ناار هدنه(الفصل العشرون)

الفصل ٢٠
لو أنّ الفُراق لم يحدث،
لو أنّ القدر تمهّل قليلاً قبل أن يُسدل ستار النهاية،
لكانت خطواتنا، وإن شطّت بها الطرق، تجد دائمًا طريق العودة.
كانت الأشواق لتخطفنا فجأة، كبرقٍ يضيء ظلمة القلب بلا استئذان،
كحنينٍ غائرٍ لا يصحو إلا على رائحة قديمة،
رائحة لحظةٍ كُنّا فيها جسدين يلتفّان في صخب الزحام،
يمرّان بين الناس ولا يبصران سواهما…
كأنّ الدنيا بأسرها ضاقت، ولم تعد تتّسع إلا لظلّين يعبران الحياة معًا.
لو أنّنا لم نفترق،
كنتُ سأظل أذكر تلك اللحظة…
حين جاء الرحيل، واشتعل الأرق في عينيّ كجمرٍ لا ينطفئ.
كانت أنفاسنا تتعثّر بين الضلوع،
كأنّها لا تعرف كيف تخرج دون أن تُخلّف وراءها أنينًا لا يُشفى.
كان القلق يمزّقنا،
والصمت يُطوّقنا،
ورأيتُ عمري بين يديك رمادَ حلمٍ احترق،
وورقة ذابلة تهاوت من غصن العمر،
وريحَ صيفٍ عابسٍ لا يهبّ إلا ليجفّف ما تبقّى فينا من ندى.
تحرك سلطان إلى الخارج، يهم بفتح الباب، لكنه توقف فجأة عند سماعه صوتها الخافت المتردد، المملوء بالحزن:
سلطان… أنا حاسة إني مش هشوفك تاني.
استدار لها ببطء، كأن صوتها خنجر غرس في قلبه. أغلق الباب خلفه، ثم عاد إليها، وملامحه ترتجف من قسوة ما سمعه، وعيناه تتقلبان بين القلق والرجاء. اقترب منها، كور وجهها بين راحتيه كأنه يريد أن يخبئه من العالم، ثم هتف بصوت مبحوح: مالك يا ضي؟ حاسة بإيه؟ في حاجة بتوجعك؟
أومأت برأسها، ودموعها تنساب على وجنتيها بصمت مذبوح، ثم همسة وهي تشهق: خايفة عليك… قلبي وجعني أوي… بلاش تسافر يا سلطان، بلاش تبعد عني. أنا بحبك والله، ومش هقدر أعيش من غيرك.
أغمض عينيه بقهر، وضغط على أسنانه، ثم قال بصوت يقطر وجعًا: ورب العزة… غصب عني، لو ما سافرتش، هتحصل كارثة!
هزت رأسها بالنفي، وجسدها يرتجف من الخوف، وتمتمت: ولو سافرت… هتحصل كارثة. أنا حاسة…
تنهد بثقل، وعض على شفته بقوة حتى كاد يجرحها، ثم قال بنبرة مصرة: لا يا ضي، السفرية دي… أول خطوة، أول طوبة لازم تتهد، عشان كل حاجة تتظبط. لازم أسافر… سامحيني، وساعديني أقدر أمشي.
أومأت برأسها باستسلام، وقالت بصوت مكسور: بجد؟
أومأ بثبات، ورد بثقة حزينة: بجد… وحياة ضي عيني.
اندفعت نحوه، وألقت نفسها بين ذراعيه، تشبثت به كأنها تتعلق بطوق النجاة، وهمسة باختناق: اوعدني ترجعلي… وتخلي بالك من نفسك.
ضمها بقوة، كأنه يزرعها في صدره، ثم غمغم بصوت مخنوق: أوعدك… وانتي كمان خلي بالك من نفسك، عشان خاطري.
تراجعت قليلًا، ومسحت دموعها بطرف بظهر يدها ثم همسة بصوت خافت: ممكن أطلب منك طلب؟
أومأ برأسه، ورد مبتسمًا رغم ألمه: شاوري يا جناب الحلو.
ابتسمت بخفوت، وقالت بتردد: ممكن أخرج شوية؟ عايزة أحتفل بالنجاح مع صحابي… كلهم اتفقوا يتقابلوا.
تردد لحظة، وكأن شيئًا يغرز في قلبه، ثم غمغم: لازم يعني يا ضي؟
اقتربت منه، وضعت يدها على صدره، ونظرت له برجاء:
عشان خاطري… كل أصحابي خارجين.
أومأ أخيرًا، وضمها إلى صدره، شد عليها، وهمس بتحذير:
ماشي… بس المرة دي وبس، وكمان الرجالة هيكونوا معاكي.
تراجعت قليلًا، وهتفت معترضة: هتفسح إزاي وسط حراسة يا سلطان؟
مط شفتيه بضيق، وقال بصرامة: ده اللي عندي… يا كده، يا تستنيني لما أرجع ونسافر سوا.
أومأت برأسها على مضض، وتمتمت: خلاص… حراسة حراسة.
اقترب منها، جذبها إليه، طبع على شفتيها قبلة عميقة، عنيفة، وهمس وهو ينهار فيها: هتوحشيني أوي.
أغمضت عينيها، وردت بصوت متقطع: هتوحشني… أوي أوي.
قبل جبهتها وتحرك الي الخارج وأغلق الباب خلفه ووقفت ضي خلف الباب وغمغمت بدموع: ربنا يرجعك لي بالسلامه يارب
……………………………………
مساء في شقة عاشور الهواري
كانت الجلسة تعج بالأنفاس، لكن قلب ضي كان في مكان آخر…
جلست على الأريكة متكئة إلى الوراء، وذقنها مستند إلى راحتها كأنها تحمل عبئا لا يرى.
جلست حياه بجوارها ، تراقب شرودها منذ لحظة دخولها، ثم مالت نحوها وهمسة بابتسامة خفيفة:
هاااا، روحتي فين يا ضيو؟
رفعت ضي عينيها نحوها، ونفضت شرودها بهزة رأس صغيرة، وردت بنبرة واهنة:والله ما أعرف… أنا في حتة تانية خالص.
نظرت لها حياة بدهشة، وقالت بنبرة مشوبة بالقلق:
انتي واحدة ناجحة، جايبه خمس وتسعين في المية في الثانوية العامة! المفروض تكوني طايرة من الفرح يا ضي… مالك عاملة كده ليه؟
غيم الحزن في عينيها فجأة، وتمتمت بهمسة أقرب للأنين:كنت فرحانة… والله كنت طايرة لحد ما سلطان سافر…
قبل أن تعلق حياة، اقتربت عايدة وجلست بجوارهما، وربتت على يد ضي بحنان أمومي صادق، وهمسة:
ربنا يرجعه بالسلامة، ويخليكم لبعض يا بنتي… بس سلطان بيسافر كتير، ولو فضلتي حزينة بالشكل ده، هتتعبي. اهدي كده… وحاولي تتأقلمي مع ظروف جوزك، يا حبيبتي.
زفرت ضي بحنق مكتوم، وغمغمت بنبرة فيها من العجز بقدر ما فيها من الحب : بحاول يا طنط… والله بحاول.
فتح الباب، ودوى صوت جنات وهي تدخل مع بناتها بضحكة دافئة : مساء الخيرر!
قامت عايدة ترحب، وضمت جنة وجودي لأحضانها بشوق، وهتفت بسعادة:اهلا اهلا بالحبايب…
اقتربت جنات وقبلت رأس عايدة بوقار ومحبة، ثم سلمت على ضي وحياة بحرارة، وجلست وقالت بابتسامة: أمال فين بطه؟
ردت حياة ضاحكة: نايمة يا قلبي.
قطبت جنات حاجبيها بدهشة: نايمة؟ دلوقتي؟
أشارت عايدة برفق: متقلقيش… بعد الغدا دماغها تقلت، ودخلت تريح شوية.
أومأت جنات برأسها وقالت: طيب الحمد لله.
ثم التفتت عايدة نحو حياة بنبرة مرحة: قومي يا حياة، اعملي عصير من اختراعاتك الجامدة كده!
ضحكت حياة، وغمزت بخفة: من عينيا يا دودو!
نهضت حياة لتعد العصير، كانت الجلسة تمتلئ بأصوات البنات وضحكاتهم، لكن الحزن كان له زاوية خاصة في عين جنات.
فاستغلت عايدة اللحظة، واقتربت من جنات، ثم رفعت وجهها بكفيها، وحدقت في ملامحها بنظرة أم تعرف ما يخفى، ولم تسأل كثيرًا، فقط همسة: مالك يا بِت؟ عنيكي حمرا… ودبلانة! ياسر زعلك تاني؟
هزت جنات رأسها نفيا، لكنها لم تستطع حبس دموعها التي سكنت طرف الجفن، وتمتمت بصوت مختنق:
لا يا أما… ولا زعلاني، ولا حاسس بيا أصلًا.
نظرت لها عايدة بعمق، وقبل أن تتكلم، قطبت ضي حاجبيها بدهشة وقالت : إزاي يعني؟! دانتي زي القمر، وواخدة بالك من نفسك ومن بناته كويس أوي… هو ماله؟ عايز إيه تاني؟
ابتسمت عايدة ابتسامة صغيرة، مليئة بالحنو والفهم، ثم قالت: عايز يشوف قدامه ست… مش تابعة. مش ظل. مش صدى صوت.
قطبت جنات حاجبيها، وبدت الحيرة على ملامحها:
أنا مش فاهمة حاجة…
ربتت عايدة على يدها بلطف، وقالت:حبيبتي… الراجل مش بيحب الست اللي مدلوقة عليه، ولا اللي كل حاجة فيها واضحة وسهل يقرأها. كل ما تكوني غامضة، تشديه أكتر. وكفاية نظرة واحدة.
نهضت جنات وجذبت مقعدها لتقترب أكثر من عايدة، بينما اقتربت ضي أيضًا، وجلست بينهن، وهمسة ضي بنبرة فضول: يعني إيه يا دودو؟ فسريلي…أنا مش فاهمه حاجه خالص ..
أومأت جنات بتأييد: والنعمه وانا فسري يا اما … أنا والله مش فاهمة حاجة.
ضحكت عايدة، ثم استرسلت بصوت هادئ كأنها تحكي حكاية قديمة: بصي انتي وهي… الراجل بطبعه بيحب الست الصعبة، اللي يعافر عشان حتى يتكلم معاها، بس في نفس الوقت، لازم تكون ناصحة. اوعي تعامليه ببرود يخليه يحس إنها بتتعمد تبعد عنه. لأ… تقربي، بس عنيكي تقول له إنك بعيدة. خليه يدوخ عشان يفهم إيه اللي اتغير… من غير ما يقدر يمسكه بإيده.
مررت يدها على خد جنات بلطف وهمسة:خليه يبصلك، يحس إنك متغيرة، بس مش عارف في إيه. من غير تكشيرة، ومن غير كلمة وحشة. بس حيرة… والحيرة دي كفيلة تخليه يرجعلك تاني، يفكر، ويتعلق من جديد.
ضحكت جنات بمرح، وقالت: وياسر هيفهم ده؟
ضحكت عايدة وقالت: حتى لو مفهمش… هيحس.
ضحكت ضي وقالت بمزاح: انتي متخيلة يا جنات لو عرفتي تطبقي اللي طنط قالته، جوزك هيلف حوالين نفسه ليل ونهار!
ضحكت جنات بصوت خافت وهي تتخيل رد فعل ياسر، ثم هتفت بفرحة خبيثة:الله… أنا لازم أعرف، كفاية إنه يرجع ينشغل بيا من تاني.
رفعت عايده سبابتها، وأكملت: تاني حاجة… لازم تقللي اهتمامك بيه شوية، وتعامليه عادي، عادي جدًا. مش أهم من أي حاجة تانية في يومك.
أومأت جنات بخضوع وقالت: ماشي…
ربتت عايدة على يدها وأكملت: بس أهو هفكرك تاني… من غير تكشيرة، ومن غير زعل. خليه يحتار فيكي.
هزت جنات رأسها بإيجاب، وكأنها تسجل كل كلمة، فقالت عايدة:وآخر حاجة… لازم تشغلي نفسك بأي حاجة. لازم يحس إن ليكي حياة بعيدة عنه، وإنه مش محور يومك.
رفعت جنات منكبيها بجهل، وغمغمت: أشتغل إيه؟! هو عمره ما وافق أني أنزل شغل.
قالت ضي بحماس: شغل من البيت يا جنات! انتي خريجة إيه؟
ضحكت جنات بتهكم وقالت: تجارة إنجليزي… يا ختي!
ضحكت ضي وقالت: وزعلانه ليه؟ دي كلية الشعب، نص مصر خارجين تجارة!
ضحكت جنات وأومأت برأسها: عندك حق والله…
ربتت ضي على يدها وقالت:أنا هكلم أي حد من أصحاب بابا الله يرحمه… لو حد محتاج مترجمة أونلاين. إيه رأيك؟
هتفت جنات بفرحة: ياريت! طالما من البيت… تمام اووي ..
نظرت عايده لها ثم أضافت بنبرة أهدأ، وهي تنظر في عينيها: وبصي كمان يا جنات… الراجل بيرتاح للست اللي بتديله إحساس بقيمته، بس من غير ما تنسى قيمتها هي كمان… تعملي له حساب؟ آه. بس ما تهمليش نفسك، ولا تبقي ظل حد… خليكي دايمًا قده، بس واقفة على رجلك.
ضحكت ضي وقالت: يعني نغذي قلبه… ونغذي روحنا كمان؟
أومأت عايدة وقالت: بالظبط كده، حب النفس مش أنانية… ده ساعات أمان.
مررت عايدة يدها على شعرها بحنان وقالت: امشي على الخطوات اللي قلتها… وهتدعيلي.
ضمتها جنات بقوة وقالت من قلبها: ربنا يخليكي ليا… يا قلبي!
ربتت عايدة على ظهرها بحنان: ويخليكي ليا يا بت قلبي… ويحلي أيامك، ويهدي سرك، ويطمن قلبي عليكي يا بنتي.
عادت حياة إلى الغرفة، تحمل صينية تتمايل فوقها أكواب العصير المثلج، وابتسامتها تسبق خطاها وهتفت بمرح :
كل الفاكهة اللي لقيتها في التلاجة حطيتها! اجدعها من فرغلي والله!
انفجرت ضحكة عايدة الحنونة، ثم هتفت وهي تأخذ كوبها: تسلّمي يا حيات بيت الهواري… حبيبتي!
تناول الجميع أكواب العصير، وأخذوا يرتشفونه بنهم، فتسللت النكهة الباردة إلى قلوبهم قبل أفواههم.
قالت ضي، وهي تهز كتفيها بانبساط: ممم! طعمه حكاية!»
صاحت حياة فجأة، وهي تتمايل بجسدها بدلال: أنا عايزة أتفسّح! أنا بني آدمه ناجحة وعايزة مكافأة!
ربتت ضي على منكبه وقالت: تعالي معايا، أنا خارجة مع صحابي بكرة… وسلطان وافق كمان!
شهقت حياة بدهشة مصطنعة، وهتفت بمرح: بجــد؟! وافق إزاي ده؟! دي معجزة والله!
ضحكت عايدة، وغمزت لها قائلة: وافق عشان ينول الرضا… صح يا ضي؟
احمر وجه ضي على الفور، وخفضت عينيها بخجل وهمسة: يعني… مش أوي كده.
قهقهت جنات وقالت بمشاكسة: لا لا… دي فيها أوي، وفيها أويين كمان!»
ضحك الجميع، وغمرت الغرفة موجة من الفرح اللطيف، وتبادلت العيون نظرات المحبة والونس.
ربتت عايدة على كتف ضي، ونظرت إليهن جميعا بعين الأم التي تحب لهن السعادة، ثم قالت بصوت دافئ ملآن بالدعاء: ربنا يهديكم لبعض، ويحببكم في بعض، ويكتبلكم الخير مع اللي قلوبكم بتحبهم… يا ولاد قلبي.
سادت لحظة صمت حنون، كأن القلوب انحنت للدعاء شاكرة، ثم تلاحقت الضحكات من جديد، وعاد الأنس يرفرف فوق رؤوس البنات.
………………………………………
صباحا في فيلا عز الهواري
كان الضوء يتسلل عبر الستائر الشفافة كخيط حرير، ينساب على أطراف الفراش بكسل، يوقظ الأشياء قبل البشر.
في تلك اللحظة، لم يكن في الغرفة سوى أنفاسهما المتناغمة، وصمت دافئ يشبه دعاء لم ينطق بعد.
فتحت عليا عينيها ببطء، كمن خرج من حلم جميل لا تريده أن ينتهي .. استغرقها السكون…دفء الغطاء…
وثقل ذراعه الملتف حولها كأمان استقر أخيرًا فوق صدرها.
أدارت رأسها برفق، فرأته نائمًا…مغمض العينين، يتنفس بعمق، وملامحه ساكنة كطفل لا يعرف الهم.
لم تستطع أن تمنع نفسها من التحديق فيه…
كأنها تراه لأول مرة…مرت أصابعها على وجنته بحذر، ثم همست بخفوت: صباح الخير… يا عز.
فتح عينيه ببطء، كأن صوته عرف طريقه قبل الحواس، فابتسم ابتسامة خفيفة، وقال بنعاس دافي: صباحك أجمل… يا ست الحسن كله.
ابتسمت بخجل، وغمغمت وهي تدفن وجهها في الوسادة:
بلاش تقول كده… بتكسفني.
ضحك بخفة، وقرب منها وهو يقول: طب أقول إيه يعني؟… دي أقل حاجه تتقال على واحدة زيك…
ثم اقترب أكثر، وطبع قبلة دافئة على وجنتها، وتمتم:
مبسوطة؟
سكتت لحظة، ثم أومأت برأسها، وهمسة بصوت مبحوح: أوي… حسيت إني عايشة بجد… يمكن لأول مرة.
أخذ نفسا عميقا، ثم نظر في عينيها مباشرة وقال: أنا اللي حسيت… إن البيت بقى بيت، وإن حضني ليه معنى، وإنك خلاص… بقيتي ليا بجد.
سكتت، لكن ملامحها كانت تقول الكثير.
كان في عينيها شيء جديد… شيء ما بين الفخر والخجل، ما بين الرضا والاكتشاف.
ثم قالت بصوت خافت: أنا متلخبطة… مش قادرة أوصف أنا حاسه بإيه… مكسوفه اول مره انام طول الليل في حضنك من غير هدوم بس قلبي بيرقص… وبيرتعش في نفس الوقت.
مرر يده علي جسدها العاري وضحك بعبث وقال:
أهو ده اسمه الحب يا هبلة…أنا بقيت حافظ ملامحك…
بس النهارده شايفك كأنك أول مرة… شايف حاجات مكنتش باخد بالي منها.
رفعت حاجبها بدهشة خفيفة وقالت بخجل طفولي:
يعني شكلي حلو كده وانا نايمه ؟
قال وهو يمرر إصبعه على علي وجنتها : إنتي حلوة في كل حال…وإحساسك بين إيديا كان أجمل من أي حاجة…
كنت زي وردة لسه بتتفتح.
شعرت برعشة خفيفة، ونظرت إليه وهمسة بتردد: كنت كويسة؟
نظر لها بعمق، وقبل جبهتها وقال : إنتي كنتي تجنني… مش عشان اللي حصل… لأ، عشانك إنتي… عشان قلبي كان حاسس بقلبك…وعشان كنتي معايا بكل حته فيكي … وده أحلى من أي حاجة.
اغرقت عيناها بالدموع، ودفنت وجهها في صدره، وهمسة : كنت فاكرة إني مكسورة…بس حضنك صلح حاجات كتير جوايا.
ضمها بقوة، كأنه يريد أن يخفيها عن العالم، وقال بصوت خافت وهو يربت على ظهرها: وكل يوم جاى، هصلح اللي فات…مش علشانك بس، علشاني كمان…أنا لقيتني فيكي يا عليا.
ابتسمت، ونبض قلبها بإحساس جديد لم تعهده من قبل.
لفت مفرش السرير حول جسدها ونهضت من الفراش ببطء، ووقفت أمام المرآة، تنظر إلى انعكاسها كأنها ترى امرأة أخرى…
امرأة تعرف الآن أنوثتها، وتؤمن أن جسدها ليس عبئا، بل هبة…وأنها، لأول مرة، تحب نفسها.
………………………………
في الحاره
دلفت نوسة إلى المحل بخطوات متثاقلة، عينيها تخفيان ثقلا غريبا تسلل إلى قلبها دون استئذان، كأنه زائر غير مرحب به، يجعلها تتجنب كل نظرة، خاصة تلك التي تلاحقها من علي، الذي يتربص بها بابتسامة ساخرة تعكس تسلية واضحة في عينيه.
اقترب منها ببطء، سند كفيه على سطح المكتب بخفة غير مبالية، وقال بصوت هادئ لكنه ملؤه المزاح: صباح الخير يا نونو.
غمضت عينيها متحكمة في غضبها المتصاعد، هامسة:
اللهم طولك يا روح… وبعدين إنت ليه بتحب تعصبني كده يا جدع انت ؟
ابتسم علي بعبث، وصوته يمتلئ بعبث ساخر:لما بتبقي متعصبة، بتبقي أبهى وأحلى… خدودك بتتحمر، وشفايفك بتترعش، وعيونك بتلمع.
حاولت نوسة تجاهل إيقاع قلبها المتسارع، أغمضت عينيها بتعبير حاد وغمغمت: يا نهار أسود، أنا بغيب ولا إيه؟ فوقي يا بت عم سعيد، يخربيتك.
اقترب منها قليلاً، ونظراته تتفحصها كما لو كانت لغز مستفز، وقال مازحا: هو عم سعيد فين دلوقتي؟
نظرت له باستفهام، وبقيت كأنها تزن كلماته بحذر:
ليه؟
مرر إصبعه على يدها بلطف غير متوقع، وقال بهدوء:
عايز أقول له إن بنتك كبرت وبقت عروسة، ما ينقصهاش غير العريس يا عم سعيد.
شعرت نوسة بلسعة في قلبها، بللت شفتيها بتوتر وانتابها هروب سريع وهبت واقفه وهتفت : ولا يا سلامة، أنا رايحة الورشة يلا.
فجأة دخل سلامة إلى المحل، وصوته الممزوج بالدهشة:
رايحه ليه الورشة يا ست نوسة؟ إحنا مش لينا شغل هناك!
نظرت له بدهشة واضحة، كأن كلامه يتعارض مع كل ما يعتمل بداخلها، وغمغمت بنفور:يعني لازم يكون عندنا شغل عشان نروح الورشة؟
نظرات سلامة أصبحت أكثر دهشة وهو يقول:أمال إيه؟ هنروح وخلاص؟
كتم علي ضحكته بصعوبة، واقترب منها بحذر وهمس :
اقعدي يا نوسة، ارتاحي شوية، الجو حر والدماغ ساعات بتسخن.
أومأت برأسها وهي تستسلم قليلاً للراحة، وقالت بصوت منخفض: أيوه، شكل كده. أنا دماغي ساحت !!
اقترب سلامة منها بقلق، وصوت تعبيره يحمل مشاعر حقيقية : إنتي كويسة يا ست البنات ؟ اروح اجيبلك دكتور؟
صاحت بنفاد صبر وعيونها تلمع بعناد: دكتور ليه؟ أنا كويسة. سبوني في حالي!
خرج سلامة بهدوء، بينما استدار علي إلى مكانه، وقال بنبرة مخيفة: عارفة إن الكبت ده غلط على عقلك، هتتجنني.
نظرت له بحدة، ضربت المكتب بيدها وقالت بغضبٍ واضح:أنا أصلاً مجنونة، ابعد عني بدل ما أطلع جناني عليك.
تبادل معها علي النظرات، وقال بهدوء: شوفتي الشغل الجديد.
نظرت له بدهشة شديدة، وكأنها تستوعب الأمر بصعوبة:
شغل إيه؟ إنت لسه بعقلك يا عم انت ؟
أومأ برأسه وقال:الشغل جوه الخزنة، ادخلي وشوفي بنفسك، لو في حاجة عايزة ترجعيها للورشة طلعيها!!
بلعت لعابها وهي تحاول تهدئة نفسها، وقالت بحزم:أنا هدخل ماشي بس لو رجلك عتبت جوه لحد ما أطلع، هكسرهلك… وممكن أكسر رقبتك كمان. ها فكل عيش فهمني طبعا ..
ابتسم علي بابتسامة هادئة، وقال:ما تخفيش. ادخلي.
تقدمت نحو الغرفة وغمغمت بنزق : أنا مبخفش !!
ضحك علي بمرح، وقال: عارف يا قلبي!
ذمت شفتيه بنزق وزفرت ودخلت الغرفة، فتحت الباب ببطء، وحاولت فتح الخزنة، لكنها تجمدت في مكانها، حين جاء صوت علي من خلفها، ثقيل وكأنه يحاصرها:
هتفتحي الخزنة إزاي؟
التفتت له بحدة، وقالت بصوت مرتفع:وإنت مالك؟ هفتحها زي ما أفتحها.
رفع مفاتيح الخزنة بيد ثابتة، وهمس في أذنها:المفتاح.
أغمضت عينيها بارتباك، وشعرت بغثيان خفيف، وقالت بتردد:يا نهار أسود، شكلي هتجنن.
اقترب منها، أمسك يدها، ووضع المفتاح في قبضتها، وقال بحزم: تعالي، الحقك قبل ما تتجنني رسمي.
نظرت له بدهشة، حاولت سحب يدها، وهمسة بخوف:
تلحقني من إيه؟ سيب إيدي، حد يدخل.
هز رأسه بتحد، وهمس: لا. أنا عايز أقبلك بره المحل. عايز أتكلم معاكي.
شهقت، وهزت رأسها بالنفي، وصاحت بغضب مكتوم: ده لما تشوف حلمة ودنك، إنت ناسي آخر مرة لما بو…
شهقت بذهول ، عندما أدركت ما كادت تتفوه به
ضحك علي بمرح خبيث، اقترب منها، وحاصرها بجسده، وهمس في أذنها:أنا هستناكي أول الحارة، هم عشر دقايق. وعايزك متجيش، يا نوسة عشان ساعتها هتبقي جبتيه لنفسك ..
ثم انصرف علي، وتركت نوسة يدها على صدرها، تحاول التقاط أنفاسها المتقطعة، والقلب ينبض بعنف كأنه يحاول الهروب من صدرها.
…………………………………….
في منزل الهواري
هبطت ضي الدرج بخطى هادئة، ترتدي فستان صيفي أبيض، بأكمام طويلة، ناعم كنسمة، ينتهي عند كاحليها بانسيابية تشبه حكاية بيضاء لم تكتب بعد.
طرقت باب شقة بطة بخفة، وما إن مرت لحظات حتى فتحت حياة الباب، ترتدي فستان بلون أخضر مورق، يعكس نورا من روحها.
تبادلت الصديقتان نظرات سريعة وضحكات صافية.
قالت ضي بابتسامة محبة: قمر يا حياة.
فأجابت حياة وهي تضحك: أهو انتي القمر، مالكيش حل.
تداخل صوت عايدة من داخل الشقة، تنادي:
يا بنات ما تتأخروش!
فردت ضي بصوت مرتفع وهي تهم بالنزول: حاضر يا دودو… وأهو الحراسة مش هتسبنا نتأخر أصلاً.
قالت بطه بنبرة أم قلقة رغم الثقة: ماشي… بس خلو بالكوا من بعض برضو.
لوحت حياة بقبلة في الهواء وهي تغلق الباب، وهتفت بحماس: يلا يلا قبل ما يغيروا رأيهم يا بنتي!
ضحكت ضي، وخرجتا من بيت الهواري، لتجدا السيارتين بانتظارهما أمام البيت.
الأولى بها السائق، وخلفها جيب سوداء تحيط بها أربعة رجال طوال القامه عراض المنكب، يشبهون الحراسة الرئاسية أكثر من كونهم مرافقة خاصة.
نظرت ضي إليهم بدهشة، وهمسة وقد اتسعت عيناها:
إيه دول؟ بني آدمين؟
فأجابت حياة بضحكة مكتومة: دول ياجوج وماجوج يا حبيبتي.
كتمت ضي ضحكتها بصعوبه وصعدتا إلى السيارة، تبعتهما سيارة الحراسة التي أقلعت خلفهما كظل ثقيل لا يفارق صاحبه.
وحين وصلا إلى أول الحارة، لمحت حياة تقى واقفة بجوار أحد المحال.
فنادت على السائق: استنى يا أُسطى!
ثم فتحت الزجاج وهتفت: تقى!
اقتربت تقى، تتساءل بعينيها: رايحين فين؟
مدت حياة يدها جذلا وقالت: رايحين نتفسح… تعالي معانا!
لكن تقى هزت رأسها بأسى وردت: لا… بلاش. مش طايقة نفسي، ومش حابة أنكد عليكم الخروجة اليتيمة.
اقتربت ضي أكثر وغمغمت بصوت يحمل حنان مدهش وقالت : ليه زعلانة؟ تعالي معانا… يمكن نضحك، نفرفشك شوية. وبعدين، أنا أصلاً نفسي أتعرف عليكي أكتر.
ترددت تقى لحظة، ثم ابتسمت بخجل وأومأت برأسها، ودارت حول السيارة لتفتح الباب…
لكن يدا خشنة، قوية، سبقتها وأغلقت الباب بعنف. انفجر صوته غضبا: رايحة فين يا بت؟!
رفعت تقى عيناها التي اشتعلتا بالحنق وهتفت : راجح!
اقترب منها، كمن يحاول افتراسها في تلك الحظة وغمغم : آه… راجح! وعملك الاسود اللي هينكد عليكي عيشتك يا تقي !!
فتحت باب السيارة دون أن تنظر له، وهمسة من بين أسنانها:احلم براحتك… هي الأحلام عليها جمرك؟
ثم صعدت، وأغلقت الباب خلفها، وانطلقت السيارة من جديد.
ظل راجح واقف مكانه، يتبعها بنظرات حارقة، والشرر يتطاير من عينيه كأن الشر استيقظ فيه. زمجر بصوت مخنوق:ماشي يا تقى… لو ما ندمتك على كل عمايلك، مبقاش راجح!
ثم اندفع نحو سيارته، واستدار بعنف، ومضى غارق في دخان الغيظ المكبوت.
………………………………………….
أمام أحد المقاهي في التجمع …
توقفت السيارة السوداء أمام باب الكافيه، فنزلت ضي أولًا، وتبعتها حياة ثم تقى، وخلفهن تحرك الحراس الأربعة بخطوات صامتة، يحاصرهم السكون والالتزام.
نظرت ضي إليهم بنزق وهتفت : استنوا هنا… إحنا هنقعد في الكافيه ده.
أومأ أحد الحراس دون أن يرفع عينيه، وقال باحترام جاف: تمام يا هانم.
سحبت ضي يد حياة، وأشارت لتُقى أن تتبعها، ودلفن إلى الكافيه الذي كان هادئًا نوعا ما
بداخل المكان، جلست ثلاث فتيات ينتظرن بضحكات مكتومة.
أشارت ضي إليهن وقالت : دي منه، ودي همس، ودي ريتال.
ثم التفتت إلى الأخرى واكملت التعارف : ودي حياة، ودي تقى.
صافحن بعضهن بحرارة وجلست الفتيات في حلقة أنيقة.
قالت منه بمرح وهي تحدق في تقى: بس شكلك كده أكبر مننا شوية… صح؟
ابتسمت تقى بهدوء وقالت: فعلاً… أنا خلصت تربية السنة اللي فاتت.
رفعت همس يديها إلى السماء وهتفت بتنهيدة درامية:
ياااه… عقبالنا! إمتى نقول اتخرجنا بقى؟
ضحكت حياة بمرح وردت: لما شعرنا يبيض يا بنتي!
ضحكن جميعًا، وقالت ضي بعفوية هادئة: يا بنات… ده وقت من عمرنا، ليه عايزينه يعدي بسرعة؟
علقت ريتال بنبرة مداعبة: آه يا سلام… كلامك العميق ده، واضح إنك قريتي طول الليل وبتطلعي اللي قرأتيه علينا الصبح!
سألت تقى وقد بدا عليها الاهتمام الحقيقي: انتي بتحبي القراية يا ضي؟
أومأت ضي برأسها وقالت بابتسامة دافئة: بموت فيها… بحس إني بروح لعالم تاني، بحب ريحة الكتاب ولمسته، بحب حتى شكل الكلام.
رفعت تقى حاجبها بدهشة حقيقية: ياااه… شكلك قريتي كتير أوي.
ضحكت ضي برقة وقالت: بابا الله يرحمه كان بيعشق القراية، وحببني فيها من وأنا طفلة.
لكن ريتال قطعت اللحظة برغبة صاخبة: بقولكم إيه؟ الخروجة دي ناشفة أوي! المكان مش عاجبني.
نظرت إليها همس وسألت: هنروح فين يعني؟
ردت ريتال بحماس خافت: يا ضي، تعالي نروح النايت كلاب اللي كنا بنروحه دايمًا!
تجمدت ضي في مكانها، ونظرت إلى الحراس خارج الزجاج ثم إليهن، وهمسة بتوتر: مستحيل! الحراسة هتبلغ سلطان… وهو عمره ما هيوافق.
لكن حياة أمسكت يدها وتوسلت برقة: والنبي يا ضي… أنا عمري ما دخلت مكان زي ده. مرة واحدة بس عشان خاطري.
نظرت ضي إليها، ثم هزت رأسها بقلق:يا حياة… انتي نسيتي سلطان؟ لو عرف، ممكن يعمل فينا إيه؟
ضحكت تقى بخفوت وقالت: ينفخنا… بالراحة كده.
هزت ريتال رأسها بضيق وقالت :يا بنتي! إحنا كنا بنروحه على طول… عادي يعني، مفيهاش حاجة.
ردت ضي بنبرة متوترة أكثر: انتي متعرفيش سلطان… ده ممكن يطربقها فوق دماغي.
اقتربت همس من الطاولة، ونظرت إلى المطبخ ثم إلى الحراس خارج الباب، وهمسة
وهمسة بمكر: بقولكم إيه… الكافيه ده ليه باب من المطبخ، نخرج منه ونروح، وبعدين نرجع تاني. وكأننا كنا قاعدين هنا طول الوقت!
صفقت ريتال ومنه وتقى بحماسة طفولية، بينما قالت ضي بقلق متصاعد: يا بنات بطلوا جنان!
لكنهن نهضن جميعًا، وبدأت حياة تسحب ضي من يدها.
قومي بقى… قبل ما ياخدوا بالهم!
استسلمت ضي على مضض، ولحقت بهن، فيما غلبها إحساس غامض بالخطر….
خرجن جميعًا من الباب الخلفي، واقفنا سياره اجره
صعدن بسرعة، وانطلقت السيارة تحمل ضحكات خفيفة… نحو المجهول.
وتلك الوحوش المفترسة كانت تحدق بهن من الظلال، تتربص بهن كما لو كن فرائس تائهة، دون أن تدرك أعينهن البريئة حجم الخطر الكامن، ولا أن تدرك أرواحهن الغضة أنهن على وشك الوقوع في شراك لا ترحم.
………………………………………
في الحاره
خرجت نوسة من المحل بخطوات مرتبكة، تلتفت حولها وكأن الأرض ضاقت بها….
تسللت بخفة نحو سيارة علي المركونة عند جانب الشارع، تلك السيارة التي طالما شعرت داخلها بنوع غريب من الحماية… والاختناق في آن.
فتحت الباب بسرعة وهتفت بصوت خافت مشوب بالذعر: اطلع بسرعه!
نظر لها علي بدهشة، لكنه لم يجادل. أدار المحرك وانطلق على الفور، عينيه تنعكس فيهما ملامح وجهها الشاحب وقال : مالك؟ وشك أصفر كده ليه؟
لم تجبه… بل ضربته بالحقيبة فجأة، وكأنها تفرغ في هذا الضرب وجع سنوات. صاحت بانفعال مكتوم، تتأرجح بين الانفجار والانكسار: آه طبعا! إنت متعرفش الناس في المناطق الشعبية بيفكروا إزاي ولو شفونا مع بعض… سيرتي هتبقى لبانة في لسان اللي يسوى واللي ما يسواش!
شهقت وهي تحاول منع دموعها:أنا… أنا اللي عمري ما حد داسلي على طرف، واللي كان يحاول، كنت بدوس على زمارة رقبته! بس إنت… إنت جاي من دنيا تانية، كل حاجه فيها سهله وبسيطة، وإحنا… إحنا مش كده يا علي…
نظرت له بحدة، ثم تمتمت بتنهيدة موجعة: إنت عايز مني إيه؟ من الآخر؟
صف علي السيارة فجأة، التفت نحوها، حدق في وجهها المشحون، ثم هتف وهو يضحك بخفة: يخربيتك… انتي كام حصان؟
شهقت نوسة بعصبية وضربته على ذراعه: كام حصان يا تور! عليك ألفاظ تسد النفس! جاتك نيلة!
ضحك بمرح، ثم اقترب منها بجدية، وقد هدأ صوته فجأة كأنه يلمس وتراً حساس : نوسة… انتي ليه بتعملي في نفسك كده؟ أنا شايفها، والله شايفها.
قطبت حاجبيها بدهشة وسألت بشك : هي مين دي؟
أشار بأصابعه نحو قلبها: البنوته اللي جواكي… ليه بتخبيها ورا كل العبط ده؟
اتسعت عيناها بذهول، ثم أشاحت بوجهها إلى زجاج السيارة وهمسة: بطل فلسفه يا علي… ورحمة أبوك.
مد يده وأمسك بيدها برفق، كأنه يخشى أن يجرحها، وهمس: نوسة… أنا حاسس بيكي، وشايف فيكي اللي محدش شافه. في الأول… كنت مشدود ليكي عشان انتي مختلفة. بس دلوقتي؟ لأ. دلوقتي انتي خطفتي قلبي… مش بس عقلي.
سحبت يدها سريعًا كمن يهرب من النار، فتحت باب السيارة وهربت إلى رصيف الكوبري المقابل، ووقفت هناك، تطالع صفحة النيل، وكأنها تحاول تذكر نفسها وسط كل هذا الشتات.
لحق بها علي، وقف خلفها، وهمس بصوت متردد: بتهربي ليه يا نوسة؟ ليه مش عايزه تحبي وتتحبي… زي أي بنت في سنك؟
استدارت إليه… بعينين دامعتين، وهتفت بصوت مخنوق:
عشان مش عايزه اتاكل حاف… في الزمن ده مفيش حاجه اسمها حب. كل اللي بيقرب، بيقرب عشان حاجه، مصلحة… بعد ما أمي ماتت، عمي وولاده افتكروا إني هبقى فريسة سهلة. أبويا راجل كبير ومش هيقدر يوقفهم…
ارتعشت شفتاها وأكملت بسخرية لاذعة:كل واحد فيهم بدأ يلف عليا، كل واحد بطريقته. بس معرفوش إني ضهري فيه سلطان وعز… وقفولهم زي الشوكة في الزور. بس… أنا خدت عهد على نفسي، إني أشيل شيلتي، ومكونش حمل على كتف حد.
اقترب منها علي أكثر، رفع وجهها بكفه وقال بنبرة هادئة:
بس لازم تفرقي بين اللي بيقرب طمع في الفلوس… وبين اللي بيقرب طمع فيك… في قلبك البيور… في روحك الصافية… في جمالك اللي مش عادي.
أشار نحوها كأنه يصف لوحة أمامه: انتي زي زهرة الأوركيد… غامضة، أنيقة، وجمالك متمرد مش شبه أي بنت شفتها.
بلعت لعابها بتوتر، ارتبكت خطواتها للوراء، وهمسة بخوف طفولي:إنت… عايز إيه يا علي؟ أنا مش حمل الكلام ده… ولا متعودة عليه.
منعها من التراجع، اقترب حتى لامست أنفاسه جبينها، ثم قال بصوت عميق: أنا بحبك يا نوسة… من أول لحظة شفتك فيها، وأنا عارف إني مش هشوف زيك تاني. بحب تمردك… وبحب ضعفك اللي بتحاولي تخبيه. بحبك وعايز أكمل معاكي عمري كله.
نظرت له بذهول وهمسة بتردد:اشمعنا أنا؟ أكيد قابلت بنات أحسن مني… في كل حاجة.
هز رأسه بعزم وقال: أي بنت قبلتها كانت بتقرب من علي عثمان البدري… بس إنتي؟ إنتي الوحيدة اللي خلتيني عايز أكون علي… وبس.
اقترب منها، أمسك بكفها، وقال برقة: اروح أطلبك من عم سعيد؟
نظرت إليه بعينين لا تحملان سوى الصمت… لكنها لم تهز رأسها نفيه
كانت الموافقة في عينيها، لامعة، دافئة، حقيقية.
ابتسم علي وكأن الدنيا قد مالت له بكاملها، كأنما نال كنزا طال انتظاره. مد يده في خشوع وقبل يدها برقة، ثم جذبها نحوه برفق، يقودها إلى السيارة كما لو كان يخبئها من العالم. فتح لها الباب كأمير قديم، فجلست في صمت يحمل بين طياته توترا لا يقال. أغلق الباب بهدوء، ثم استدار وصعد إلى مقعده بجوارها.
رمقها بنظرة طويلة ثم تمتم، وصوته يكسوه التردد:
قبل ما آخد أي خطوة… عايز أسمع منك كلمة واحدة… هتفرق معايا أوي يا نوسة.
رفعت حاجبها في تحد ساخر، ونظرت إليه بنظرة مشبعة بالحنق الطفولي، ثم هتفت: اطلع يا نحنوح… ولا كلمة ولا نص!
تنهد وهز رأسه بيأس، كمن فقد الأمل في تهدئة عاصفة، وقال بلهجة متدللة: إنتي قلبتي تاني ليه؟ ما كنا حلوين… وكان ممكن نبوس… بس إنتي مش عارفة مصلحتك!
رمت عليه حقيبتها في حركة نزقة، وهتفت بحنق مصطنع:اطلع يا علي وعدي ليلتك… بدل ما أبطحك هنا!
اتسعت عيناه بدهشة مبالغ فيها، وقال ببراءة مصطنعة:يخرب بيتك… وزعلتي لما قلت كام حصان؟! ده أنا آسف للحصان نفسه!
كتمت ضحكتها، وعضت شفتها وهي تدير وجهها إلى النافذة، ثم تمتمت دون أن تنظر إليه: اطلع بقولك.
رفع حاجبه، ونظر لها بطرف عينه، كمن يرى فيها لوحة من الحنين، وتمتم: أموت فيكي وانتي بتتكسفي… يا أم العيون غزلان إنت
استدارت له بعينين نصف غاضبه ونصف عاشقه وقالت وهي تلوح له بيدها الصغيرة: بس بقى… واطلع!
أومأ برأسه وهو يقاوم ابتسامة مغلوبة على أمرها، ثم أدار المحرك وهمس بخضوع العاشق: حاضر… الله.
وانطلقت السيارة كأنما تفتح لها بوابة جديدة للعمر… بوابة لا تشبه ما قبلها، وربما لا تعود بعدها أبدًا كما كانت.
أما هي، فظلت تكتم ضحكتها، تتجنب النظر إليه، وكأن قلبها يخبئ سعادته عن عيون الدنيا كلها.
…………………………
في قلب روسيا
أرض الجليد والسكينة الخادعة،
دلف ماركوس إلى الغرفة بخطى متثاقلة، كأن ثقلاً هائلًا يشده إلى الأرض. وقف أمام المكتب بثبات مصطنع، ثم هتف بصوت مبحوح:
- Все грузы получены, сэр.
تم استلام كل الشحنات يا سيدي..
رفع سلطان نظره إليه ببطء، ونظرة ضيق تتراقص في عينيه، قبل أن يغمغم باقتضاب:
- Хорошо, Маркус.
حسنًا، ماركوس.
لكن ماركوس لم يتحرك، بل اقترب بخطوة مترددة، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والقلق، ثم قال بصوت منخفض:
- Могу ли я поговорить с вами о чем-то важном, сэр?
هل يمكنني أن أتحدث معك في أمر هام، سيدي؟
أغلق سلطان الحاسوب أمامه ببطء، وتنهد بحرارة مكتومة، ثم رد بصوت مبحوح غارق في التفكير:
- Что там?
ماذا هناك؟
جلس ماركوس على المقعد المقابل، وأطلق نظرة متفحصة صوب سيده، ثم قال بتردد:
- Я чувствую, что что-то не так. Кто-то по имени Джон в последнее время спрашивал о вас в нескольких странах.
أشعر أن هناك خطبا ما… شخص يدعى جون كاي يسأل عنك في أكثر من بلد في الآونة الأخيرة.
ارتسمت لمحة دهشة على وجه سلطان، تمتم باسمه في شرود:
- Джон Кей…
جون كاي….
مسح على لحيته ببطء وهو يحدق في الفراغ، ثم ارتفعت حاجبه وتمتم بخبث ناري:
- Джон Кей – офицер Интерпола. Вот и новости пришли.
جون كاي… أحد ضباط الإنتربول الدولي… إذا، فقد وصلت الأخبار..
اتسعت عينا ماركوس بذهول، ثم قال بصوت واهن:
- Какие новости, сэр? Я ничего не понимаю.
أخبار ماذا يا سيدي؟ أنا لا أفهم شيئًا.
ابتسم سلطان جانب فمه، تلك الابتسامة الباردة التي تخفي خلفها نيرانًا مستعرة، ثم قال بهدوء محسوب:
- Тебе не обязательно понимать, Маркус. Тебе нужно следовать моим инструкциям дословно. Я больше не хочу принимать никаких новых сделок и жду чего-то нового.
ليس ضروري أن تفهم ماركوس عليكي تنفيذ تعليماتي بالحرف الواحد لا اريد قبول أي صفقات جديده بعد الان ومستني الجديد يوصلني.
نهض ماركوس من مكانه في توتر، وتلعثم حين قال:
- Но, сэр, есть три новых клиента, которые хотят заключить сделки, и их встреча назначена на завтра.
لكن سيدي، هناك تلات عملاء جدد يريدون عقدوا صفقات، وميعادهم غدا..
تغيرت ملامح سلطان في لحظة، ونهض واقفًا بجسده الطويل ونظراته التي تشطر الهواء، ثم هدر بصوت جاف كالرصاص:
- Я не люблю повторяться, Маркус, и ты это знаешь, так что отмени все новые встречи.
أنا لا أحب أن أكرر كلامي، وانت تعلم ذلك ماركوس، إلغي كل المواعيد الجديدة فورًا..
أومأ ماركوس برأسه في خضوع، وتراجع خطوة للخلف، يبلع الغصه التي تشكلة ف حلقه بصعوبة تحت ضغط النظرات النارية من سلطان ، ثم تمتم:
- Как пожелаете, сэр.
أمرك يا سيدي.
أشار له سلطان بيده في حدة، كأنه يطرده من حضرته، فركض ماركوس كمن أفلت للتو من بين فكي الموت.
في اللحظة التالية، سحب سلطان هاتفه من جيبه ببطء، وطلب رقمًا محفوظًا في ذاكرته جيدًا. رفع الهاتف إلى أذنه، وغمغم بصوت متوتر يخفي خلفه سخرية لاذعة:
بلع الطعم… والكلاب بدأت تحوم.
صمت لحظة، ثم قال بحدة: لا… أنا جاهز، وكله على الإشارة.
سكون آخر، أعقبه صوت أكثر حسما: أنا اللي جيتلك برجلي، وطلبت مساعدتك… عشان أنا عايز كده.
ثم ضحك بصخبٍ مفاجئ، كأن النيران بداخله وجدت أخيرا ما يغذيها:ماشي يا سيدي… همشيها كده بمزاجي!
ارتفعت ضحكته أكثر، ثم أردف بوقاحة لاذعة: طيب ليه بس؟ دي قلة الأدب، ما فيش أسهل منها!
حك جانب لحيته بتفكير، قبل أن يقول بنبرة اعتذار ظاهرها الهدوء وباطنها خبث: لا، كده المشكلة من عندي… فرق التوقيت، سامحني كمان مرة.
ثم أومأ برأسه وكأنه ينهي مكالمه مصيري : تمام… أنا عارف إنك في ضهري… سلام.
أغلق سلطان الهاتف ببطء، والنار تتقد في عينيه كأنها لهب موقد لا ينطفئ.
كانت النظرة وحدها تكفي لتدرك أن ما هو آت ليس مجرد معركة،
بل زحف جحيمٍ لا يبقي ولا يذر،
حرب ستسحق كل من تسول له نفسه الاقتراب،
وتطحن تحت فكها من يجرؤ على الوقوف في طريقها.
فالآتي…
ليس صراعا.
الآتي… فناء
……………………………………
في الملهى الليلي…
كانت الأضواء تتراقص في جنون، موسيقى صاخبة تغرق الأذن وتربك القلب، والروائح الثقيلة تتصاعد من أرجاء المكان كأنها دخان فتنة لا ترى.
دلفت ضي والفتيات إلى الداخل، والتقطن أنفاسهن وسط زحام الأجساد المتلاصقة، وضجيج لا يعرف الرحمة.
جلستن على إحدى الطاولات القريبة من حلبة الرقص، وعيونهن تتقافز بين الوجوه، تارة باندهاش، وتارة بارتباك.
قالت حياه وهي تتلفت بانبهار طفولي:يا لهوي… المكان يجنن! زي اللي بيطلع في الأفلام… بالظبط!
ضحكت تقي وقالت وهي تغمغم في أذن ضي: بس دوشة أوي… والناس شكلهم مرعب…!
ضحكت منه، وأشارت إلى ضي التي بدت واجمة:
فكي بقى يا ضي! ليلة تفوت ولا حد يموت!
لكن ضي لم تبتسم، لم تعلق… فقط نظرت إلى المكان وكأنها ترى ما لا يرى.
هزّت رأسها ببطء، وقالت بصوت مبحوح:أنا… مش عارفة أنا سمعت كلامكوا ليه… حاسة إني غلطانة… مضايقة أوي… وهمشي.
نهضت فجأة، وكأن شيئًا في الأرض يناديها، ووقفت الفتيات معها في محاولة لثنيها، قالت همس باستغراب:
ف إيه يا ضي؟ إنتي اللي كنتي بتدخلي الأماكن دي وتخربيها… إيه اللي حصل؟
نظرت إليها ضي بعينين يكسوهما الظل، وقالت بصوت مضطرب:حاسه إني بعمل حاجة غلط… حاجة مش مرتاحة ليها… أنا لازم أمشي… حالًا.
وفي الخلفية…
كان الظل يتحرك.ظلال ثقيلة، خامدة، كأرواح موتى تنتظر ساعة السقوط. كأن الهواء نفسه فقد طعمه.
كأن أحدهم حبس أنفاس الليل.
نظرت ضي إلى حياه وتقي:
إنتوا هتيجوا معايا؟ ولا أكلم الحراسة واروح لوحدي ؟!
أومأت تقي سريعًا، وقالت حياه وهي تتأفف: أيوه… أيوه، هنمشي بس اهدى، يلا بينا.
لكن كلماتها لم تكمل…
فجأة… كل شيء انطفأ… الأضواء… الموسيقى… حتى نبضات القلوب شعرت وكأنها توقفت.
عامت العتمة..ظلام دامس، كأن ستارة سوداء هبطت على المدينة فجأة.
لحظة واحدة كانت كفيلة بتحويل الصخب إلى فزع.
ثم… إطلاق نار كثيف غطا المكان ..كان صوت رصاص يخترق السكون كالسيف، يتردد صداه كالرعد في جدار المكان….أصوات صراخ كانت هستيرية تشق الصمت.
انقلبت الكراسي ،وتحطمت الكؤوس ، واندفعت الاجساد، تتدافع، تصرخ، تركض، تتعثر…عويل…بكاء…
دموع تتناثر قبل أن تسيل دماء!
شهقت ضي التفتت حولها بذعر، تبحث عن مخرج، عن ضوء، عن هواء!
ارتجفت تقي ، وحياه تحاول الإمساك بيده ويد ضي وهتفت بجنون: نخرج منين؟ فين الباب؟!
لكن الظلال أصبحت حقيقة…
ورائحة البارود بدأت تزحف إلى الصدور.
كان الخطر لا يزال في أول سطره….
وووووووووووووووووووووو
متنسوش التفاعل بالفوت والكومنتات ي حلوين
ساحره القلم ساره احمد 🖋️
❤️❤️❤️❤️❤️
❤️❤️
بالتوفيق يا سوسو حبيبتي ٠❤️❤️🥰😘