!
ضمها إلى صدره، وكبل حركتها كحبل مقطوع، وهمس بصوت أجش دافئ يكاد يذوب من داخله: خلاص يا بت، خلاص يا حبيبة. أنا ادرعت عليكي بس… لو چرالك عفش، كان هيبجي حاچة توچع الكل عليكي..
ابتلعت لعابها بتوتر، وغمغمت بنحيب خافت: لأ…ملكش صالح..
مرت يده على شعرها برفق، ومسح بكفيه كما يمسح السهم مغزى الألم، وقال بحزم رقيق: خلاص، بكفيك يا حبيبة. حجك عليا.
هزت رأسها، تحاول أن تلوذ من حنانه، وهمسة متلعثمة وهي تحاول أن تبعد نفسها: خلاص… وصلنا… أوع.
حاول أن يتمسك بها مرة أخرى، لكنها انزلقت من بين يديه واندفعت نحو البوابة، فأدركها صوته الدافئ يهتف من خلفها: حبيبة!
التفتت إليه، فلوح لها بيده وقلل: نفسي أشوفك تاني.
هزت رأسها بالنفي، ركضت وأغلقت البوابة بحذر ثم ارتفعت أنفاس الفارس وفرسه يدوران ببطء حتى أضاءت إحدى غرف الدار،
لحظات وخرجت حبيبة على الشرفة…وقف فارس قليلاً، يراقبها والهوى يلهب صدره، وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه، ودق قلبه بقوة تكاد تسمع،
ثم همس في هدوء بين نفسه وبين الليل: يا تري… انتي حورية نزلت من الچنة ولا ملاك عذابي، يا حبة القلب الميت؟
ابتلعت حبيبة لعابها بصعوبة، ثم عادت إلى الداخل كمن تعود إلى سرب أصابها بخوف دفين…
انزلقت كلماتها هامسة بين نفسها، تجرعها كما تجرع دواء مرا بينما نبضات قلبها تتلقى ضربات حارقة: إيه الراچل ديه؟ ريحته ولا نظرته ولا صوته اللي مليان خشونة ورچولة… طلعلي من وين؟ بس ياربي.
رد صوت عقلها الداخلي، صوته نابه وبارد، كأنه مرآة لا تغش: انتي ادبيتي يا حبيبة، انتي عارفة لو فارس جال لي أخوكي أمير اللي طينتيه الليلة، أمير مش هيسمي عليكي.
زاغت عينان حبيبة بخوف، وخرج همسها متقطعًا: لا لا… أكيد مش هيجوله.
اقترب الصوت الداخلي من كل غضب قليلًا، لاذعًا: وانتي إيه دراكي؟ دي صاحبة من سنين!
هزت حبيبة رأسها ببطء، ونفسها يتقطع: هيبان هو… شكله كده راچل يعني… مش هيفتن عليا.
قاطعها الصوت بحدة أقوى: انتي هبلة يا بِت!
انفجرت حبيبة بغضبٍ لم تكتمه المخاوف هذه المرة، كأنها تقاوم الخوف بالدفع: إيوه هبلة؟ مالكش صالح! خليكي في حالك!
دخلت ريم الغرفه وقلبها يخفق بعنف، وعيونها تفيض دموعًا وغمغمت بلهفة وارتعاش: وه عوجتي ليه يا حبيبة؟ جلبي كان هيجف! الفرس عاود لحاله …وانا فتحت الباب ودخلته.. وكت هموت من الرعب …
تماسكت حبيبة، وقبضت علي يد ريم وكأنها تمسك بحبل نجاة، وصوتها يتكسر وهو يخرج من صدرها المكلوم: أنا كت هموت يا ريم…
اتسع صدر ريم بدهشة سريعة، ثم همسة بصوت ممزوج بالذعر: يا مري! كيف يا ملكومة؟
تجلدت حبيبة للحظة، نظرت في عيوني ريم ، ثم جذبتها إلى مقابض الكرسي وجلست بجانبها وهمسة بنبرة تضج بالأسرار: تعالي أحكيلك…
كان في الهواء ما لم يقل حكاية ليل احتدم، رائحة دخان بعيدة، ظل فرس يمر على الطرق، وقلبان لا يزالان يهتزان بعد لقاء لم يكمل.
…………….
في ثريا الأنصاري،
كان الليل قد أسدل ستائره الثقيلة على الدار، والقلق يتردد كالهسيس في الأرجاء… ما إن دلف فارس ممتطيًا فرسه حتى انطلقت إليه الأنظار المتوجسة… قفز عن ظهر الفرس بخفة مشوبة بتوتر، وصاح بصوت متعجل:
حد من الخيل چراله حاچة؟
تقدم فهمي بخطوات سريعة، وعيناه تفتشان ملامح فارس وقال بقلق: لاه، خير يا ولدي… جولي، مسكت ولد المحروج ديه؟
قطب فارس حاجبيه بدهشة بدت واضحة على قسماته، وهتف مترددا: واد المحروج مين؟
بادره سند بدهشة لم تخف عن أحد: انت مش جولت في حد في الچهة الغربية وطلعت ترمح وراه يا غالي؟
زاغت عين فارس للحظة، يحاول أن يخفي ما عجز قلبه عن كبته، ثم قال ببطء وكأنه يجر الكلمة جرا: آه… أيوه.
لم يقنع جوابه بدر، فارتفع صوته وهو يرمقه بحدة:
هو إيه اللي آه وأيوه؟ ادبيت إياك يا غالي؟
هز فارس رأسه نافيًا بسرعة، وغمغم متلعثمًا كمن يبحث عن مخرج: لا… بس أصله رمح في الغيطان وما لحجتوش… ومكنش معايا التلفون أنور الكشاف… والغيط ضلمه..
حدق بدر فيه بعدم تصديق، وغمغم وهو يضيق عينيه:
الغيط ضلمة؟ كيف يعني؟
غمزه فارس بخفة مفتعلة، فرد بدر وهو يلوح بيده كأنه يسلم بالأمر على مضض: آه، صوح… ضلمة جوي. وكمان الديابة كتير، تلجيهم في الغيطان دلوق.
أومأ سند مهدئا الموقف، وقال بلهجة تحمل الحسم: خلاص يا أخوي، حصل خير… والخيل زين… والمهم إنك زين يا غالي.
وتدخل فهمي وهو يلوح بيده نحو الداخل: اطلعوا انعسوا… النهار هيشج نوره. اطلعوا يا ولد. وأنا وسند هنستنى الرچالة يخلصوا الاسطبل.
فانفرط التوتر قليلًا، لكن ظلت نظرات فارس معلقة في الفراغ، كأن شيئًا آخر يختبئ خلف صمته.
صعد فارس الدرج بخطوات متثاقلة، وبدر يلحق به كظل لصيق. لكزه بدر بخفة تحمل قلق مكتوم وهمس وهو يقطب: معدتش عليا… خلي في علمك.
أومأ فارس برأسه، وعيناه غارقتان في صمت غامض، وقال بصوت منخفض:اخرس.. هحكيلك بعدين يا حزين.
ما إن بلغوا بهو الطابق العلوي حتى هرعت وهيبة وفاطمة لاست
وهيبة أولًا، وضمت فارس إلى صدرها بذراعين مرتعشتين، ودموعها تهدر وهي تغمغم بصوت مبحوح:درعتني عليك يا غالي.
مدت فاطمة يدها وربتت على ظهره بحنان عميق، وهتفت بعاطفة مضطربة: انت زين يا ولدي؟!
أومأ فارس برأسه مطمئنًا، وعيناه تتنقلان بين وجوههن بصفاء متكلف، وقال مبتسمًا بخفوت: أنا زي الفل.
تقدمت نغم، لم تحتمل صلابتها المزيفة أكثر، فاندفعت إليه تحتضن ذراعه، ودموعها تتساقط بغزارة، وهمسة بصوت مرتجف: ادرعنا عليك يا أخوي.
ربت فارس على رأسها بحنان يغلفه الأسى، وغمغم بصوت خافت دافئ: خلاص يا بت… أنا زين، يا جلبي.
في تلك اللحظة، التفت بدر ناحية ليله، يبحث في عينيها عن كلمة تنقذ قلبه ، عن طمأنينة تداوي قلقه، لكن ليله نكست رأسها بحزن صامت، وكأن العجز أوثق لسانها.
ربتت وهيبة على كتف فارس مرة أخرى، وكأنها لا تطيق أن تتركه، ثم هتفت بحزم دافئ: تعال يا غالي… اتسبح، وغير خلجاتك المعفرين تراب.
أومأ فارس برأسه مطيعًا، وتحرك معهم نحو الداخل، والظل الثقيل للغيط والليل ما زال يسكن عينيه.
اقترب بدر من ليلة، عينيه تحترقان بحزن يوجع ولهفة تكاد تخنق صدره….
شهقت ليلة فجأة، وركضت بخطوات سريعة تبتعد نحو الدرج، وصعدته كأنها تفر من الشيطان نفسه …
لحق بها بدر وهمس بصوت متهدج بالحزن:ليله استني هتحدتت معاكي كلمتين بس”
هزت رأسها بالنفي، وغمغمت والدموع ترق على خديها وهي تركض:لا بعد عني بدل ما اصوت والم عليك الخلج”
تبعها بدر بخطوات سريعة وكأن كل خطوة تمزق أمله، وغمغم بصوت مخنوق:يابت والله هطمن عليكي بس اصبري”
اندفعت ليلة داخل الغرفة وكأنها تختبئ في طيات جدرانها من ذلك الذي كان في يوم حبيبها وملاذها…
طرق بدر على الباب، ونبرة صوته امتزجت بالرجفة والرجاء:ليله افتح الباب افتحي يا جلبي والله مهجرب منيكي أنا بس بدي اطمن جلبي المخلوع عليكي يا حبيبتي”
وضعت ليلة يدها على فمها محاولة أن تكبح شهقتها، لكن خانتها الشهقه التي تختلج في صدرها ودموعها لم تهدأ؛
كسيل يتدفق من عينيها. أغلق بدر عينيه بشدة من الألم، وتمتم بصوت مبحوح موجوع:طب بكفايكي …
ورحمه حمزه يا ليله ما كت في وعي.. انتي متاكده أنا أموت ولا اهمل الهواء يمس شعره منك يا جلبي”
مسحت ليله دموعها التي لا تتوقف، ونحيبها يتصاعد بلا هوادة… وضع بدر كفه على الخشب البارد للباب، وانزلقت دموعه بقهر صامت وهو يستمع إلى نحيبها الداخلي،
كأن دموعها تحرق قلبه من الداخل… همس مكسورًا:
خلاص يا روحي لو بدك امشي بطلي بكي عشان امشي… ماهو طول ما هتبكي كده أنا مش هتعتع من مكاني…
أن شاء الله اموت وانا وجف مستنيكي تحني عليا يا ليل البدر!
حاولت ليلة كتم نحيبها بصعوبة، فشدت أنفاسها بيد ترتعش، ونهضت مسرعة واتجهت إلى المرحاض
ثم أغلقته وراءها….
وضع بدر أذنه على الباب؛ لم يجد سوى صمت ثقيل يرد عليه من الداخل… هز رأسه بمرارة، ومسح دموعه بباطن كفه،
ثم تحرك إلى الأسفل بخطوات مهزوزة منهكة، كأن البيت كله قد اختزل أمله في تلك اللحظة وانطفأ.
……
في غرفه فارس …
خرج فارس من المرحاض يلف منشفة حول خصره، والبلل يلتصق بخصلات شعره التي كان يمسحها باليد الثانية….
توقف للحظةٍ، كأن شيئًا استدعاه إلى المرآة، ونظر الي جرح على يده من خدش الذئب….
عاد بخطوات بطيئة إلى المرحاض ، وفتح خزانة الأدوية، أخرج علبة الإسعافات الأولية، ثم حقنة معلقة تقرع في قلبه خبرًا غريبا حقنة ضد السعار. أعدها بيديه ، وحقنها في ذراعه، ثم رماها جانبًا كأنها ستلقي بثقلها عن ذاكرته.
فتح الماء وجعل يده تحت الجريان البارد ليتسرب الخدر إلى موضع الجرح، ثم أخرج عبوة المطهر وصبها بعناية على الجرح حتى يطهره…
بينما كان العمل الآلي يعيد ترتيب المكان حوله، شرد فؤاده إلى مكان آخر ، تلك العيون التي سحرته حتى النخاع…
أغلق عينيه بمرارة، وهمس بصوت خافت متحشرج موجوع: فوج يا ولد الانصاري انت عارف زين انه الجصه قفلت كده وملهاش تاني…
ولا زعلان عشان كت مفكر نفسك الواد ابو جلب ميت وچلد تخين وعمر العشج مهيخبط علي جلب ميت”
نظر إلى انعكاسه في المرآة، ورأى نفسه مكسورًا تحت وطأة المشهد، فغرغر بصوت يختنق به الحزن: هى عنيها اللي كيف الطلج الحي.. صحيت الميت.. ودبت فيها النبض ..ايه العمل دلوق يا مكسور بحزنك وجلبك الميت؟!
أعاد كل شيء إلى علبة الإسعافات كما لو كان يحاول إطباق باب على ذكرى لا تطوي، وتمتم مرة أخرى:
اعتبرها كنها حلم… حلم عمرك ما كت مستنيه… ولا كت هتحلم يتحجك… عيش مع عنيه وسحرها ووشها اللي كيف حته من النور مع حالك وأحلامك وحدك”
حدث نفسه من وراء المرآة، وكأن الكلام للمرآة عبرة تبدد عنف الذكريات، وقال بغصة:ما هو لو كت هتضر نفسك بس كت جلتك غامر بالوچع …بس هتوچعها معاك وهي مش لايج عليها الوچع !! هي كيف النور بلاش تكون انت ضلمتها … بعد عنيها وهملها لصاحب نصيبه!!
أغلق عينيه بإحباط عميق، وكأنما يريد أن يخترق عقله ليمحوها من داخله؛ أملاً أن يعود قلبه ليوجده ساكنًا، أو على الأقل ليرتاح قليلاً من وطأة الشوق والذنب.
…..
في صباح مشحون بالتوتر، اجتمع الجميع حول مائدة الإفطار في بيت دياب الأنصاري…
كان الصمت يثقل الجو، حتى كسر دياب الصمت بصوت صارم يهز أركان المكان: ادهم وين؟
رفعت هنيه عينيها، خافقة من ثقل الصباح، وهمسة بخفوت: راح بيت چده.
قطب دياب حاجبه بدهشة وغضب، وتثاءب صوته كالسيف: ليه من الصبح إكده؟
مصت هنيه شفتيها بحزن يعتصر القلب، وأضافت بصوت متلعثم: الاسطبل جادت فيه النار عشيه.
ابتسم دياب ابتسامةً تفيض تشفيًا وغضبًا في آن واحد، وقال بمرارة: وحد مات!
انتفضت هنيه بدهشة وغضب، صاحت بحدة: اباي! كنك فرحان يا حزين!
ضحك دياب بتهكم قاسي وهمس كالسوط على قلبها:
اي خساره لي فهمي وولد عاصم تفرحني.
صكت هنيه صدرها بغضب وانفعال، وهتفت: ليه الغل ديه يا راچل؟ ديه أخوك، ودول ولد أخوك!
ابتسم دياب على جانب فمه بتهكم يعتصره العناد، وهمس: مش كفايه مبعديني عنهم؟ ولا كني منيهم، كانت الدنيا هتخرب لو شاركوني في شغلهم.
رفعت هنيه حاجبها بدهشة متفجرة، وقالت بحدة: وانت متي كت هتشتغل؟ طول عمرك هتاچر أرضك وتصرف في مالها طول السنه؟ كيف العويل ؟
اشتعل الغضب في صدر دياب، قبض على طبق العسل الأسود بعنف، وضربها على وجهها بقوة جعلت الصمت يصرخ، وهدر صوته كالرعد: عويل يا واكله ناسك دانا! هجز لسانك من حلجك عشان تخرسي طوالي يا بت المركوب!
شهقت هنيه بفزع، ونهضت وقد ارتجف جسدها، وهتفت بكل قوة: منك لله! انت إكده هتكره اللي يجولك الحجيجه!
دلفت إيمان إلى الصاله، وارتعشت من المفاجأة حين وجدت والدتها وجهها ملطخًا بالعسل، كأن الشمس غرقت في وجهها قبل أوانها، وصرخت بفزع: وه يما! ليه كده؟
تراجعت هنيه بخطوات متعثرة، وصعدت الدرج، والهتاف يخرج من صدرها محملًا بالخيبة والحزن: أبوكي شوني بصحن العسل عشان هجوله حجيجته.
نظرت إيمان بدهشة، ووسط ارتباكها دلف رماح من الخارج، صوته يملأ الفضاء: أبوي! سمعت اللي چري في بيت چدي!
هز دياب رأسه، والفرح يلمع في عينيه، وهتف بصوت متوهج بالرضا: وعيت يا ولدي!
وقفت هنيه في منتصف الدرج، كأنها تصنع حاجزًا من العزم بين الماضي والحاضر، وهتفت بحزم: تعالي يا ولد أبوك! حط راسك في رأسه، ما السم واحد!
نظر لها رماح بعينين ملتهبتين، وخرج صوته كالسهم:
سم إيه يا يما؟ أنا بدي أعرف إنتي مع مين، چوزك وولدك ولا عمي فهمي وولد عمي؟
هزت هنيه رأسها بالنفي، وهمسة بحزم: أنا مع الحج يا ولدي، تلجيك مسمعتش عنيه، واصل.
تقدموا نحو الدرج بقلق، لكن هنيه صعدت بلا مبالاة، فيما اقتربت إيمان من أخيها، وغمغمت بارتباك: ايه اللي حوصل يا رماح؟
ابتسم رماح بعنفوان، وهتف بحماسة: الاسطبل أتحرج كله، والفرس اتحرج في بطنه حرج واعر ، بس لحجوه وهيجبولوا الدكتور البيطري.
شهقت إيمان بخوف، همسة: والغالي زين؟
نظر لها رماح بحدة، وهدر: وانتي مالك بالغالي يا بت؟
لكزه دياب بحنق، وهمس بمكر: ولد عمها يا رماح، من حجها تطمن عليه.
ارتجفت إيمان من الفرح، واقتربت من الطاولة، وهتفت: صوح يا أبوي، اروح أطمن على ولد عمي!
زفرا رماح بغضب، فيما هتف دياب بخبث: روحي يا بتي، بس متعوجيش!
أومات إيمان برأسها بسعادة، وركضت نحو الدرج، وهتفت: ربنا يخليك يا أبوي!
نظر رماح إلى والده بعينين يملؤهما الصرامة، وهدر: كيف ديه يا أبوي؟
رفع دياب حاجبه بخبث، وهمس بنبرة احترافية: كي الخلج يا ولدي، ولا بدك الغالي يتجوز من بره؟ كيف سند أخوه والمال والهيلمان ديه كلها تروح للأغراب؟ إحنا أولى يا ولدي.
ابتسم رماح بشر دفين، وقال: عنديك حج يا أبوي، وحتى نغم متروحش بره.
أومأ دياب برأسه بمكر، وهمس: شد حيلك ولف دماغها بكلمتين من كلامك الزين.
أومأ رماح بثقة، وقال: سهلة جوي يا بوي، اعتبرها كي الخاتم في إصبعي.
ضحك دياب بمكر، وهتف بصوت يملؤه الفخر: ولد أبوك صوح!
……
في منزل العزيزي،
جلس الجميع حول مائدة الإفطار، والهواء مشحون بأصوات التحية والضحكات الخافتة. هتفت أنعام بابتسامة دافئة: وناسك زنين يا بتي!
أومات هند برأسها، وهي ترد بلطف متأثر:يسلموا عليكي يما، زنين بحسك.
ارتشف عساف الشاي ببطء، وكأن كل رشفة تحمل له قرارًا صارمًا، وقال بحزم: اعملي حسابك، لما تحبي تروحي بيت ناسك بعد إكده، مفيش بيات، تعاودي من عشيه.
نظرت له هند بدهشة متحيرة: ليه يا عساف؟ حصل حاچه عفشه؟
هز رأسه بالنفي، وهمس ببرود مختلط بالملاطفة: لا، بس انا راچل محبش مرتي تبيت بره بيتي.
تبادلت هند النظرات مع أنعام وريم بحزن، بينما حبيبه الشاردة في ملكوتها الخاص، همسة بصوت ضعيف:
بس…
ربتت أنعام على يدها، وهمسة بحنان: اسمعي كلام چوزك يا بتي، لو مش هيحبك، مكنش يهمه وچودك من عدمه.
أومات ريم برأسها، مؤكدة:عندها حج يا هند.
أومات هند بدورها، وقالت بصوت هادئ: حاضر.
نظر عساف لهند بمحبة، ثم التفت إلى حبيبه الصامتة، وعيناه تبحثان عن إجابة: مالك يا حب، السكوت ديه وراء مصيبه؟
لم تجب حبيبه، الشاردة، فلكزتها ريم من تحت الطاولة، وهمسة لها:أخوكي هيكلمك يا مخوته.
شهقت حبيبه بخجل وارتباك، وهمسة: هاا…
نظروا إليها بدهشة، وقالت أنعام باستغراب: أباي! أول مرة أوعالك سرحانه إكده، مالك يا بتي؟
فتحت حبيبه فمها لترد، لكن جملتها قطعت بصوت أمير من عند الباب: هي حصلت ..انتي ادبيتي! ايه اللي عملتيه ديه؟!
ووووووووو
ساحره القلم ساره احمد