ناار هدنه(الفصل الثامن)

الفصل الثامن عشر
الهوس الحقيقي؟
هو أن تُبصره في وجه كل أحد،
أن تسمع صوته في ضجيج لا يعرف الصمت،
أن تهرب من كل شيء… إليه.
هو لا يحبّها فقط…
هو يفتن بها حتى في صمتها،
يغار من نسمةٍ تلامسها،
ومن ضوءٍ يراها دون إذنه…
هو لا يطلبها، هو يملكها… بالقلب، بالعين، بالنبض.
حين يتحول العشق إلى هوس،
تغدو المحبوبة سجنًا مقدسًا،
يفرض فيه العاشق قوانينه،
ويعاقب كل فكرة تُفكر فيها خارج قلبه.
في شقة عمار البدري
كان الليل قد بدأ يمد أطرافه على المكان، حين انفتحت الباب…
دلف عمار وخلفه ايه التي شهقت وانفجرت الصدمة.وهي تري ضي ممددة على أرضية المطبخ، جسدها ساكن، وعيناها مغلقتان كأن الحياة هجرتها بلا وداع.
هرول عمار وآية كمن لسعتهما النار، وركع عمار على ركبتيه يرتجف، ويداه ترفعان جسد ضي البارد كأنما يحتضن شبحها لا جسدها.
صاح بصوت مخنوق، تنزف منه الخوف والذنب:
ضي… في إيه؟! إيه اللي حصلك يا بنتي؟!
ركعت آية بجانبه، وربتت على وجنتيها المرتجفتين، وصاحت والدموع تقطر من عينيها:ضي يا قلبي فوقي… فوقي بالله عليكي، متخضناش كده!
لكنها لم تجب…لم تتحرك.
كأنها كانت هناك… جسدًا فقط، وروحها في مكان آخر، لا أحد يعرفه.
ضمها عمار إلى صدره، ورفعها بذراعين تضربان، كمن يحمل قلبه المكسور.
هتف بصوت مبحوح: يلا… على المستشفى حالًا!
ركض نحو الباب، وفتحت آية الطريق بيد ترتجف ودموع لا ترى منها الأرض.
كان يركض على الدرج لا يرى شيئًا… سوى وجهها الشاحب، وعيناها المغلقتان كأنهما آذنتا بالرحيل.
في الطابق الثاني، انفتح باب شقة عز، وخرج هو وعليا على صوت الجلبة.
صرخت آية وهي تركض خلف عمار: بسرعه يا عمار … ضي قاطعه النفس!
صاح عز بفزع، وهو يهرول ناحيتهم: في إيه؟! مالها يا عمار؟!
رد عمار دون أن يتوقف، وصوته يلهث: معرفش… لقيناها واقعة وقاطعه النفس!
ركض عز خلفه كالسهم، وهتفت عليا بخوف:
استنى يا عز! خدني معاك!
أشار لها بيده دون أن يتوقف: لأ، خليكي… البنات نايمين، هطمنك في التليفون!
في الطابق الأرضي، أمسك عز بذراع عمار فجأة وهتف بحذر قبل أن يندفع إلى الشارع، : اصبر يا عمار! هجيب العربية… مينفعش تطلع بيها باللي بلبسها ده لو حد شافها سلطان يولع في الحارة بالي فيها !
توقف عمار، يضم جسد ضي إلى صدره كأنما يحميها من العالم بأكمله، والدموع تنساب من عينيه دون وعي.
في هذه نفس اللحظة، خرجت عايدة على صوت الهرج، وما إن وقعت عيناها على ضي وقد حملها عمار كجثة، صرخت بفزع يفطر القلب، وصكت صدرها:ياليلة سودا! مالك يا بنتي؟! حصلها إيه؟!
خرج عاشور وهتف : في ايه يا عمار ؟!
وخلف الجد مستندًا إلى عكازه، وخلفه بطة وحياة، بينما دوى صوته المشروخ : مالها يا ابني؟! دي سلطان مسافر!
هز عمار رأسه بيأس، وخرج صوته كأنما يجبر على التنفس: مش عارف يا جدي… دخلنا لقيناها على الأرض… قاطعه النفس…
صاحت بطة وهي تكتم شهقتها: اجري يا حياة، هاتي عباية لمرات أخوكي… مينفعش تطلع كده يا بنتي!
أومأت حياة برأسها وهي تبكي، وركضت للداخل كأن قدميها لا تحملانها.
اقتربت عايدة بخطوات مذعورة، وربتت على وجه ضي، وهمسة بصوت غارق في الدموع: مالك يا ضي؟! إيه اللي جرالك يا حبيبتي؟فوقي يا بنتي ده سلطان يروح فيها لو جرالك حاجه …
اقترب الجد، وجهه مشدود كمن يقاتل بين العقل والقهر، وتمتم بصرامة:رنوا على جوزها… لازم يرجع علي طول ..
أخرج عاشور هاتفه بيد مرتجفة، وطلب رقم سلطان.. بينما عادت حياة بالعِباية، وأخذتها بطة وغطت بها جسد ضي المتصلب في صمته.
في الخارج، توقفت سيارة عز أمام المدخل، واندفع عمار نحوها، يحمل ضي وكأنها كنز يوشك أن يسرق منه.
فتحت آية الباب الخلفي، وتسلمت جسد ضي إلى صدرها كأنها تحاول أن تعيد إليها الحياة بأنفاسها المرتجفة.
أغلق عمار الباب، وصعد بجوار عز ، وما إن دارت العجلات وانطلقت السيارة، حتى بقي خلفهم شارع بأكمله… واقفا، مذهولا، يختنق بالصمت والوجع.
أما هي…
فكانت لا تزال هناك، في مكانٍ بين الحياة والموت.
وفي صدر عمار وعايدة وكل من رآها…
بدأ الرعب الحقيقي.
في فناء بيت الهواري.. وبينما القلق ينهش القلوب بلا رحمة، خرج عاشور مسرعًا ، وهو يلوح بذراعه وينادي بصوت أجش شق سكون الليل: واد يا عوض! انت يا ولا!
هرول إليه عوض ورد بصوته اللاهث: أأمر يا حج عاشور، تحت أمرك!
أشار إليه بيده بعصبية، وهتف:هاتلي أي حد من السواقين بسرعه … العربيه عايزينها حالا يا ولا!
أومأ عوض إشارة سريعة على عينيه وهو يقول:
من عيني يا سيد المعلمين!
ثم انطلق يعدو، كأن الشارع كله يحترق خلفه.
خرجت عايدة من المنزل، وهي تفرك يداها بعضهما بتوتر ظاهر، وقالت بصوت متهدج: يلا يا حج… عايزين نلحقهم قلبي وكلني يا اخويا !
هز عاشور رأسه وأجابها بصبرٍ متكسر: العربية جايه يا وليّة… الصبر بس، الصبر.
خرجت بطة في تلك اللحظة، تشير بيدها نحو حياة، وقالت بصوت آمر: خليكي انتي يا بت… عشان جدك، وإحنا هنطمنكم أول ما نوصل.
لكن حياة هزت رأسها نفيا، والدموع تبلل وجنتيها، وهي تتمسك بكلماتها كأنها تتشبث بطوق نجاة:لأ يا أما… لأاااا… أنا عايزة أطمن على ضي، هموت من القلق، والنبي ما تسبوني!
في تلك اللحظة، خرج الجد الهواري بخطوات مثقلة وعصاه تطرق الأرض، اقترب منهم وهو يقول بهدوء يشي بالخوف:خدوها يا فاطمه… وأنا هستناكم على القهوة.
وفي الزاوية الأخرى من الحارة، حيث بدأ الضجيج يتصاعد، نهض علي من على كرسي المكتب على صوت الجلبة، وخرج ليرى الناس مجتمعة بوجوه مشدودة، يخيم عليها الخوف.
اقترب منهم وخاطبهم بصوت خافت:فيه إيه يا جماعة؟ حصل حاجة؟
ربت عاشور على منكبه وقال وهو يتنفس بتوتر: خيرا يا علي… بس ضي تعبت، وعمار خدها على…
لكن علي لم ينتظر أن يكمل، فقط اتسعت عيناه، وهتف بوجه مرعوب:ضي؟! مالها؟! حصلها إيه؟!
اقتربت منه عايدة، ووضعت يدها على صدره تحاول تهدئته، وقالت بحنو أم مثقلة:اهدى يا حبيبي، إن شاء الله خير… متخافش.
بينما أشارت بطه للجميع كأنها تحاول أن تسكن القلوب وقالت : استهدوا بالله… يمكن حامل ولا حاجه، أهي بنت صغيرة ولسه جسمها مش متعود.
لحظات، توقفت سيارة رمادية أمام البيت.
ترجل منها السائق الشاب، وقال بصوت عال: أنا جاهز يا معلم… تحت أمرك.
صاح عاشور دون أن يمنحه وقتا: يلا يا ابني على المستشفى… بسرعة، الله يكرمك.
هتف علي وسحب السائق من ذراعه ، وصوته يرتجف بالقلق:اوع انت.. انا هسوق!
تنحى السائق فورا، وصعد علي خلف المقود ، ثم تبعه عاشور ،وحياة ،وعايدة ،وبطة…
أغلق الباب، وانطلقت السيارة كالسهم وسط صمت مريب، لا تسمع فيه سوى دقات القلوب… وكل قلب يحمل اسمه: “ضي “
……………………………….
في المستشفى.
وصلت السيارة إلى بوابة الطوارئ كطلقة مزقت صمت الليل، وتوقفت بعنف حاد. فتح عز الباب الخلفي، وسارع عمار باحتضان جسد ضي الساكن، ثم انطلق يركض بها كأنما يحمل قلبه المنهك لا جسد شقيقته.
ركض خلفه عز وآية، وهما يصرخان بذعر: دكتور! دكتور بسرعة! الحقونااا!
اندفع أحد المسعفين بالعربة المتحركة، وما إن استقر جسد ضي فوقها حتى انطلقوا بها إلى غرفة الطوارئ. اختفوا خلف الباب الكبير، وتركوا من خلفهم قلوب ممزقة، وأرواحا متخشبة في وجع الانتظار.
تسمر عمار مكانه، يمسح على وجهه بكفيه المرتجفتين، كأنه يحاول أن يفيق من كابوس لا ينتهي. تقدمت منه آية، وربتت على صدره، وهمسة بصوت باك: اهدى يا حبيبي… إن شاء الله خير… ضي قوية، وهتعديها.
لكن عمار لم يسمعها، أو لعله لم يكن يريد أن يسمع شيئًا سوى صدى جملة واحدة ترددت في ذهنه كطعنة :اللي بيني وبين مراتي زي أي راجل ومراته… سيبها تدلع براحتها
بغتة، أخرج هاتفه، ضغط على اسم سلطان، وانتظر.
في روسيا…
كان سلطان يهبط درجات الطائرة بهدوء، يعبث بهاتفه متثاقلا. وما إن فتحه، حتى انفجر الجهاز برسائل واتصالات متلاحقة: والده ، عايدة، حياة، أخيرا… عمار.
شعر بشيء ثقيل ينغرس في صدره. تلبد الهواء حوله، وانقبض قلبه. ضغط على الشاشة، ورد: في إيه يا عمار؟
جاءه صوت عمار كصاعقة مشتعلة: قولي انت في إيه! ضي في المستشفى يا سلطان! بين الحياة والموت!
تجمد سلطان، وغابت الأرض من تحت قدميه.. وقبض على درابزين الدرج وغمغم بصوت متحشرج: أنا مش فاهم حاجة… إيه اللي حصل؟! مستشفى ليه مالها يا عمار!!
صرخ عمار بغضب مكبوت: أنا قولتلك ضي مش بحالتها قولتلك متغيره، بس انت طنشت! افتكرتها بتدلع ! بس اللي حصل مش دلع! دي وقعت يا سلطان! وقعت من الوجع اللي انت سيبتها فيه! أي حتة تكون فيها… ترجع حالا!
لم ينتظر سلطان ثانية. استدار، واقتحم الطائرة من جديد، وصرخ بالمضيفة:
— “Передайте капитану, чтобы он немедленно возвращался в Каир!”
بلغوا الكابتن إنه يرجع فورًا للقاهرة!
هزت المضيفة رأسها وأسرعت، بينما هو يضغط على الهاتف مجددا، وغمغم بشراسة: أنا جاي… حالًا.
ثم أغلق الاتصال.
……………………………………..
في المستشفى.
ركض علي وحياة في أروقة المستشفى، يبحثان عن وجه يعرفانه وسط العاصفة وصاح علي : عمارررر!
أشار عمار إليهما، فتقدم علي بخطى قلقة:مالها ضي؟! إيه اللي حصل؟!
أجاب عمار بصوت متحشرج: لسه مش عارفين حاجة… خدوها جوه، ومفيش حد طمنا.
أجهشت حياة بالبكاء: هي فين؟! عايزة أشوفها…
أشار عز إلى غرفة الطوارئ: جوا، بيكشفوا عليها.
وصل عاشور وبطة وعايدة، يركضون من فرط اللهفة، وصاح عاشور: خير يا ولاد؟ طمنونا!
رد عمار بصوت خافت كأنه يمضغ الوجع: محدش خرج لسه…
ربتت عايدة على منكبه: خير يا ابني… ربك كبير.
وضغطت بطة على منكبه الآخر وقالت بعطف: امسك نفسك يا ضنايا… أختك هتبقى زي الفل إن شاء الله.
أومأ عمار دون كلمات، وهمس: يارب يا أمي… يارب.
مرت الدقائق بطيئة كأنها دهور، لا صوت إلا لهاث القلوب، ونظرات متبادلة تشبه الصلاة في صمت بلا دعاء.
وفجأة… خرج الطبيب.
ركض الجميع نحوه، تتعثر الكلمات وتسبقهم الخطوات.
صاح عمار: خير يا دكتور؟!
أمسك علي بذراع الطبيب وهتف : أختي مالها؟ طمني يا دكتور بالله عليك!
رفع الطبيب يده قليلاً وأجاب: ممكن أعرف مين والد الحالة؟
سادت لحظة صمت قاتلة. تبادلوا النظرات، قبل أن يقول عاشور: أبوها؟ تعيش انت… أنا حماها، وزي أبوها… خير إن شاء الله؟
ـــ يعني متجوزة؟ طيب… فين جوزها؟
هتف عمار بانفعال: هو في إيه يا دكتور؟! أنا أخوها الكبير! اتكلم احنا اعصابنا مش متحمله !
أمسكه علي من ذراعه وقال: اهدى بس يا عمار… خلينا نسمع.
أومأ الطبيب، ثم تنحنح وقال: الحالة عندها التهاب في المعدة العصبية… أو زي ما بنسميه: القولون العصبي النفسي.
ده بيحصل لما الجهاز الهضمي يتأثر بالانفعالات… الناس اللي بتكتم، اللي بتشيل فوق طاقتها… اللي مش بتتكلم.
ساد الصمت.
وأكمل الطبيب بمهنيه : واضح إنها كانت مضغوطة جدًا، ومحتاجة تفرغ اللي جواها… عايز أكلم جوزها لو سمحتم.
قال علي بغضب مكتوم: جوزها… مسافر.
رد عمار بسرعة:راجع… في الطريق.
أومأ الطبيب بهدوء: أول ما يوصل… لازم أشوفه.
ثم أردف وهو يتجه نحو الباب: دلوقتي هي نايمة، وهتفضل نايمة على الأقل خمس ساعات.
انسحب الطبيب، وترك خلفه قاعة انتظار تفيض بالوجع، لا يتحرك فيها سوى العيون… بعضها غاضب، بعضها منكسر.
ادار علي رأسه ببطء نحو عمار، وألقى عليه نظرة واحدة…
نظرة حملت كل اللوم، كأنها تقول بصوت لا يسمع:
أنا قلتلك… وحذرتك يا عمار ..
اغمض عمار عينيه بقهر يذيب القلب ونظر الي غرفة ضي بنظره تحمل حزن يشوبه الذنب ..
……………………………………..
بعد مرور أربع ساعات…
انحدرت سيارة سلطان أمام المستشفى بصوت فرامل مفزع، كأن الأسفلت نفسه صرخ من وطأة الألم الذي تحمله العجلات.
ترجل منها بعنف، يركض لا كمن يلحق شيئًا، بل كمن يفر من احتضار نفسه. هرول إلى موظف الاستقبال، وقد تقطعت أنفاسه، وهدر بصوته الأجش اللاهث:
مدام ضي الهواري… جابوها هنا؟ حالتها إيه؟
رفع الموظف عينيه إلى الشاشة، ثم غمغم بهدوء لا يناسب احتراق الوقت: أوضة ٢٢٢، الدور التالت، يا فندم.
لم يشكره، لم يرد… فقط ركض.
ركض بين ممرات المستشفى، كأن الأرض تميد تحته، وصدره يضيق أكثر مع كل خطوة، كأن الهواء لا يطاوعه… حتى وصل.
تجمد عند رؤيتهم جميعًا جالسين أمام الباب، بصمت ثقيل، ووجوه فقدت بريقها، ونظرات لا تطمئن.
اقترب بخطوات مرتجفة، وهمس: فـ… في إيه؟ قاعدين كده ليه؟ فين ضي؟
رفع علي رأسه، وحدق فيه بنظرة حنق لاذع: ضي… اللي انت وصلتها تكتم في نفسها… زعلها لحد ما وقعت من طولها!
شهق سلطان بعنف، وهتف بصوت كالسوط: يعني إيه وقعت؟! حصلها إيه؟!
تقدّم عمار، لكن عز سبقه، ووضع يده على صدره ليمنعه من الانفعال،تمسك عمار بعز ..وصاح بنبرة موجعة: انت اللي هتقولنا حصل إيه. الزعل بينكم وصلها للمرحلة دي ليه؟ سبتها زعلانة وسافرت يا سلطان… إيه اللي كان أهم من مراتك؟
زمجر سلطان وكأن الندم يحترق في حلقه: مفيش! مفيش أهم من ضي! هي حياتي كلها!
بس أنا… أنا كنت خايف أجرحها أكتر… قولت أسيبها تهدى! قولت أهرب يومين بدل ما أنفجر فيها وازعلها اكتر !!
هتفت عايدة بغضب أم تعرف كيف تصلح الرجال:
ومين قالك يا ابني إن الست تتساب تهدى؟!
الست تتصالح وهي زعلانة، تتحاوط وهي بتبكي،
لما تسيبها؟! كأنك سايبها تغرق وانت بتتفرج عليها!
نهض عاشور بوجه عبوس، وصاح: ادخل دلوقتي، وطيب خاطر مراتك، بوس راسها… وارجعها لروحها. يلا يا سلطان ..
أومأ سلطان كأن الأرض سحبت من تحت قدميه، واندفع إلى الغرفة.
أغلق الباب خلفه بصمت يئن، ووقف عند الحافة.
هناك، كانت ضي… ملقاة على السرير، وجهها شاحب كأن الموت قبلها عند جبينها ثم تراجع،
تاركا لها جسدا منهكا… وروحا لا نعلم أهي ما زالت هنا أم رحلت.
ارتجف قلب سلطان، وسقط على ركبتيه قرب رأسها، كمن يسجد خاشعا لألمه، ثم انحنى عليها، يقبل جبينها، وجفنيها، ووجنتيها، وهمس بصوت متقطع: ضي… يا ضي عيني وأيامي، فوقي… فوقي يا حبيبي.
أنا بحبك… والله العظيم بحبك، ومش عارف أعيش من غيرك.
سامحيني يا ضي… سامحيني، والله ما قصدي…
أنا بحاول، والله بحاول أبقى زي ما تتمنيني… بس أنا مرمى جوا نار، عايش جوا دايرة مفهاش رحمة.
أنا حلقة في سلسلة موت، ومش أنا اللي حطيتها…
بس… عشانك ، أنا هكسر السلسلة دي،
هكسرها عشانك.
رفع رأسه بصعوبة، ومرر أنامله المرتجفة على شعرها، ثم همس بجانب أذنها: سامحيني… إديني فرصة، أنا هبعد عن كل ده، بس مش بين يوم وليلة،
ده عمر كامل اتبنى على دم، وأنا هشيله حجر حجر،
ههده يا ضي…
أنا سلطان… وههده عشان عيونك، عشان أنفاسك، عشان اسمك اللي ساكن جوا قلبي… حتي لو روحي هي التمن كفايه عليا اموت وانتي في حضني ومش زعلانه مني !!
جلس إلى جوارها على السرير، ورفع جسدها بين ذراعيه كأنها طفلته، وضمها لصدره، شدد عليها كمن يخاف أن تفر.
همس في أذنها: فوقي يا ضي… فوقي لحبيبك،
اللي عمره ما حب… ولا هيحب حد في الدنيا غيرك.
انتي روحي… وأنا روحي بتموت من غيرك.
دق الباب.
دلف الطبيب، فأنزل سلطان جسدها برفق، ونهض سريعًا وهتف : مراتي مالها يا دكتور؟!
أشار له الطبيب وقال : كويس إنك جيت، تعال نتكلم في مكتبي.
غادر سلطان الغرفة، لكن عينيه ظلت مشتبكة مع ملامحها، وكأنه يخاف أن يغيب عنها للحظة أخرى.
وما إن انغلق الباب…
حتى فتحت ضي عينيها ببطء…
بكاء صامت تساقط على وجنتيها… دموع ليست من ألم، بل من حنين طويل، من غياب قاتل.
همسة بصوت مكسور:ولا أنا حبيت غيرك… يا سلطان…
وروحي راحت مني لما غبت عني…
ربنا يهديك لقلبي.
……………………………………
في شقه ياسر الهواري
كانت جنات قد أنهت ترتيب المطبخ، ووضعت كوب النعناع على الطاولة أمامها، تحاول تهدئة صداع خفيف يضرب رأسها منذ الصباح.
ياسر لم يعد بعد…
والمساء كعادته صار ثقيل طويل، باردا كأن شيئا ما يتحرك في الظلال.
رن الهاتف فجأة…نظرت إلى الرقم…غريب.لا اسم له.
ترددت لحظة… ثم ردت: ألو؟
جاءها صوته من الجهة الأخرى… ناعما، ثابتا، يحمل تلك النبرة التي لا تخطئها: وأخيرًا… صوتك وصلني.
شهقت خفيفة، ثم رفعت حاجبيها بدهشة خالطها الغضب: مين؟!
قال ببساطة، وببطء كأنه يستمتع بالحروف: خالد… اللي شافك في الحارة، وسأل عنك، مكنتش اعرف ان صوتك
في التلفون حلو كده ..
صمت لحظات وهي تعرف الصوت، وكرهت أنها تعرفه.
قبضت على الهاتف كأنها تخنق رقبة حقيقية، وهتفت:
إنت… جبت رقمي منين؟! إنت مجنون؟!
ضحك خفيف، وقال: ده السؤال اللي المفروض تسأليه؟
ولا المفروض تسألي نفسك… ليه رديتي؟
صمت آخر…ثم كان هذا السؤال كالسهم.
شدت نفسا حادا وهتفت بصوت متوتر: رديت عشان الرقم غريب… مكنتش أعرف إنك إنت!
ولو كنت أعرف، ما كنتش حتى لمحتله!
قال بصوت أقل هدوءا، كأنه يستدرجها لعراك:
بس رديتي…وبتحكي معايا…
يعني عقلك قالك إنك عايزة تفهمي… مش بس ترفضي.
صرخت بحده :لا!أنا ست متجوزة، وقلتلك قبل كده… وبموت في جوزي، ومليش في اللي زيك!
رد، ببرود ساخر: اللي زيي؟!عارفة… ده أكتر جزء عجبني فيكي….إنك بتتغاظي، وبتغضبي، وبتشتمي، بس بتقفي تتكلمي.
قالت بحدة:أنا بتكلم عشان أخلص!
عشان أفهمك إنك لو كلمتني تاني، هقول لجوزي، وهخليه يعرفك مقامك!
سكت، ثم رد بنبرة مختلفة تمامًا…
أكثر جدية، أكثر هدوءا، كأنها لامست شيئًا داخله: هو شايفك؟يعني… جوزك… بيشوفك؟ عارف إنتي مين؟
عارف إن اللي في البيت ده… ست قلبها ناقص حنية، ووشها فاضي من الفرح؟
عارف إنك لما بتضحكي… بيبقى في حاجة متكسرة في ضحكتك؟
تجمدت….وشعرت أن أنفاسها انقطعت للحظة.
لكنه تابع، صوته منخفض… وناعم كنسيم الليل: أنا ماجيتش أطلب منك حاجة…بس انتي… سبتيني أقرأكي
واللي قريته وجعني.
أمسكت حافة الطاولة بقوة.
وارتجفت يدها ،وتخبط قلبها في صدرها، لكن صوتها خرج مشحون بالغضب وصاحت : وانت مالك؟!
أنا مش بتاعت كلام، ولا محتاجة اللي يقرأني!
أنا كويسة… وبحب جوزي… وحياتي تمام!
ضحك بخفة وقال:كل اللي بتقولي عليه ده… يخص الناس اللي بتكدب على نفسها، مش اللي عينيهم كانت بتعيط وهما بيكلموني.
رفعت يدها على فمها، شعرت أن جسدها كله يهتز.
ثم قالت بصوت مشدود :اقفل يا شيطان الانس انت … وده آخر تحذير.
قال بهدوء: حقك… بس في يوم… لما تحتاجي تتكلمي بجد… هتفتكري الرقم ده…ووقتها… مش هسألك حاجة.
هسمعك بس.
ثم أنهى الاتصال.
وقفت جنات مكانها، تحدق في شاشة الهاتف.
كأن الرقم ما زال ينطق.
كأن الصوت لم يغلق بعد.
ثم جلست بهدوء… وبدأت ترتجف.
لم تكن تخونه…ولم تكن تريد الآخر.
لكنها… خافت…خافت من شيء استيقظ فيها، كانت تظن أنه مات.
من نظرة فهمت ما لم يقله ياسر في أعوام،
ومن كلمة مست قلبا جف حتى كاد يتحجر.
ورغم كل شيء…
أغلقت الهاتف، وبدأت تبكي في صمت
…………………………………..
في مكتب الطبيب…
ضرب سلطان سطح المكتب براحة يده بقوة مفاجئة، ارتج لها المكان، وصاح بصوت مختنق بين الغضب والذهول: إنت بتقول إيه؟! يعني إيه سرطان؟! يعني إيه؟!
رفع الطبيب حاجبيه بهدوء محترف، ثم نهض من مقعده وقال بنبرة حازمة لكن هادئة: استاذ سلطان، لو سمحت… إهدى وحاول تستوعب الكلام اللي هقوله.
ابتلع سلطان ريقه بصعوبة، كأن حلقه قد ضاق عليه فجأة، ثم تنفس ببطء وهمس: طيب… طيب، أنا هادي… اتفضل، فهمني.
اقترب الطبيب قليلًا، ثم جلس قبالته، ونظر في عينيه مباشرة وهو يتحدث بجدية ثقيلة: مراتك حالتها حتى اللحظة ما تعتبرش مرض عضوي، لكن… لو فضلت كده، لو ما تعالجتش، لو فضلت تكتم مشاعرها وتعيش تحت الضغط والتوتر والخوف، فالحالة دي هتتحول.
وهتتحوّل لأسوأ حاجة ممكن تتخيلها.
رمش سلطان بعنف، وكأن الكلمة طعنته في كبده، فتابع الطبيب بهدوء عارف: هتتحول لسرطان… سرطان المعدة أو القولون، وده سببه مش مرض، لا…
سببه النفس اللي متألمه ، والوجع اللي مش لاقي له مخرج.
اتسعت عينا سلطان ببطء، ثم مال للأمام هامسا بصوت مرتجف: يعني كل ده… من الزعل؟ من الخوف؟ من التوتر؟
أومأ الطبيب برأسه، وقال بنبرة أكثر لينا: مراتك شخصية شديدة الحساسية، بتشيل جواها كل حاجة، ومش بتخرج ولا بتتكلم، وده خطر.
جسمها بيرد بدلها… الألم طالع من جواها، من قلبها… من كتمها لكل حاجة.
رفع سلطان يده ومسح على وجهه كمن يحاول نزع لعنة علقت بملامحه، ثم قال بصوت مبحوح ومتعهد:
أنا هبعدها عن الدنيا كلها… هخبيها في قلبي، وهاخدها من كل اللي بيوجعها…
ابتسم الطبيب قليلًا، ثم مال للأمام وقال: مش بس تبعدها… إنت لازم تسمعها، تشجعها تتكلم، تسيبها تعبر وتعيط و تزعل وتفضي قلبها… دي الطريقة الوحيدة للعلاج الحقيقي.
أومأ سلطان ببطء، كأنه يمضي على عهد، ثم سأل بنبرة خافتة: هتخرج إمتى من هنا؟
مد الطبيب يده بورقة كتب عليها شيئا وقال وهو يناولها له: ده علاج مبدئي تمشي عليه أسبوع. لو اتبعت التعليمات، حالتها هتبدأ تتحسن.
بس العلاج الحقيقي… في بيتكم، في حضنك، في الكلمة الحلوة، مش في الدوا بس.
تسلم سلطان الورقة، لكن عينيه ظلتا معلقتين على الأرض، كأنه لا يزال يتصارع مع الحقيقة داخله.
ثم نهض، صافح الطبيب، وخرج ببطء… وهو يجر خلفه ذنبا ثقيلا، ونظرة مكسورة لعمر كان يظن أنه يحميه بالحب، لكنه جرحه بالسكوت.
سار سلطان في الممر والدم يغلي في عروقه، ووجهه شاحب كأن العمر تسرب من ملامحه دفعة واحدة. خطواته كانت ثقيلة، وكل ما حوله بدا مشوشا… حتى الهواء صار ثقيل لا يستنشق.
لم يبحث عن أحد، لم يلتفت، فقط اتجه إلى أقرب كرسي في الممر وجلس عليه بعنف، كأن ساقيه خذلته. وضع كفيه فوق وجهه، ثم أنزلهما فجأة، وبدأ يتمتم كمن يكلم ظله: أنا اللي دخلتها حياتي…أنا اللي ضيعتها…
ياريتني ما قربت، لما خدتها بين ايديا، حرقتها…
ضي متستاهلش نار زيي…
أنا ماكنتش لازم أقرب…
كان كفاية أحبها في قلبي وخلاص…
هي كانت وردة… وأنا كنت نار حرقة وردتي بايدي
ثم أكمل وهو يهز رأسه، والدموع تحرق عينيه لكنه يرفض سيلها : أنا السبب… أنا حبيتها بس ماعرفتش أحبها صح…
كنت فاكر إني هخليها تعيش فب حضني بأمان، طلعت أنا الخوف كله…
حتى لما جريت مني، كنت بجري وراها عشانها…
بس رجلي جت على رقبتها، وخنقتها.
وفجأة، جلس عز بجواره بصمت، نظر له بدهشة أولًا، ثم قال بصوت منخفض متأثر: هو ده كل اللي بتفكر فيه ؟
ده إنت لسه ما شوفتش وشك… باين عليك الندم واكلك.
التفت له سلطان بعيون منهارة، وهمس بصوت مبحوح:
الدكتور قاللي إنها متدمرة نفسيا،
قاللي مش قادرة تهضم ولا تاكل من كتر التوتر،
قاللي الجرح مش في معدتها… الجرح ف روحها، وأنا اللي حفرته بإيدي…تخيل؟ بقيت أنا اللي بيوجعها،
أنا اللي المفروض يبقى ضلها وأمانها… بقيت ألمها…
تنهد عز بحرقة، ومد إيده على منكب سلطان وقال:
عارف يا سلطان؟ أنا فرحة اوي لما انت قررت تتجوز ..كنت شايفك بتبص لها في صمت،
وبتشيل همها في قلبك من غير ما تاخد منها كلمة.
ودي فرصتك…مش عشان تصلح غلطك بس…
عشان تحبها زي ما كنت بتتمنى …وزي ما بتتمني اي ست من جوزها أنه يحبها بالطريقه اللي تريحها هي مش تريحك انت ..
هز سلطان رأسه بانهيار، وغمغم: بس أنا بكسرها يا عز… كل مرة أقرب… بكسرها.
هتف عز بنبرة ثابتة: يبقى تبنيها… تبنيها من أول وجديد،
تحطها في حضنك وتمسح كل وجع،
وتنسى إنك كنت نار … وتبقى حضن… وبيت !
نظر له سلطان للحظة، ثم غطى وجهه بكفيه مرة تانية، لكن المرة دي، الدموع نزلت ببطء… دون صوت، كأنها تنزف من القلب لا من العين.
………………………………..
في غرفه ضي ..
فتح سلطان الباب بهدوء،
وتسلل إلى الغرفة كمن يدخل إلى قلبه للمرة الأولى.
لم يكن ليعاينها أو يراقبها، بل لينقذ ما تبقى منه…
لكأنه أدرك في تلك اللحظة أن روحها كانت آخر ما يشده للحياة.
كانت ضي مستلقية على السرير،
عيناها نصف مفتوحتين، والضوء الخافت ينسدل على ملامحها،
فيكشف عن تعب ثقيل غلف روحها، لا وجهها فقط.
كان وجهها خاليا من الأمل، وكان جسدها هزيلا وكأنها فقدت آخر قطرة من قوتها.
اقترب بخطوات حذرة،
ثم جلس على طرف السرير ببطء،
ونظر إليها كما لو كانت هي الناجية، هي الحياة التي لم يعد يملك سواها.
في تلك اللحظة، لم تكن ضي مجرد امرأة في غرفة، كانت كل ما تبقى له في هذا العالم.
همس بصوت يرتجف: صحيتي يا ضي؟
لم ترد، فقط رمشت بعينين ثقيلتين من الألم، قبل أن تستدير إليه ببطء،
وأطاحت بكل ما حولها من زهور، وكلمات، وخوف.
كان نظرتها مليئة بالخذلان، والخوف، والضعف، وكأنها أصبحت شخصا آخر، لا تعرفه ولا يعرفها.
كان هذا هو الوجه الآخر لضي، الوجه الذي لا
تراه سوى في لحظات الضعف التام.
مد يده بلطف، وكأنه يلامس شيء هش جدا،
ثم ربت على يدها الهشة، أمسك بها وكأنها قلبه،
وقال بصوت مملوء بالعذاب: أنا جيت… جيت عشان أريحك واعملك اللي انتي عايزاه… جيت عشانك يا ضي.
لمعت دمعة في عينيها، وتشققت شفتاها،
ثم همست بصوت خافت، مشحون بالألم: أنا تعبت، يا سلطان… تعبت من الخوف… منك… وعليك.
بلع سلطان الشوك المدبب الذي احتل حلقه،
ورد بصوت غارق في مرارته: عشان كده هريحك مني… أنتي من دلوقتي حرة يا ضي… تقدري تعيشي حياتك زي ما انتي عايزاها.
اتسعت عينيها، صدمتها كلمات سلطان بشكل أفقدها القدرة على الرد.
شعرت كما لو أن سكاكينه قد انغرزت في قلبها،
وصرخت بحروف مشوهة: إنت بتقول إيه؟! إنت اتجننت؟!
نظر إليها سلطان بعينين مغمدتين من قهر وحسرة،
كما لو أن قلبه قد اجتمع فيه ألف جرح.
ثم قال بصوت مكتوم وهو يكاد يخنق نفسه: بس مش عايزك تخافي،إنتي هتفضلي تحت حمايتي، حتى لو مش مراتي!
لحظة واحدة مرت ببطء خانق، كأن الزمن قد تردد في خطاه…
ثم فجأة، وعلى غير كل التوقعات، تحركت ضي.
حاولت أن تعتدل في جلستها، لكن جسدها خانه،
فأسرع سلطان، أمسك يدها برفق كأنه يمسك روحه الهاربة،
لكنها نزعت يدها بعنف منه، كأنها ترفض خلاصًا جاء متأخرًا.
نظر إليها، ثم إلى يده المفتوحة بينه وبينها…
يده التي خذلها الحنان، وغلبها القهر.
وفجأة، اقتربت منه، وكأن جمرا تحت جلدها انفجر،
أمسكت وجهه بكلتي يديها، بشدة المرتبك الذي لم يعد يحتمل،
ثم انحنت على شفتيه…
وقبلته.
قبلة لم تكن عابرة، ولا هادئة،
بل مشتعلة بالشوق والدمع، بالحيرة والاحتياج…
قبلة تجمعت فيها كل صرخاتها التي لم تقلها،
كل ليالي نامت فيها على قلق من فقده،
كل لحظة وجع ظنت أنها دفنتها.
تجمد سلطان…
اتسعت عيناه كأن الزمان انكسر داخله،
ثم ما لبث أن انفجر فيه كل شيء دفعة واحدة،
نسي كل كلمة قالها، كل قيد وضعه، كل حائط بينه وبينها…
ضمها إليه بجنون،
يقبلها بشراهة عاشق عاد من الموت، نهش شفتيها بعنف بكل ما في قلبه.. من عشق، وجنون، وهوس ..
احتواءها بذراعه كأنها آخر أنثى في الأرض،
أحاط خصرها بذراعه، وحاوط عنقها بالأخرى،حتي يمنعها من التراجع
همس من بين قبلاته، كمن يبتلع أنفاسه: بحبك يا ضي.. بعشقك ..
كانت تتنفسه كمن يغرق ويجد أخيرا هواء يشبهه،
عيناها متسعتان بالذعر والعشق،
لكنها لم تتراجع،
لأنها، في هذه اللحظة، عرفت أنها لا تشك فيه…
بل تشك في قدرتها على النجاة من بعده ..
تراجع سلطان قليلًا، ونظر إلى شفتيها المتورمتين من القبل،
وابتلع لعابه بصعوبة، وعيناه تتوهجان بشغف لا يدارى،
ثم همس: ضي…
أومأت برأسها، وهمسة بأنفاس لاهثة، كأن قلبها هو من ينطق بدلا عنها: متبعدش عني يا سلطان… أنا بتعب أكتر ف بعدك…
اقترب منها أكثر ، رفع يدها برفق، وطبع عليها قبلة حانية كالوعد،
ثم غمغم، وصوته خليط من الفرح، والذنب، والعزم:
وأنا مش هسمحلك تتعبي تاني… لا مني ولا من غيري.
أنا… أنا هبعد عن كل ده، عن وسخ الدنيا اللي كنت غرقان فيه…هسيب تجارة السلاح… هسيب الكل عشانك.
توقف لحظة، وعيناه تبحثان في عينيها عن رجاء:
بس استني عليا شوية…الموضوع مش سهل.
محتاج وقت… محتاج صبر…ومحتاج قلبك جنبي.
شهقت ضي شهقة باكية، ورفعت كفها المرتجف تغطي وجهها،
وصوتها انكسر في صدرها وهمسة: أنا عملت كل اللي عملته عشانك .. مش علشان افرض عليك حاجه ولا اتحكم فيك ..أنا بخاف عليك…خايفة تموت، خايفة تيجي لحظة يخطفوك مني…وبخاف منك… من غضبك، من قسوتك…من الحاجات اللي ساكنة جواك وأنا مش فاهمها.
أبعد يدها عن وجهها بلطف،
وضمها إلى صدره كأنما يعيد تثبيتها داخل قلبه،
وهمس وهو يشعر برجفة أنفاسها على رقبته:
خافي مني برحتك…بس متبعديش…
لأن قلبي من غيرك، مالوش لازمة.
وضعت رأسها على صدره، وبكت… بكت بحرقة، كأنها أخيرًا وجدت مأوى… بكت كأن روحها تشكو، لا عيناها فقط.
رفعت رأسها بصعوبة، وهمسة وهي تنظر في عينيه:أنا بحبك يا سلطان…أنا… بحبك اوي …
ثواني… ثواني مرت كأنها زلزال، ثم تسعت عينا سلطان، وتجمد قلبه في مكانه، قبل أن يشهق كأب سمع كلمة بابا لأول مرة.
ضحك… ضحكة صغيرة مرتعشة، ثم عاود البكاء، ومسح دموعه بكفه، ثم قال بانفعال لم يستطع كبحه:
قولتي إيه؟! قولي تاني يا ضي… بالله عليكي قوليها تاني!
ضحكت ببكاء، وهمسة بصوت أكثر رجفة:
بحبك… يا وجعي، ويا خوفي، ويا أماني ..
لم يعرف ماذا يفعل… ضمها، قبل رأسها، قبل وجنتها، ثم انحنى يقبل يديها وجبينها، ثم همس:بحبك أنا كمان، بحبك من قبل ما تبقي مراتي… بحبك من سنين، من وانتي صغيرة … كنتي الحلم اللي ساكن جوا قلبي، وكنت خايف المسه اكسرك ..
ثم نظر لها نظرة مجنونة، ضاحكة باكية:أنا مش عارف أعمل إيه دلوقتي… أبوسك؟ أحضنك؟ أعيط؟ أضحك؟
قلبي مش مستحمل الفرحة… يا ضي، ده أنا قلبي كان بيحتضر، وإنتي انتي رجعتي له النبض.
مررت يدها على وجنته وهمسة: بعد الشر علي قلبك ..دانا كل خوفي في الدنيا دي علي القلب ده.. عايزه يفضل يدق.. ويدق لآخر نفس فيا.. دقاته ونس ..ومصدر اماني يا سلطان ..
شدها لحضنه، كأنها عصفور جريح بين يديه، وهمس في أذنها:أنا هبدأ من أول السطر، عشانك…
بس متسبنيش، متبعديش، خليكي جنبي، خليكي روحي اللي بيها أقدر أعيش.
ضمته وقبضت علي سترته وهمسة: أنا مقدرش ابعد اصلا يا سلطان مقدرش اعيش بره الحضن ده
وكان حضنه في تلك اللحظة… وطن.
دق الباب، ولم تكد الضربة الثانية تسمع، حتى انفتح الباب على عمار وعلي وآية، يتبعهم بخطى متلهفة كل من عايدة، وبطة، وحياة، وخلفهم عاشور الهواري، وأخيرًا عز، الذي تنحنح وهو يطرق الباب بخفة قبل أن يدخل.
نهض سلطان من الفراش، وضبط الغطاء فوق جسد ضي برقة، كأن كل خلية فيها تستحق حمايته. ثم ابتسم بترحاب خافت، وقال بنبرة دافئة: تعالوا يا جدعان، اتفضلوا…
اقترب عمار أولًا، ثم علي، فأحاطا ضي من الجهتين. ضمها عمار لصدره في حنان أخوي يغمر القلب، وهمس وهو يربت على منكبها: كده يا ضي توجعي قلبي عليكي؟! يا حبيبتي، انتي عارفة الواحد قلبه مش ناقص وجع…
امتلأت عيناها بالدموع، وهمسة بضعف خافت:أنا آسفة يا عمار… فجأة كده محستش بالدنيا حواليا…
أمسك علي بكفها، رفعه إلى فمه، وطبع قبلة حانية على باطنه، ثم قال بصوت خافت فيه رجفة قلب:ألف سلامة عليكي يا قلب أخوكي… مفيش حاجة تستاهل تعملي كده في نفسك يا ضي… صحتك بالدنيا كلها، يا حبيبتي.
نظرت له ضي وعيناها تموج بحب اخوي خالص وهمسة : حقك عليا يا علي …
هزت آية رأسها موافقة، وجلست قرب قدمي ضي، وقالت بحنو:كلام علي صح… كل حاجة تتحل. متخليش حاجة جواكي يا ضي… متضغطيش نفسك ولا تكتمي في قلبك، احكيلنا.
هزت ضي رأسها بخجل، ولكن عينيها ظلتا معلقتين بسلطان، الذي كان ينظر إليها وكأن العالم كله قد توقف عند حدود وجنتيها. في عينيه حزن عميق، قهر مكسور، وعشق لا يخفى.
اقتربت عايدة، ومدت يدها تمسح على جبين ضي، وقالت بتنهيدة أمومة:سلامتك يا ضنايا… مش هقولك اللي يكرهك، محدش بيكرهك يا بنتي.
رفعت ضي ذراعيها لاحتضانها، فتنحى عمار قليلًا، وألقت برأسها على صدر عايدة، كأنها أخيرًا وصلت لميناء الأمان.
همسة ضي وهي تبكي في صمت:محتاجة حضنك قوي يا ماما…
جاءت بطة تمسح دموعها بطرف حجابها، واقتربت وهي تهتف بشجن:جرى إيه يا مرات ابني… متوجعيش قلبنا كده. شوية تعب وهيروحوا لحالهم، يا حبيبتي.
أومأت ضي برأسها، وانتقلت برفق إلى أحضان بطة، وهمسة بخفوت: يارب يا ماما…
ضحكت حياة وسط الدموع، وقالت بمزاح محبب:
إيه ده بقى! هو كله حضن في حضن؟ مفيش بوس ولا إيه؟
ضج الجمع بضحكة خفيفة، وهتف عز وهو يضع ذراعه حول عنق حياة:لا، في ضرب… ينفع يا بت؟!
شهقت حياة وابتعدت من تحته بسرعة، وركضت خلف سلطان، تختبئ خلف ظهره، وهي تهتف: لا والنبي! أنا قفايا مش مستحمل النهاردة!
ضحك الجميع، وقال عاشور بصوته الأجش الحنون:
بس يا بت، انتي هتكبري امتي … خلونا نطمن على مرات أخوكي.
اقترب من ضي، وقبل راسها في أبوة صافية، ثم قال:
سلمتك يا مرات الكبير… شدي حيلك يا بنتي.
رفعت ضي عينيها إليه، وفيها حنين دفين واحتياج قديم، وهمست بصوت متهدج: الله يسلمك… يا بابي.
ابتسم عاشور، وهتف بمرح:أنا نفسي أفهم… الرقة دي مع التور ده إزاي؟! حكمتك يا رب…
انفجر الجميع ضاحكين، فقال سلطان وهو يقف جوارهم: بصلي فيها يا حج، على أساس إن الحكاية كانت ناقصة!
اقترب من الفراش، وجثي على ركبتيه إلى جوارها، أمسك يدها الصغيرة، وقبلها بحنو ظاهر، ثم غمغم وهو ينظر للجميع:دي الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها من الدنيا يا ناس… سيبونا في حالنا بقى.
ضحك الجمع، وهتفت عايدة في دعابة محبة:ربنا يخليكم لبعض… ونفرح بعوضكم قريب يا رب.
تنهد سلطان، وحدق في ضي بغمزة خفيفة، وقال بمكر : يارب يا دودو… يا رب.
احمر وجه ضي، وغطت خجلها بابتسامة هادئة، بينما كان قلبها يشتعل… لا من المرض، بل من سلطان، من نظراته، من دفئه، ومن كل هذا العشق الذي ينسكب منها وإليها في صمت لا يخطئه أحد.
……………………………………….
في صباح جديد…
انبثق الضوء خافتا من خلف الستائر البيضاء، يصافح وجوها أنهكها القلق ليلا وبث فيها الرجاء نهارًا.
خرج سلطان من الغرفة بخطى واثقة، يحمل ضي بين ذراعيه كمن يحمل الدنيا وما فيها، كأنها وديعة بين يديه لا يحتمل فيها خدشا ولا شحوب.
هتف بنبرة هادئة متماسكة :خلصتوا كل حاجة؟
أومأ عز وعمار بإيجاب صامت، فتنفس سلطان بعمق، ثم تحرك نحو الخارج، وعيناه لا تفارق وجهها المتعب المسالم…قال وهو يسير: الجماعة تحت في العربية.
ضمت ضي ذراعيها حول عنقه، وأسندت رأسها إلى صدره كأنها تستمد منه ما تبقى من قوتها، ثم همسة بصوت خافت متردد: سلطان… نزلني، أنا ممكن أمشي.
شدها إليه بحنان رجولي عميق، وغمغم: بس يا بت.
انفتح باب المصعد، خرج منه سلطان إلى فناء المستشفى، حيث كانت الشمس قد بدأت تسكب دفئها فوق الأرصفة.
فتح عز باب السيارة، فوضع سلطان ضي برفق داخله، ثم أغلق الباب برفق.
دار حول السيارة وصعد إلى جوارها، بينما جلس عز وعمار في المقعد الأمامي، وأشار عمار لعلي في السيارة الأخرى بالتحرك.
انطلقت القافلة نحو حارة الصاغه…
وبعد وقت قصير، توقفت السيارات أمام المنزل.
ترجل الجميع، ودار سلطان كعادته إلى الباب المجاور، فتحه، ثم انحنى وحمل ضي من جديد كأنها لا تزال حلما خائفا من أن تفيق.
دخل بها إلى المنزل، وخلفه الجميع بصمت يشبه الهيبة.
عند باب المصعد، التفت إليهم سلطان وهتف:
معلش تعبناكم يا جماعة.
ربتت عايدة على صدره بحنان أمومي وهمسة:
تعبك راحة يا ضنايا… المهم رجعنا ومراتك في حضنك.
نظر إليها، ثم إلى ضي المستكينة بين ذراعيه، وابتسم قائلاً: ومش هتطلع منه تاني… أبدًا.
شهقت ضي بخجل، وأغمضت عينيها من جرأة كلماته.
فصاح عاشور بنبرة فيها الحنق المصطنع: طيب استحي يا سلطان واطلع شقتك، خلي عندك دم!
هتف عمار وهز رأسه قائلاً بيأس:
طب احترم ذاتك بدل ما أطلع عين أمك يا صاحبي.
ابتسم عمار بسعادة، ووضع ذراعه حول كتف بطه وهو يغمز قائلاً: لا مؤاخذة يا بطتي.
قهقهت بطه وقالت بحنو اموي : براحتك يا حبيبي، هو اللي فاقد!
قهقهت عايدة وهتفت: مراته… حلاله يا حبة عيني!
ثم نظرت لسلطان نظرة محبة، وهتفت بتحذير دافئ:
اطلع يا ضنايا… ينشوك عين!
ضحك سلطان، وهو يدلف إلى المصعد وضي بين ذراعيه، وقال بحب صاف: تاج راسي يا دودو… والله!
أغلق باب المصعد على بداية جديدة، وعلى حب صار له بيت وسقف وقلوب تسانده.
ضحك علي ببعض الراحه وغمغم : طيب عن اذنكم يا جماعه..
اوما له الجميع وتحرك الي الاعلي .. وتحرك كل شخص الي شقته …
……………………………………..
أغلق المصعد أبوابه خلفهم، وانطلق صاعد بهم نحو الطابق الرابع. كان سلطان يحتضن ضي بين ذراعيه، كأن بها شق في الروح لا يرمم إلا بالاحتواء.
لما وصل، خرج بها بهدوء، وهمس وهو ينظر لعينيها المتعبة:حمد الله على سلامة جناب الحُلو.
أومأت برأسها في خفوت، وقالت بصوت خافت:الله يسلمك يا سلطان.
أنزلها برفق، ثم أخرج المفتاح وفتح باب الشقة. لم ينتظر أن تخطو، بل عاد فحملها بين ذراعيه ودلف بها إلى الداخل، كأنها كنز ثمين يخشى أن تفلت منه.
أغلق الباب، ثم تحرك بخطى ثابتة إلى أقرب أريكة، ووضعها عليها بلطف حذر، كأنها ماسة يخشى أن يخدش بريقها.
جثا أمامها، ونزع حذاءها برفق، ثم همس وهو يشير ناحية المطبخ:عليا عملت أكل، وحطته جوه…
ثم اقترب من حقيبة العلاج، وأخرج علبة دواء، وقال بهدوء:الحبايه دي قبل الأكل… عشان تأكلي من غير ما تتعبي.
هزت رأسها وقالت بنعومة: أنا معدتي مش وجعاني دلوقتي.
اقترب منها أكثر، وضمها إلى صدره، وهمس بأنفاسه العميقة: وإن شاء الله مش هتوجعك تاني أبداً… يا روحي.
رفعت يدها المرتجفة ولمست عنقه، وغمغمت بخوف طفولي: خليك جمبي… لما بخاف، معدتي بتوجعني أوي… بحس روحي بتتسحب مني.
وضع إصبعه على شفتيها، وهز رأسه برقة صارمة:
بس يا ضي… أبوس إيدك، متقوليش الكلام اللي يوجع الروح ده.
أخرج حبة الدواء، ووضعها بين شفتيها كأنها وردة، ثم فتح زجاجة الماء، وقال بنبرة دافئة:اشربي يا حبيبي.
ارتشفت الدواء بصمت، ثم نهض سلطان وجلب الطعام. وضعه أمامها وهتف بلطف: أكل عليا خفيف وحلو، شوربة خضار… هتعجبك يا حبيبي!
بدأ يطعمها بيديه، بلمسة أب وحرص أخ ولهفة حبيب مجنون. عيناه لا تفارقان وجهها، وصدره يضج بدعاء خفي.
ولما وصلت إلى منتصف الطبق، همست بتعب: كفاية يا سلطان… مش قادرة آكل أكتر.
قرب الملعقة من فمها، وقال بابتسامة توسدت الرجاء:
آخر معلقة… عشان خاطري، يا ضي عيني.
أومأت بخفوت، وتناولت الملعقة، ثم همسة: كفاية… حبيبي.
رمش بعينيه، كأن الكلمة ضربت صدره فجأة، وهتف مذهولًا: قلتي إيه؟
نظرت له بدهشة وردت بتوتر: في إيه؟… قلت حبيبي، انت زعلت؟
ضحك… ضحك بجنون، ثم نهض واقترب منها وهتف بصوت مختنق من الفرح: زعلت؟! دانا مستني الكلمة دي من سنين يا ضي!
جثا أمامها، وأمسك وجهها بكل الحنان، ثم همس بأنفاس مرتجفة: قولي تاني… بالله عليكي، قوليها تاني.
لفت ذراعيها حول عنقه، وقالت من أعماق قلبها: أنت حبيبي… أول حبيب في عمري.
ضمها بقوة، كأنها الحياة ذاتها، وقال بصوت مبحوح:
وآخر حبيب… يا بت.
ابتسمت برقة، وهمسة وهي تغلق عينيها: أول وآخر حبيب في عمري.
وفجأة…
دق الباب، فتنهد سلطان بضيق، ونهض ليفتحه.
فوجئ بعمار وآية، تحمل بيديها طبق شوربة ساخن.
هتفت آية: عملت لـ ضي الشوربة… اللي بتحبها.
هتف عمار بقلق: أوعى تكون نامت من غير أكل.
هز سلطان رأسه وقال وهو يفتح الباب أكثر:
لا… متخافش، تعالوا.
دخلت آية خلفها عمار، واقتربت من ضي، وضعت الطبق أمامها وقالت: عملتلك الشوربة الفرنساوي اللي بتحبيها… يا قلبي.
سلطان رفع حاجبه بنزق وقال مازحا: قلبك ضي؟ أمال الشحط ده إيه؟ وبعدين ضي قلبي أنا يا أختي… وضي أصلاً اتعشت شوربة مصري يا أختي.
نظرت له آية بنفس النفور المصطنع وغمغمت :
جاك وجع في قلبك دلوقتي… قلبك! وكنت هتموتها!
نظر لهم عمار، وقال وهو يحاول كتم ضحكته:
يعني كلتي يا حبيبتي؟ بالف هنا وشفا.
هزت ضي رأسها وقالت برقة:الحمد لله يا عمار… كلت، بس متزعليش نفسك يا آية، أول ما أجوع هآكل الشوربة بتاعتك، انتي عارفة إني بحبها.
جلست آية بجانبها، ومسحت على شعرها بحنان وقالت:بالهنا يا حبيبتي.
جلس سلطان على الطرف الآخر، وسحب ضي إليه برقة، ثم رفعها على ساقيه وقال وهو يغمز: حبيبتك كمان؟… حبك قطر يا بت..
انفجرت ضي وعمار ضاحكين، وهتفت ضي: سلطان! ميصحش كده!
سحب عمار آية وقال بنبرة مازحة:
بعد الشر علي خطيبتي يا عم يحبها قطر يا مفتري؟ … يا شيخ، منك لله!
هز سلطان منكبيه بلا مبالاة، وقال بابتسامة نصفية:
ما هو انت إيه؟ قطر من غير فرامل… يعني أنا مكدبتش.
ضحكت ضي وقالت: عمار قطر من غير فرامل يا حبيبي… أمال انت ايه ؟
اقترب سلطان منها، وهمس في أذنها بعبث محموم:
أنا قطر مولع نار…
لكزته ضي بخجل وهمسة: اتلم !!
همس في أذنها بعبث: هدخله وهجيب دم !
شهقت وهزت راسها بيأس وحملها بين ذراعيه ونهض وقال : تعالي ريحي في سريرك يا قلبي !!
جلس عمار وهتف : طيب تعال عايزك يا سلطان ..
اوما برأسه وهو يسير للداخل : جايلك يا شقو …
……………………………….
مساء في الحاره
كانت الشمس قد بدأت تختفي في السماء حين اخترقت الحارة سيارتان سوداوان تابعة للشرطة، توقفتا أمام منزل الهواري فعم الصمت المكان، كأن الأنفاس انحبست.
ترجل رجال الشرطة من السيارتين بثبات، وانتشرت نظرات الترقب بين أهل الحارة، فكل يحدق من خلف النافذة أو من بين أركان الدكاكين.
في تلك اللحظة، خرج سلطان الهواري من محله بخطوات رزينة، تعكس ثقة الجبل حين يواجه العاصفة، وعلى جانبيه عمار وياسر. ثبت نظره على رجال الشرطة وتقدم بخطوات محسوبة.
هتف بصوت جهوري، وهو يرفع حاجبيه بابتسامة خفيفة:
بشوات البلد نورت الصاغة… يامرحب.
اقترب الضابط منه، صافحه بحرارة، وهتف بود مصطنع:
منورة بأهلها يا معلم سلطان.
أومأ سلطان برأسه بتوقير هادئ، ثم قال بنبرة ثابتة:
أوامر يا باشا؟
لكن الصوت الذي تلا كسر هيبة اللقاء كله.
دوى في الأفق صوت مشحون بالغضب، غليظ، يقطر سما:
أنا عايز بنتي… عايز بنتي اللي خطفتها يا بلطجي؟
استدار الجميع على الفور. كان واقف هناك… رجل ستيني، صوته يسبق خطواته، ونيرانه تشتعل في عينيه.
الهواء نفسه بدا وكأنه اختنق من نبرة صوته.
ووووووووو
متنسووووش الفوت والكومنتات يا عسلات قلب ساره
ساحره القلم ساره احمد 🖋️
❤️❤️❤️❤️❤️❤️
روعه ❤️❤️🥰😘