نارر وهدنه(الفصل السابع )

الفصل السابع عشر
“لو أننا لم نفترق…”
قالتها وهي تنظر إلى البعيد، كأنها تفتّش في الأفق عن ظلٍّ يشبهه…
عن طيفٍ كان يومًا لها، ثم تسرّب من بين أصابعها كالماء، ولم تقدر على الإمساك به.
لو أننا لم نفترق،
لظللتُ نجمةً في سمائه، معلّقة على حافة الليل، تنير له العتمة وتدلّه على مرافئ الحنين.
كنت سأترك عمري يحترق في وهج حضوره، راضيةً، كمن وجد لهيبه أدفأ من كل مواسم الدفء.
كنتُ لأصعد إلى قمم السحاب فرحًا، ثم أعود نهرًا رقراقًا يتدفّق في أرضه، يبعث فيها الحياة.
لكن الأحلام، يا لخذلانها، تبعثرنا كالسراب في فضاءات الأمل…
وتظل أسرارنا مختنقة في تجاويف الصدر، لا يحررها إلا البكاء.
لو أننا لم نفترق،
لكانت خطانا وإن ابتعدت، تعود…
تشُدّنا أشواقنا كبرقٍ مفاجئ، كالحنين إذا استيقظ في منتصف العمر على رائحة قديمة.
كانت اللحظات ستدور بنا في صخب الزحام، كأننا جسدان ينصهران في جسدٍ واحد،
نمرّ بين الناس، ولا نراهم، لا نعرفهم…
كأن الكون ضاق حتى لم يتّسع إلا لظلّينا.
لو أننا لم نفترق،
ما زلتُ أذكر حين جاء الرحيل، كيف صاح الأرق في عينيّ،
كيف تعثّرت أنفاسنا بين ضلوعنا، كأنها لا تعرف كيف تخرج دون أن تترك خلفها ألماً.
كان القلق يمزّقنا…
رأيت عمري بين يديه رمادَ حلم، وورقًا ذابلًا، وريحَ صيفٍ عابسٍ لا يهبّ إلا ليجفّف ما تبقى فينا من ندى.
أنا…
عمري ورق…
حلمي ورق…
وطفلة صغيرة، في حجم الموج، أحاط بها الغرق ولم تُجِدْ السباحة نحو نفسها.
ضوءُ طريقٍ في عيني الأفق طواه الشفق…
ونجمٌ أضاء الكون يومًا، ثم احترق.
لو أننا لم نفترق،
ما كنتُ لأدرك، حين شدّنا الرحيل، أنني أودّع روحي… لا رجلاً فقط.
ما كان خوفي من الرحيل نفسه، بل من الذي سيبقى بعده…
وها أنا بعدك، لا شيء يبقى سوى كلماتٍ تئنّ، وجراحٍ تسكن بين الحروف.
لو أننا لم نفترق…؟
لكنّا الآن نكتب سطرًا آخر…
لا يشبه هذا الوداع.
قالتها بصوت هامس، ميت كأنما لفظته روحها لا لسانها:
أنا مش بخوفك… أنا بخلص نفسي.
وقبل أن يعي كلماتها، وقبل أن تستوعب عيناه ما نطقت به، كانت قد أفلتت نفسها من فوق سور الشرفة، واستسلمت للجاذبية…
تجمد سلطان لحظة، كأن الزمن توقف عند صدمة لا يصدقها، وهو يري طرف ثوبها يلوح في الهواء ثم انفجرت حنجرته بنداء مجنون:
ضيييييييييي!!!
ركض كالمهووس… كأن النار تطارده، أو كأنه يركض إليها، نزل الدرج لا يعلم كيف …
دفع الباب الزجاجي بعنف حتى كاد يكسره، وقف بعينين تائهتين يبحثان عنها بجنون… حتى وقعت نظراته عليها.
كانت في حمام السباحة، تطفو قرب السطح، تنظر له بنظرة غامضة… بين التشفي والانكسار.
سقط على ركبتيه، كأن الأرض خذلته، كأن قدميه أبت أن تحملاه أكثر، وضع يده على رأسه وهو يلهث بعنف ويراها هناك… تغرق في عذابه، وتغرقه فيها.
نهض بشراسة، واندفع بخطى تقرع البلاط كالرعد، وقفز في الماء دون تفكير…. قفز بجنون مرعوب، كمن يلحق بروحه الهاربة…
صرخت بفزع وهي تراه يهجم نحوها كإعصار، وغاصت تحت سطح الماء.
صعد إلى السطح للحظات، يلهث وأنفاسه مشتعلة كجمر في صدره، عيناه تفتشان كالغريزة… حتى لمحها.
غاص بعنف، وقبض على ساقها وسحبها إلى السطح بقسوة ممزوجة برعب لا يتقنه سوى من يحب حتى الاختناق.
شهقت ضي وهي تلهث بصعوبة، تمسح وجهها المبلل وقد التصقت خصلات شعرها بوجهها، لم تلتقط أنفاسها بعد حتى صرخ هو، وكل كلمة منه كانت طلقة، ومع كل صرخة كان يغطس رأسها في الماء ويعيدها صارخا:
إنتي اد الحركة دي يا بت الـ…؟! عاجبك الفرهدة وقطع النفس؟!حرام عليكي… أنا قلبي وقف يا شيخة!
حاولت دفعه وهي تسعل وتصرخ بأنفاس محمومة:
ريحني وريح نفسك ورجعني لأهلي!
قلتلك مش هعيش معاك طول ما انت بتاجر في الدم والموت والخراب!
أطبق فمه بغضب، لم يجبها، فقط …خرج من المسبح وهو يلهث غضبا، وجذبها خلفه دون نقاش….
قاومته بضعف،لكنه سحبها من الماء كمن يسحب روحه من غرق لا ينتهي، ثم رفعها على منكبه كطفلة ثائرة، وهي تضربه على ظهره وتتشبث بذراعيه كأنها تحاول النجاة من شيء أكبر منه، لكنه لم يبال: نزلني بقى يا همجي! كفايه بهدلة… لا انت هترتاح ولا أنا!
افهم يا متوحش! لكنه لم يكن يسمع…
كان الحريق في صدره يصم كل شيء، سوى اسمها…
دلف بها إلى الفيلا، عابس، مبلل من رأسه إلى قدميه، القي بها على أول أريكة كأنها جمرة تحرق يديه، ثم انطلق للداخل بخطوات هوجاء….
عاد بعدها ثواني، يحمل منشفتين، واحدة كبيرة، والثانية صغيرة، ألقاها بعنف بجوارها وجثا أمامها.
بدأ في تجفيف شعرها وهو يزأر كالبركان: دماغك متركبة شمال، أنا عارف…بس اللي عملتيه ده اسمه جنان رسمي!
كنتي عايزة تموتي بجد؟! تخليني أنا اللي أدفنك بإيديا؟!
صرخت بوجهه وهي تمسك بالمنشفة وتلقيها بعيدًا:
أنا مش بهددك…أنا كنت بخلص نفسي!
ارتبك، صمت لوهلة، ثم قهقهة قصيرة كأنها نزيف من داخله، وألقى المنشفة الأخرى أرضا وهو ينهض بعنف ويمد ذراعيه للهواء:مش قادر أصدق…
أنتي اللي بتقولي كده! ده أنا… أنا اللي كنت بموت كل يوم من فكرة انك تبعدي عني،
انا اللي كان عندي استعداد اسيب الدنيا كلها عشانك، والنهاردة بتفكرى تخلصي نفسك مني ؟!
انتي بتلعبي بالنار يا ضي، بتلعبي بيا أنا!!
يعني إيه ترمي نفسك؟!كنتي عايزة تموتي؟!
دفع الكرسي بقدمه فانقلب، ثم ركله مرة أخرى حتى تحطم…. أخذ يكسر كل ما تطاله يده، مزهرية، شمعدان، لوحات، حتى ساعة الحائط أسقطها بجنون.
صرخ، كأن الألم صار لعنة في حلقه: الحب ده لعنة! والسلاح لعنة! وإنتي لعنة…وأنا… أنا أكتر واحد ملعون في اللعبة دي كلها!
نظرت له وهي تقف على أطراف أصابعها، وجهها يقطر ماء ودمع ، وجسدها يرتعش ليس من البرد… ولكن منه.
وقالت بصوت مختنق: أنا بحاول أنقذك…
بس أنت اللي مش عايز تنقذ نفسك يا سلطان.
أنا ما بطلبش منك غير تبطل الدم، تبطل تبقى السبب في وجع ناس تانية… تبطل تكمل طريقك على جثث غيرك.
اقترب منها ببطء، عيناه لا تلمعان بالغضب فقط، بل بالحيرة… والخوف.
همس بصوت خفيض كمن يعترف للمرة الأولى: أنا اتولدت لقيت نفسي في الشغل ده…ماعرفتش غيره.
انا ابن القتل، وتلميذ الصفقات، ووارث الخوف…
مافيش باب للخروج.
صرخت به وهي تضربه على صدره: إنت اللي قافل الباب!
إنت اللي مش عايز تخرج…
تراجع، يلهث كمن كان يركض داخله، ثم همس، وصوته يغص:قسمًا بعظمة اللي خلقك، لو حد غيرك يا ضي، كنت رميته من فوق السور بإيديا… لكن إنتي…
إنتي النقطة اللي بتغرقني، ومش قادر أتنفس من غيرها!
انا همشي قبل ما أعمل حاجة أندم عليها…
تراجع خطوتين، ثلاثا… ثم استدار وفتح الباب، والهدوء الذي تبعه كان ثقيلا كجثة.
قبل أن يغادر، التفت إليها للحظة… لم يقل شيئًا.
وأغلق الباب… كأنه أغلقه على قلبه.
انهارت ضي علي الأريكة تبكي بحرقه…
مر الوقت وكان الليل قد تمدد على المكان كجثة باردة…
وكل ركن في الفيلا يئن من أثر صراخ، من أثر انكسار، من حفيف خطوات خرجت كالعاصفة… وخلفت وراءها سكون يطرق القلب كالمطرقة.
تكورت ضي على الأريكة كجسد مغمور في العدم.
الماء يقطر من ثوبها وشعرها، لكن البرودة الحقيقية لم تكن من البلل…
بل من ذلك الفراغ الموحش الذي خلفه حين تركها ومضى.
لم تكن ترى شيئًا حولها، فالعتمة في عينيها كانت أشد من ظلمة الغرفة…
والغصة في صدرها… كجدار ينهار ببطء، على أنقاض قلب لم يعد يعرف كيف ينبض.
وضعت كفيها المرتجفتين على وجهها، وارتج جسدها بنشيج مخنوق… ثم همسة كأنها تكفن نفسها بالكلمات:
يا رب… أنا مش قادرة… مش قادرة أكرهه… ومش قادرة أحبه كده…
كأن الصوت خرج من قاع روحها.
كأنها تعترف لظلها، لنفسها، لجدران باتت تشهد على عشق يشبه الانتحار.
احتضنت وسادة مبتلة، تضمها بذراعين ضعيفين كأنها تحاول اختلاق دفء لم يعد موجودًا وغمغمت بدموع:
أنا بعشقه… آه والله، بكل سواده…بكل غله…بكل جنونه…
لو دخل النار هدخل وراه،
ولو وقع، هموت قبله عشان ما حسش بالوجع.
شهقت… شهقة من يسقط من شاهق ولا يدري إن كان الموت أرحم.
ثم انتفض صوتها وهي ترفع عينيها للسقف:
بس تعبت…من وقت ما عرفت وأنا قلبي بيتقبض…
خايفة يضيع مني خايفه ياربي !!
مدت يدها المرتعشة نحو الفراغ، كأنها تنتظر أن تمسك شيئا ينقذها… لكنها لم تمسك سوى الهواء وهمسة:
هو مش شايف…مش حاسس…أنا كلي خوف عليه،
وهو كله عناد..
ثم أنزلت يدها ببطء كمن يسلم روحه، وتهاوت بعينيها للعدم: أنا مش عايزة منه حاجة… مش عايزة بيت، ولا ذهب، ولا عز…أنا عايزة بس يفضل حي… سلطان يفضل حي…
همسة باسمه، وارتجف جسدها: سلطان…أنت كل اللي باقيلي…ولو رحت… أنا خلاص، هاروح.
سكنت للحظة… لحظة بدت كالعمر…ثم غمغمت، بصوت مبحوح ممزق: أنا بخاف عليك أكتر ما بخاف على نفسي…بغير عليك من نفسك، من سلاحك، من الدم اللي عايش فيه… بس مش هتحمل أشوفك بتضيع…
تنهدت، تنهيدة اقتلعت معها آخر ما تبقى فيها من صبر، وأسندت جبينها إلى الوسادة: رجعهولي يا رب…
رجعه حتى لو غصب عني…حتى لو راجع يقتلني…
أنا قابلها ..
وغابت في صمت… ليس صمت الراحة، بل صمت من ينتظر موته ببطء، وهو يدعو في سره: يارب ميمتش… وبس يرجع..
في الخارج، كان الليل ينكمش فوق صدر سلطان كصخرةٍ سوداء.
السيارة متوقفة أمام الفيلا، والمحرك صامت، لكن داخله يشتعل…هو لم يستطع أن يبتعد… ولم يستطع أن يبقا
كان يعرف أنها ما زالت هناك، حيث تركها.
نصفها غارق… ونصفها الآخر غريق.
رن الهاتف.
اسم الجد الهواري الكبير أضاء الشاشة.
رد بصوته الذي فقد لونه: أيوه يا جدي…
جاءه الصوت صافيا كحد السيف: إنت فين؟ واخد مراتك فين كل ده؟ تعالى… عايزك..
أغلق المكالمة دون رد…هو لا يملك الكلمات، فقط يملك قلبا ينزف وصمتا يحتضر.
ترجل عن السيارة كمن يخرج من عزاء نفسه.
خطوته بطيئة… لكن قلبه يسبقها وهو يشتعل على أطرافه.
دلف الفيلا بهدوء مريب…كان يعرف أنها لم تتحرك…
وكان على صواب.
كانت كما تركها تمامًا، على الأريكة، تجلس بجسد لا يتحرك، كأن الحياة قد انطفأت فيه.
رأسها منحن للأمام، ويديها تضم ساقيها الي صدرها … وعيناها لا تنظران لأي شيء.
وقف أمامها لحظة، لم تنطق، ولم ترفع بصرها إليه.
قال بصوته الجاف المتعب: قومي يا ضي… هرجعك الحارة…
نظرت إليه…. نظرة واحدة فقط، لا لوم فيها ولا رجاء… فقط رماد.ثم نهضت
دقائق، وكانت قد بدلت ثيابها.
خرجت شعرها مبتل، وعيناها مطفأتان كقنديل انقطع زيته…. مشيا معًا نحو الباب…لكن الصمت كان يصرخ بينهما….
……………………………….
في الحاره في منزل الهواري ..
كانت الأنوار مشتعلة…
لكن الجو ثقيل، كأن شيئا يتربص بالبيت.
في الصالة، جلس الجد الهواري، وعاشور، وبطه، وعايدة، وحياة…
حديثهم كان خافت حتى انفتح الباب.
دلف سلطان وخلفه ضي…
في لحظة، سكنت الحروف وسكنت الأنفاس.
ونظر الكل إليهما بدهشة …
إلى سلطان بوجهه الذي تغير…
وإلى ضي، تلك الفتاه التي كانت تشع حياة، وها هي الآن تمشي كظل مبتور.
نهضت عايدة واقتربت منها بقلب أم وقالت :
تعالي يا بنتي… تعالي في حضني…
لم تتكلم ضي ، لكنها سقطت في حضنها.
سقطت كأنها كانت تمسك بألم العالم وحدها، ولما وجدت أما حقيقية، انهارت فيه.
أما سلطان، فقد وقف لحظة يتأمل المشهد.
ثم استدار، وصعد إلى الطابق العلوي دون أن يتفوه بكلمة.
صمت ثقيل تبعه، بينما الباب أغلق خلفه ببطء…
وكأن الروح التي كانت بينهم، انسحبت مع وقع خطواته.
في الخارج وقف سلطان يحدق في الظلمة. يسمع صوت بكائها وهي في حضن أمه، وصدره يعلو ويهبط كأن قلبه يصارع ضلوعه. لم ينزل. لم يتكلم. فهو يعرف أن بعض الأخطاء… لا تصلح بالكلام.
……………………………………………….
في صباح دافئ من صباحات الحارة…
كان الضوء يتسلل إلى الأزقة الضيقة كأصابع حانية، تعانق وجوه الناس النائمة على عتب الأيام.
ومع أول حركة في الشارع، وقف هذا الغريب عند طرف الزقاق، يلتفت حوله كمن يبحث عن ظل يطارده، أو وجهه طال شوقه إليه.
اقترب منه بريزة، صبي القهوة، وهو يمسح يديه بمنديل قديم متسخ، وهتف بصوت يحمل ود الحارة وفطنتها: خير يا أستاذ؟ يلزم خدمه؟!
رفع الشاب نظره، وأجاب بهدوء: كنت عايز أعرف محل الدهب بتاع المعلم خليفة الهواري… والد الآنسة تقي.
ولم يكن يعرف أن لسانه قد أشعل النار في صدر راجح البعيد والقريب في نفس الوقت ،نهض راجح من على أحد الكراسي الخشبية المهترئة عند ناصية القهوة،
لكن لم ينهض راجح بل ذاك العاشق الذي لا يتسامح مع الغرباء الذين يحومون حوله أنثاه…
هز رأسه ببطء، وكأن اسمه نودي، اقترب منه بتثاقل، وضع الهاتف في جيبه، ونظراته تفلق الحجر، وصوته خرج من عمق صدره كأنه يغلي: عايز اي يا شبح؟
رفع الغريب حاجبيه بدهشة، وعدل من وضع ياقة قميصه، ثم قال بثبات لا يخلو من الحذر: كنت عايز أقابله في موضوع شخصي..
أشار راجح إلى بريزة بإيماءة صامتة، وهتف بحدة: انطر إنت ياض
فأومأ بريزة مطيع وانصرف مهرول يهتف من بعيد: أيوووووه جاااااي!
التفت راجح إلى الغريب ومد إليه علبة سجائره : اتفضل يا ريس.
هز الشاب رأسه بلطف، وربت على صدره معتذرًا: تسلم، متشكر… مبدخنش. ممكن بس تدلني الله يكرمك؟
أومأ راجح برأسه وهو يخرج دخانًا كثيفًا من صدره، ثم تمتم بنبرة ظاهرها الهدوء، وباطنها يقطر نارًا: هدلك أكيد، أمااال!
بس باين عليك متعرفش المعلم خليفة… أصل هو حمايا.
قطب الغريب حاجبيه في دهشة حقيقية، وسأل: إزاي؟! لما سألت قالوا عنده بنت واحدة… الأنسة تقي؟!
ربت راجح على كتفه ببطء، كمن يمهد لضربة، ثم قال بنبرة متوترة: اسم الله عليك… هي تقي فعلاً، مفيش غيرها.
بس مع تصحيح بسيط: مدام، مش آنسة… مراتي.
اتسعت عينا الغريب بدهشة، وقال بصوت شبه مرتبك: إزاي حضرتك؟! أنا عمري ماشفت في إيديها دبلة.
عندها، اشتعل الغضب في عيني راجح، واقترب منه فجأة وقبض على ياقة قميصه بقوة، ثم هدر بنبرة تحرق الهواء:احنا يابا مش بنشبك بدبل زيكم!إحنا بنشبك بطوق في الرقبة… بيطلع بدم وبس، غير كده؟! إحنا مكملين!!
بلع الغريب لعابه بصعوبة، وتراجع خطوة وقال بارتباك: أنا آسف… والله مكنتش أعرف.
أنا زميلها في المدرسة، وفي شغلها… ومخدتش بالي إنها متجوزة!
دفعه راجح بقوة تراجع معها الشاب عدة خطوات متعثرة، أخرج راجح سلاحه الابيض وفتحه بحرك خاطفع ثم زمجر: غووور قبل ما اخليها تحفر فيك.
هز الغريب رأسه بخوف، وتراجع مسرعًا كمن نجا من بين أنياب نمر ، واختفى عن الأنظار.
تنفس راجح ببطء، وسحب نفسا عميقًا من سيجارته، ثم نفثه إلى السماء…
كأنما يطفئ شيئا لم ينطفئ أبدًا.
………………………………….
في شقة عز الهواري…
فتحت عليا الباب وهي تضع يدها على قلبها من فرط الدهشة، حين رأت عايدة واقفة، وإلى جوارها شابان يحملان شيئا ضخم مغلق بأحكام …
همسة باستغراب وهي تزيح خصلة شعر عن جبينها: إيه ده يا مرات عمي؟
ابتسمت عايدة بتلك الابتسامة التي تجمع بين الحنان والحزم، وأشارت بيدها وقالت: استني يا بت… ادخلوا يا ولاد، حطوها جوه.
تقدم الشابان بخطى سريعة، ووضعا الجهاز في منتصف الصاله، ثم تراجعا بخفة. رفع أحدهم يده بأدب وهتف: تأمري بحاجة تاني يا ست الكل؟
هزت عايدة رأسها بالنفي وهي تخرج مبلغا كبيرًا من حقيبتها وتعطيه له:تسلم يا حبيبي… بالسلامة.
قال الآخر وهو يرفع يده بتحية شعبية أصيلة :من يده منعدمهاش يا ستنا.
أغلقت عايدة الباب خلفهم، ثم التفتت إلى عليا التي كانت واقفة في مكانها، مشدوهة، لا تفهم شيئًا.
فتحت عايدة حقيبتها مرة أخرى، وأخرجت منها مجموعة من الملابس الرياضية الجذابة، تلك التي تكشف أكثر مما تستر، وقالت بنغمة مرحة:دلوقتي هتفهمي يا عيني مرات عمك… خدي يا لولو، البسي اللبس ده.
تناولت عليا الملابس، ثم رفعتها أمام وجهها بحذر، وهمسة وقد استبد بها الذهول:اللبس ده بيتلبس بصابون؟ ولا أزحلقه إزاي؟
قهقهت عايدة، ثم دفعتها برفق نحو غرفة النوم: يلا يا بت، بلاش غلبة.
دخلت عليا بخطوات مترددة، وبعد دقائق خرجت…
كانت ترتدي زيا رياضي مشدودًا على جسدها حتى خيل إليها أنها لا ترتدي ملابس، بل جلدا آخر فوق جلدها.
وقفت أمام عايدة وقد زاغت عيناها، وهمسة بصوت مخنوق: أنا مش قادرة أتنفس يا مرات عمي… اللبس ده طابق على مراوحي.
ضحكت عايدة، ثم حدقت فيها بدهشة صادقة وهتفت:
الله أكبر! إيه القمر ده يا بت؟ تعالي…
اقتربت عليا منها بتوتر، فمدت عايدة يدها وأمسكت بها بحنان وقالت بنبرة أم تقود ابنتها إلى أول خطوة نحو ذاتها: عايزاكي كل يوم نص ساعة جري على المشاية دي.
عايزاكي تبقي فرعة يا لولو، تبقي زي الفرسه العربية… تشق الهوا وما تتهزش.
ضحكت عليا، وقد أشرقت عيناها بدمعة حب، وهمسة: ربنا يخليكي ليا يا ماما… إنتي مش مرات عمي، إنتي أمي… وعملتي معايا اللي أمي، الله يرحمها، عمرها ما عملته.
ضمتها عايدة إلى صدرها بحرارة، وهمسة بحنان خالص:
يا بت، كده هتخليني أعيط… وأنا ست قلبي رهيف!
ضحكت عليا بخفة، وأجابت: إنتي… أول قلب قابلته في حياتي.
ربتت عايدة على وجنتها وقالت: ربنا كرمني بعز… ومكانش ليا نصيب في البنات.
بس كرمني بيكي إنتي، وبجنات، وبحياة ، وضي… ومحرمنيش منكو ابدا.
ضمتها عليا بقوة وهمسة من أعماقها: ياريتك كنتي أمي اللي خلفتيني.
قهقهت عايدة وقالت: أنا أمك برضو، غصب عن الدنيا.
يلا، اسيبك تتدربي… عايزاكي تقعدي ساعة كاملة. مفهوم؟
هزت عليا رأسها وقالت بابتسامة خجولة: مفهوم يا أمي.
خرجت عايدة، وعادت عليا إلى جهاز المشي.
وقفت عليه، ونظرت إلى الأزرار بدهشة، ثم ضغطت على زر التشغيل، وبدأت تمشي بخفة، وقد علت وجهها ابتسامة طفلة تكتشف شيئًا جديدًا.
همسة بخفوت وهي تضحك على نفسها: يالهوي… حاسة الأرض بتمشي وأنا بمشي غصب عني!
ومض الوقت، وبدأ جسدها ينسجم مع الحركة، وبدأ العرق يسيل على جبينها كنقطة ندى على ورقة ورد في الصباح.
إلى أن شهقت فجأة، على صوت لم تتوقعه.
صوت عز، المندهش حتى الصدمة: إنتي مين؟!
توقفت فجأة، وكادت تسقط، فأمسك بها سريعًا، وأوقف المشاية، وسحب يدها ليوقفها أمامه. كانت ترتجف، لكنه كان مسعوقا.: ردي عليا… إنتي مين؟! يعني مين؟!
إنتي جيتي منين؟!
نظر إليها من قدميها حتى قمة رأسها، بنظرات تائهة بين الذهول والافتتان، وهمس:إنتي طلعتي منين؟ من تحت الأرض؟ ولا نزلتي من السما؟!
حاولت عليا سحب ذراعها، وهمسة بتوتر: ف إيه يا عز؟ أنا عليا!
رفع حاجبه بدهشة أكبر، واقترب أكثر، وهمس:
عليا؟! عليا إزاي؟! من إمتى كده؟!
عليا اللي كانت بتتكسف من خيالها لابسة كده؟
إنتي… إنتي عايزة تجننيني!
مد يده ليضمها بعنف وهمس بعينين تشتعلان:
تعالي… ده أنا هفرمك النهارده، يا بت!
شهقت، ودفعته وركضت نحو الغرفة.
ضحك بمرح وهو يهتف خلفها:وراكي وراكي… ده أنا هطلع عينك يا بت!
هطلع عليكي مرار السنين اللي فاتت كله يا عليا!
أغلقت الباب، ووقفت خلفه، تتنفس بصعوبة، وقالت من خلفه بخفوت: عز… بطل جنان.
أنا بحضر مفاجأة… متبوظش الدنيا، اتقل عليا يومين بس.
عضّ شفته بعبث، وأجاب : دي فيها مفاجآت كمان؟
ده إحنا داخلين على أيام بيضا يا لولو.
ضحكت بخفوت وهمست من خلف الباب: قول يا رب… يا قلب لولو.
………………………………………
مر أسبوع… كأنه لا يقاس بالوقت، بل بالثقل.
الجميع في حالة هدنة…
صمت متبادل، نظرات لا تكمل جملتها، خطوات تؤجل قراراتها.
كأنه الحياة قررت أن تمنحهم مهلة…
لكن لا أحدًا يدري أهي مهلة استراحة؟
أم الهدوء الذي يسبق الانفجار؟
كانت ضي تختبئ خلف جدران الخوف، تحبس أنفاسها، تتمنى أن يبتعد ليبقى، وتخشى أن يقترب فتنكسر أكثر…
تخفي وجهها عن كل شيء، حتى عن الضوء…تصارع كوابيس بمفردها .. لا تنام كل ليلة، لكن تهوي في الفراغ،
تعود لتلك اللحظة التي رمت فيها جسدها من الشرفة،
تستيقظ مذعورة على نفسها تغرق… تفتح عينيها، فتجد جدران الشقة لا تختلف عن عمق المسبح.
اشتاقت الي سلطان حد الاختناق،
لكنها تأبى أن تنهزم…
تقاوم، تتعمد القسوة، تظن أن البعد قد يحرره من تاجرة الموت،
أن الصمت ربما يسمع أكثر من أي صراخ.
مضى أسبوع، لكنه بدا كدهر لا ينقضي علي سلطان
سلطان… ذلك الذي كانت خطواته تزلزل الأرض، بات يقف حائرا على حافة الجنون…
أعادها إلى شقة إخوتها بيديه، لكنه ترك قلبه معها، ثم لم يعد يرى، ولا يسمح له حتى أن يرى…
وسلطان لا يعرف أيكون اقترابه طوق نجاة؟ أم سبب غرقها الأخير؟
كلاهما في صمت، كأن الكلمات صارت حراما
أما عليا… فكأنها تنفست لأول مرة بعد غيبوبة طويلة.
باتت تتأمل جسدها في المراء بل خجل، بل بدهشة تشعر أنها أنثى تكتشف ذاتها من جديد.
تلمس بشرتها وكأنها ترممها، تنظر لملامحها وكأنها تخلق من جديد..
لم تعد تخاف من رغبتها،..بل بدأت تحبها.
وعز؟
يراقب من بعيد، بعين رجل أحب فانتظر،
لم يقترب، لم يستعجل،
ترك لها المساحة تتفتح كما تشاء،
فهو لا يريد جسدًا مستسلمًا…
بل روحًا تشتاق، وتطلب، وتحب أن تؤخذ.
كان عز يصغي لصمتها، ويصبر…
وفي قلبه أمل يشع، كلما رأى عليا تزهر في صمت.
جنات وياسر
في بيت لم تعد تشرق فيه الضحكات، جلست جنات خلف نافذتها لا تجرؤ على الخروج.
تخشى أن تصطدم عيناها بذلك الوجه الذي حفر داخله شيئًا تكرهه وتخافه وتشتاقه معًا.
تخشى أن ترى خالد، أو أن ترى نفسها من خلاله.
كلما تذكرت كلماته…
كلما تسربت تلك الغرابة إلى داخلها كسم بطيء.
تشعر أنّه عرف شيئًا عنها، لم تعرفه هي بعد.
حاولت أن تقترب من ياسر، أن تهمس له، أن تلمس يده في صمت،
وياسر؟
يحدق فيها كل يوم كأنها امرأة أخرى…
ليست تلك التي اعتادها.
يحاول أن يفهم، أن يسأل، أن يحتمل،
لكنّ المسافة بينه وبينها باتت أعمق من أن يرممها بكلمات عابرة.
وآية؟
حاولت أن تراه، أن تقترب، أن تلمس شيئًا منه…
لكنه يتفلت منها كالرمل، ويغلق كل باب.
أما عمار،
فقد صار يفر من كل شيء… منها، من نفسه، من الأسئلة التي تلاحقه كظله.
عمار لا يبحث عنها، بل عن إجابة تشفيه،
عن خيط واحد في ظلام الحيرة الطويل،
يفسر لماذا صار القلب يخاف، واليقين يهتز، والعقل لا يرتاح…
وهي تنتظره،
وهو… يبحث عنها في مكان لا تعرفه حتى هي.
وفي قلب الحارة…حكاية أخرى لا تنطفئ.
نوسة… جميلة الحارة ومجنونتها
وعلي… غريم الكلام والسكوت.
كل لقاء بينهما شد وجذب،
كل كلمة تقال تخفي خلفها عشرات الكلمات التي لا تقال.
لا هي تعترف، ولا هو يتراجع.
لكنّ نظراتهم تفضح، وتشتعل، وتترك الحارة كلها تتحسس النار بينهما دون أن تحترق.
الكل يترقب: من فيهم سيبوح أولًا؟ ومن فيهم سيكسر لعبة العناد؟
راجح وتقي ..
كل منهم يعيش حربه بصمت…
لكن الحقيقة الوحيدة أن القلوب، مهما حاولت الهرب،
تعود دومًا إلى ما يشبهها…
ولو بعد حين.
الكل في هدنة…لكن أحدًا لا يعرف: هل ما بعد هذا الصمت…سلام يرجى؟ أم حرب لا ينجو منها أحد؟
…………………………………..
في الحارة
خرجت ضي ولم تكن تدرك أن خطواتها تلك، ببساطتها، بجهلها لما توقده في صدره فقط … بل ستشعل حربًا…
خرجت ضي من بيتها بخفة الظل التي لا تفارقها، ببنطال ضيق، وقميص أسود بسيط.
لم تر في هيئتها شيئًا فاضحا، لكنها لم تكن تعلم أن سلطان… لا يرى مثل الآخرين.
هو لا يرى جسدًا.
هو يرى حدوده، حماه، ملكه…
وما خرج من حضنه، كأنه خرج من دمه.
كان يقف أمام محل ، يثرثر مع أحد العمال…
لكن ما إن لمحها… حتى انعكست ملامحه كلها.
تبدل وجهه، وانكمش قلبه، كأن وحشا قد خرج من صدره، وتمرد عليه.
اندفع نحوها كالإعصار، لا كلمة، لا تمهيد، فقط قبض على ذراعها بعنف مفاجئ جعل شهقتها تمزق هواء الشارع…
سحبها بعنف إلى مدخل العمارة، ثم دفعها خلف السلم كما لو كان يخفي كنزا محرما.
كان وجهه مشتعلًا، وأنفاسه تتلاحق، ونظراته كالسكاكين.
هدر بصوته الأجش، المشتعل بالغيرة والجنون: إنتي نازلة كده ليه يا بنت الـ ؟! ماشية في عرض أزياء؟!
شهقت، ارتبكت، حاولت التملص… لكنه سد عليها الطريق بجسده، دفعها نحو الحائط كأن الحائط صار جدار اعتراف وصاح : مش قلتلك اللبس ده ما يركبش عليكي؟! هو أنا قليل؟! راجل ناقص يِبص على جسمك؟!
أنا طرطور في نظرك؟!
همسة بخوف: سلطان… ده لبس عادي، وأنا نازلة أجيب حاجة من تحت بس…
ضحك ضحكة قصيرة، باردة، تنزف سخرية موجعة: عادي؟! ولو واحد ابن مره بصلك؟ عليا النعمة أشرب من دمه… ده أنا ألبس قضية وما تفرقش معايا!
قبض على وجهها بين كفيه بخشونة، نظر في عينيها نظرة لم تفهمها… هل كانت حبا؟ غيرة؟ أم انتقام من كل شيء ياقترب منها وهدر : أنا مش بحبك وبس، أنا بعتبرك بتاعتي… ملكي…واللي يلمحك، يدفع التمن،
وانتي كمان… يا تبقي ليا زي ما أنا عايز، يا إما أدفنك…
يا يلمك حضني… او التراب يا ضي فاهمة؟!
ارتجفت شفتيها، وهمسة بصوت يملؤه الرعب والخذلان:
إنت مش طبيعي… بتخوفني يا سلطان…
اقترب منها أكثر، لم تعد هناك مسافة، لم تعد تملك أنفاسها، حتى الهواء صار أسير قبضته.
سحق جسدها بجسده، وغمغم بصوت خفيض، أغمق من الليل، أوقح من الغيرة، أخطر من الحب: مافيش حاجة اسمها أخوفك… خافي، خافي مني…أنا هكون نارك،
وهكون الراجل الوحيد اللي ليه في كل تفصيلة فيكي…
وأي عين غيري تشوفك؟ تشوف الموت.
رفع يده إلى كتفها، وجذب طرف القميص حتى انزلق قليلًا، وألقى نظرة خاطفة على بروز نهديها، ثم همس في أذنها بصوت خنقته النار: اللبس ده؟ لو عليا كنت حرقت هدومك كلها، أو قطعتهم من عليكي وإنتي في حضني،
وألبسك بمزاجي… عشان الدنيا كلها تعرف إنك بتاعتي،
إنك مراتي، غصب عن الدنيا.
شهقت بفزع، تراجعت، لكنها لم تستطع.
سحبها من شعرها بخفة، أعاد وجهها إليه، وقال بوقاحة جعلت جسدها يرتعش: بتبعدي ليه؟ ما انتي كنتي نازلة ترقصي للشارع!
والبوسة دي؟ هتفكرك ألف مرة قبل ما تحطي أي هدوم على جتتك!
وقبل أن تستوعب أو تتنفس…سحب وجهها إليه، وقبلها.
لا… لم تكن قبلة.
كانت زلزالًا…. إعصارًا… كانت نهشا
قبلة مجنونة، قبلة عقاب، قبلة رجل يريد أن يعاقب قلبها، وأنثوتها، وعصيانها… في قبلة واحدة.
ضغط شفتيه على شفتيها بجنون، كأنه يثبت عليها بصمته.
قبض على خصرها، وهمس بأنفاس متقطعة متوحشة:
لما أبوسك… باكلك، عشان محدش يشوف حاجه فيكي غيري بعد كده.
تركها بعد لحظة لا تقاس بالوقت، بل باللهيب.
صدرها يعلو ويهبط، شفتيها تنزف، عيناها تلمع من الصدمة، والنار.
وضعت يدها على فمها، وكأنها تتحسس أثر شيء لا يرى.
تلك لم تكن قبلة، كانت صفعة. كانت زلزالا.
همست بنبرة باكية، بصوت بالكاد خرج من بين أنفاسها:
ليه بتوجعني كده؟! ليه بتحب وجعي؟!
نظر لها سلطان، نظرة تفيض بالتملك والغل، وقال ببرود:
عشان بحبك… بحبك لدرجة بخافك… بخاف تروحي مني، بخاف حتى الهوا يلمسك… إنتي بتاعتي غصب عننزلت دمعة واحدة… ثقيلة.
دمعة كأنها تحمل كل الخوف، وكل الحب.
وهمسة بصوت منكسر: أنا مبقتش عارفة أحبك ولا أهرب منك…إنت بتخنقني يا سلطان…
كل مرة تقول بحبك، بس وجعي منك بيوجع أكتر من الكره.
اقترب منها هذه المرة بهدوء مرعب، لعق الدم من شفتيها بطرف لسانه، وقال بصوت منخفض: بس لسه واقفة قدامي…بتعيطي، بس ما مشيتيش…عشان قلبك في إيدي…وعمري ما هسيبه يفلت، حتى لو نزفت عشانه، أو نزف عشاني دمي كله يا ضي.
انفجرت ببكاء خافت، واتكأت عليه.
دفعته بيديها المرتعشة، لكنه لم يتحرك، بل حاصر خصرها بذراعه، وجذبها إليه بقوته المعتادة.
قال وهو يحتضنها بقسوة تليق بعشقه:
عيطي براحتك…بس ما تنسيش…
إنتي ليا…دمعك ليا…خوفك ليا.
وحتى انهيارك ده… ملكي، وبيأكدلي إنك عمرك ما هتعرفي تهربي من سلطان الهواري، يا بنت البدري.
لكزته في صدره، لكنها تشبثت به… كأنها وسط نار تحرقها، لكنها لا تعرف كيف تهرب منها، ولا كيف تطفئها.
ضمها بعنف كأنما يريد أن يزرعها بداخله، أن يطفئ بها شيئا يشتعل في صدره…
اشتد عناقه حتى سمع صوت طرقعة عظامها، وتهاوى جسدها المرتجف بين ذراعيه كغصن رقيق أعيته العاصفة.
شعرت بانهيار كامل، كأن أنوثتها أُربِكت بين احتياج وخوف…
ثم دفعت صدره بكل ما بقي فيها من مقاومة، وركضت نحو الدرج بخطوات متعثرة، يكاد يسبقها ارتجاف قلبها.
وقف سلطان مكانه، لا يتحرك…
عيناه تتبعانها وهي تصعد، لكن قلبه كان ينزف حسرة ووجعا،
كأن شيئا بداخله قد انكسر…
كأنها لم تهرب منه، بل هربت به…
وتركته وحيدًا يلوح لنفسه من بعيد.
…………………………………………….
في اليوم التالي… داخل محل الهواري
كان الصباح ثقيلا، كأن الوقت نفسه يأن من وجع لا يقال، والشمس تتسلل من الزجاج المغبر وكأنها لا تجرؤ أن تضيء الحكاية الموجعة الجاثمة على أنفاس الجميع.
دلفت آية بخطى بطيئة، كأنها تمشي في حقل من الأشواك…
عينان دامعتان، وصدر يعلو ويهبط بندم ثقيل.
توقفت أمام المكتب، حيث يجلس عمار، ساكنا، غائب النظرة… عيناه لا تتحركان، لكن داخله كان عاصفة.
همسة بصوت مبحوح، يحمل نبرة من تحطمت أجنحتها:
عمار…
رفع رأسه ببطء، كأن صوته أيقظه من غيبوبة.
نظره إليها كان كجمرة… يحرق ولا ينطفئ.
وقف، ببطء كأن جسده أثقل من أن يحمل، وتمتم بجمود قاس: آية…
أومأت برأسها، ولم تستطع كتمان دموعها أكثر.
خرج صوتها كنحيب طفل حرم من حضن أمه: وحشتني أوي… يا قلب آية.
ضغط على شفتيه، كأنه يحبس شيئًا بين صدره، ثم قال بصوت ممتلئ بغضب خافت: حرام عليكي… بتصعبيها علينا ليه؟
قلتلك خليكي بعيد… لحد ما أعرف الحقيقة كلها.
في الزاوية اليمنى من المحل، وقف سلطان…
مستندا إلى الحائط، يهز رأسه بيأس، يتابع انهيار صديقه كمن يرى أخاه يغرق وهو عاجز عن إنقاذه.
رفع حاجبه بضيق، كأن هذا الجنون لا نهاية له.
أما آية، فلم تعبأ بكل شيء سوى وجهه، صوته، رائحته، رجفته…
اقتربت خطوة، مدت يدها ولمست أطراف أصابعه:
عمار… أنا مش قادرة أتحمل غيابك.
هز رأسه بعنف وهو يتراجع خطوة، ثم قال بحدة حارقة:
آية… أنا أبويا اتقتل.
وأبوكي وخلف… ليهم يد في موته!
أنا مش قادر أتحمل الغدر ده كله.
أغمضت عينيها، وكأن سكينا شهر في صدرها، ثم اقتربت أكثر، ووضعت يدها على صدره، وانهار صوتها بالرجاء:
إنت اللي قولت… بابا وخلف، أنا ذنبي إيه؟
أنا ماليش ذنب يا عمار!
قبض على يدها بقوة، كأنها الجمر… ثم هدر فجأة، والدم يغلي في عروقه: وانا ذنبي إيه؟!
واخواتي؟ اللي حياتهم ادمرت… وأبويا اللي مات غدر؟
كل حاجة حلوة ضاعت…إحساس الذل، والنقص…
أني أضعف من إني أحمي حقي، وحق إخواتي، وشقى أبويا سنين…وكل ده من تحت راس أبوكي!!
توقف لحظة، ثم تابع بانهيار مرير: أنا تعبان… تعبان أكتر من الكل…أنا جوايا نار… لو طلعت، هتحرق الدنيا كلها يا آية!
دفعها بجسده دفعة واحدة، لا بقسوة اليد… بل بثقل القلب، ثم صرخ: سيبيني في حالي…وبلاش انتي كمان تكوني عليا!إحنا خلاص… بقينا شرخ ودم.
وأنا مش هقدر أتحمل ده!
تراجعت آية وهي تشهق بعنف، وكأن قلبها انكسر تحت قدمه.
دموعها تنحدر كالمطر، لكنها رغم انكسارها… همسة بصلابة الروح: حتى لو ده قرارك… أنا هفضل أحبك… وهفضل مستنياك، لحد ما تفهم إني… مليش ذنب.
لم يرد.
أغمض عينيه، كأن كل حروفها سكاكين تجرح ما تبقى منه، وتركته ترحل.
وحين خرجت بخطى متعثرة، جلس على الكرسي كأنه انهار داخله.
انحنى بجسده إلى الأمام، ووضع يديه على وجهه…
وصوته لم يخرج، لكن داخله…
كان يصرخ كمن يختنق، وحبل الغدر يلتف على عنقه حتى كاد يزهق روحه.
لم يتحمل سلطان أكثر واندفع كالعاصفة، ويداه تهويان على سطح المكتب بعنف، وصوته يجلجل من الغضب:
إنت عر* وجبان يا عمار!
رفع عمار رأسه بذهول، وكأن الصفعة لم تكن في الصوت فقط، بل في القلب أيضا: إيه يابني، إنت هبت منك؟ في إيه؟
تقدم سلطان خطوة، وعبث الغضب بنبرة صوته حتى صار كالسوط: وكمان مش عارف في إيه؟! البت بتحبك… دايبة فيك يا أسطى، وانت بتدوس عليها بجزمة جبروتك!
وهي أصلاً مالهاش ذنب في وساخة أبوها ولا ابن الـمـ التاني، وبرضو متمسكة بيك، وشرياك بروحها…
وانت؟ سايبها في بيت راجل مايتأمنلوش حتى على بنته!
ابتلع عمار غصته بصعوبة، وارتجف صوته وهمس:
بس يا سلطان… مانت كمان حالك مقلوب مع ضي، وأنا ملاحظ من أسبوع… وساكت، ومش عايز أدخل بينكم.
لكن سلطان لم ينتظر، بل دفعه دفعة خفيفة وغرز كلماته في قلبه: بلا سلطان بلا قطران! اللي بيني وبين مراتي زي أي راجل ومراته…
يوم حلو ويوم مر، بس في الآخر هي على ذمتي، تخصني، في بيتي، تحت جناحي!
بس إنت… انت اتلحح يابا !
البِت دي لو ضاعت منك، هتعض قفاك من الندم!
اتجوزها… حطها في بيتك… وكلوا في بعض براحتك وقتها!
لمعت عينا عمار كأن الكلمات أشعلت فيه نداء الحياة…
ركض للخارج وكأن جناحيه انفردا فجأة، وهتف من عمق وجعه: ينصرك ربنا يا جدع… أنا كنت هتجنن!
نظر إليه سلطان بدهشة وهو يضرب كف بكف:
معتوه الواد ده ولا إيه؟
في الخارج…
ركض عمار كمن يركض للحياة، يبحث في الوجوه، في الأزقة، في عطرها…حتى وجدها.
كانت آية تقف جوار سيارتها، وجهها منطفئ، خطواتها ثقيلة كمن تجر قلبا مهشما.
هتف بأعلى صوته، كأنها النجاة: آآآية!
استدارت ببطء…
ثم كأن الزمن توقف فجأة.
رأته.
ودون تفكير ركضت إليه، باكية، غير مصدقة، فتح ذراعيه كمن يحتضن عمرا ضائعًا…
اندفعت إليه كالسهم، فضمها بقوة، ودار بها وسط الشارع كأن الكون كله صار لحظة واحدة.
همس بصوت متهدج: أنا آسف…
شهقت بقوة، وشدت على قميصه كأنها تخشى أن يفر:
اشش… اسكت… أنا آسفة، وبموت فيك!
أنزلها برفق، ومسح دموعها بأطراف أصابعه، وهمس بخفة مرتعشة: تتجوزيني؟
ارتفعت حاجبها بدهشة كأن قلبها توقف عن النبض:
إيه؟!
ابتسم عمار بخفة وغمز: أيوه، تتجوزيني؟
أنا مش هسيبك ترجعي للناس دي تاني!
صمتت لحظة، ثم صرخت بجنون طفلة وجدت أمانها:
هنتجوز! مش هيسيبني… يا ناااس!
ركضت وسط الناس تمسك أذرعهم، تصرخ وهي تبكي وتضحك في نفس اللحظة والناس تنظر لها بدهشة وذهول :هيتجوزني! مش هيسيبني أرجع!
تعلقت برجل مسن يمر جوارها، وهتفت بجنون:
هيتجوزني يا عمو!
ضحك العجوز بطيبة وقال: مبروك يا بنتي… الله يتمم بخير!
ظهر سلطان من بعيد، يتأمل المشهد بعينين نصفهما دهشة ونصفهما سخرية دافئة…اقترب، ورفع حاجبه وهو يقول ببرود : البت لسعت يا جدع!
ضحك عمار، بينما حاول إيقافها جنونها :
بس يا مجنونة! إيه اللي بتعمليه ده؟ تعالي كفاية فضايح بقا!
نظرت إليه آية بدهشة طفولية ثم أشارت إلى سلطان وقالت بمرح: شوف مين بيتكلم عن الجنان؟!
سلطان رفع يده بيأس وهو يضحك: مبروك يا مجانين… شكلي هتجنن معاكم كمان!
………………………………………
في شقة عمار البدري…
كان الليل يهبط على الحاره بثقل خفي، بينما وقف سلطان الهواري أمام باب الشقة، وعيناه تضرمان بنيران لا تهدأ.
زم شفتيه بقهر مكبوت، ثم رفع قبضته ودق الباب كأنما يدق على قلبه هو.
انفتح الباب… وظهرت ضي.
شهقت، لكنها تماسكت، وكأنها ترفض أن تضعف أمامه مرة أخرى.
غمغمت، بصوت منكسر، لكنه مشحون بالمرارة:
عايز إيه؟ مش كفاية اللي عملته فيا امبارح؟!
شد قبضته أكثر، وكأن الكلمات تحفر في جلده، وهدر بصوت خافت، يقطر تهديدا: متفكرنيش… ده أحسن ليكي.
أنا جايبلك لبس يكفيكي ميت سنة!
وقلتلك ألف مرة… لبسك اللي كنتي بتلبسيه ما يركبش عليكي تاني!
ربعت ذراعيها حول صدرها، وأطلقت كلماتها بحدة، كأنها تطعن:ومش هلبس من اللي انت جايبه!
مش هحط على جسمي لبس جايبه من فلوس الدم!
فلوس الناس اللي بتموت بسبب السلاح اللي إنت بتاجر بيه!
انتفخت عروقه ، وضرب كفه بالباب بعنف دوى في السكون، ثم انقض على ذراعها وقبضها بعنف جعلها تأن، وهدر من بين أسنانه: إنتي ليه مش عايزة تفهمي؟!
اللي أنا فيه… غصب عني!
مش سهل أطلع من الدايرة دي من غير ما أخسر حاجة…
تراجعت، والألم يسري في ذراعها، لكنها صرخت وهي تدفعه بيدها المرتجفة: إنت حتى مش بتحاول!
ولا مره! إنت لسه فاكر إنك ضحية؟!
حدق في عينيها لحظة، ثم تنفس بصعوبة كأن صدره ضاق، وغمغم بصوت مبحوح: كان لازم تقفي جنبي…
بس لأ…أنا كنت غلطان!
غلطان إني افتكرت إنك مراتي… وإن مفيش أسرار بينا!
ما كنتش أعرف إنك لسه عيلة!
ابتلعت غصتها بألم، ودموعها انسابت بصمت موجع.
كان ينظر لها… كمن يرى أطلال حبه تحترق.
ثم تمتم بصوت ميت: أنا مسافر… وهريحك مني.
ثم استدار.
وهبط الدرج بخطى مسعورة… كأن الأرض تنهار تحت قدميه.
أما هي، فشعرت وكأن يدا غليظة ضغطت على صدرها بكل ما أوتيت من ثقل.
انكمشت، وبدأت تتخبط بالجدران كأنها تتهاوى من ارتفاع شاهق.
كل شيء حولها بات باهتا، أصوات الشارع، ضوء الغرفة، حتى تنفسها صار رفاهية بعيدة.
سقطت على الأرض…
يده على الباب لا تزال ترن في أذنيها كطلقة…
وكل ما يتردد في صدرها الآن… كلمة واحدة.
“الموت.”
في المساء…
فتح عمار الباب وضحكة خافتة لا تزال على وجهه، ترافقه آية التي كانت تثرثر في شيء لا يذكره أحد…
لكن كل شيء توقف…الضحكة ماتت، والهواء نفسه تجمد.
عندما سقطت عينه علي ضي الممددة على أرضية المطبخ…
جسدها ساكن، وجهها شاحب كأن الموت قد جلس عند رأسها منذ زمن.
شهقت آية، وصرخت بفزع: ضييي!!
ركض عمار كمن فقد عقله، وجثا عندها، احتضنها وهو يصرخ بصوت مختنق: ضي! في إيه؟! إيه اللي حصللك يا حبيبتي؟!
ربتت آية على وجهها، تبكي وتصيح بجنون: فوقي يا ضي… فوقي بالله عليكي! متخضناش كده!
لكن لا إجابة….جسدها بارد، لا يستجيب.
رفعها عمار بين ذراعيه، كأنها طفلته الهشة، وهتف بلهفة تكسر الحيطان: يلا على المستشفى بسرعة!
وخرج بها، والدمع على وجنتي آية يسابق أنفاسها…
والهدوء… هدوء الهدنه ما قبل النار يسبقهم
كان يسكن خلفهم كظل ثقيل يهمس كأنه يخبرهم
“لسه الحكاية ما خلصتش…”
ووووووووووووووووووو
متنسوش التفاعل ياحلوين بفوت والكومنتات
ساحره القلم ساره احمد 🖋️
🥰❤️🥰❤️🥰❤️
جمدان ياقلبي ❤️🥰