ناار وهدنه (الفصل الخامس عشر)

الفصل الخامس عشر
كان ذلك الذي خشيتُ عليه ألم شوكة،
هو ذاته من سمعت صليل سيفه يخترقني… لا في الجسد، بل في القلب.
أي مفارقةٍ تلك؟
أن يتحوّل الحِرصُ عليه إلى طعنةٍ منه!
ثمّة لحظات في الوداع،
لا نُسلِّم فيها الأيادي فقط… بل نُودِع معها قلوبنا، ونمضي نحاول التّعافي من خيباتٍ لا تُشفى.
لكن…
لا البوح يُطفئ ما في القلب من وجع،
ولا الدموع تسلّيني فتنهمر.
علقتُ ما بين كتمانٍ يوقظني في الليل كأنه جمرٌ تحت الضلوع،
وبين قلبٍ منهَكٍ، يذوب من شدّة الخذلان، كجليدٍ تحت وهجٍ لا يرحم.
لم يخِب ظنّي فقط…
بل خاب قلبي بأكمله.
وما حماني قلبي وأنا إلى جواره،
فكيف له أن يصونني عند الفراق؟!
بعض الخذلان لا يُنسى…
لأنه يأتي من أيدٍ، كنا نملأها بالخُبز والنقاء،
من أشخاصٍ…
أمّناهم على أسرارنا، على ضعفنا، على أرواحنا.
فإذا بهم يصرفوننا كأننا غرباء، على عتبة الوجع.
وآهٍ من الوجع…
حين يجيء ممن حسبناهم وطنًا.
رفع عينيه ببطء، ونظر إليها نظرة حيادية… كأنها مجرد سؤال روتيني، لا أكثر.
ثم قال بصوت منخفض، كلماته تقطع كالسكاكين:
شحنة أسلحة.
تجمدت الدماء في عروقها كأن شيئًا باردا مر في أوردة قلبها لا في جسدها فقط…
في تلك اللحظة…
شعرت أن قلبها هو من سقط على الطاولة لا الشوكة من يدها.
شهقة عميقة صعدت من جوفها… لا تحمل صوتاً، بل تحمل رعباً.
ثوان مرت كأنها دهور، جاهدت أن تتمالك ردة فعلها، أن تبتلع الصدمة كما تبتلع شيئا مرا دون أن تختنق.
شعرت كأن الأرض زاغت تحت قدميها، وكأن التاريخ الشخصي الذي جمعها به… تحول إلى وهم وتمتمت بصوت مخنوق: سلطان… اتكلم بجد؟
نظر لها بلا انفعال، وأردف بنبرة كأنها ختم النهاية:
أنا بتكلم بجد يا ضي… أنا عندي مصنع للسلاح !
كلمات لم تسقط على أذنها… بل على وعيها كاملاً، فجعلته يتهشم.
شحب وجهها فجأة، كأن الدم انسحب من عروقها، وشعرت بقبضة فولاذية تلتف حول معدتها، والغثيان صعد إلى حلقها كحمم لا تحتمل.
نهضت بصعوبه ووضعت يدها على فمها، وركضت بلا وعي، الي اتجاه أقرب مرحاض.
نهض خلفها وركض يحاول اللحاق بها
دلفت المرحاض وأغلقت الباب …لم تكن تبكي، بل كانت تفرغ … تفرغ كل ما أطعمه لها من ثقة، من أمان، من حب اعتقدته طاهرا
دق سلطان الباب بعنف وصوته يتردد، مشوشا، عاجزا عن اللحاق بانكسارها: ضي! ضي! افتحي يا حبيبي! افتحي يا بت اطمن عليكي!
انحنت على الحوض تفرغ ماء جوفها ،وهي تترنح، تبكي دون صوت، والدوار ينهش رأسها.
ثم… تحطم الباب بجنونه …لم تتوقع أن يفتحه. لم تتوقع أن يدخل…. لكنه فعل… كسره ودلف
ركض نحوها، التقطها بذراعيه، مسح فمها بكفه، لم يعبأ بشيء، فقط احتواها….
ثم قادها نحو الماء، وغسل وجهها بحنان يائس، وهمس بجنون القلق: ضي… ضي حبيبي… اهدي…
لكنها، ما إن استردت أنفاسها، حتى دفعته بكف مرتعش وصاحت: ابعد عني! اوعى تلمسني تاني! بإيدك اللي غرقانة دم… دي! انت فاهم؟!
اتسعت نظراته بالخذلان… بالحزن… بالغضب الذي لم يكن موجهاً لها، بل نحو شيء عميق بداخله وصاح : لا يا ضي… الموضوع مش كده…
لكنها كانت قد كسرت الحاجز الأخير… انهمرت دموعها ترتجف فوق وجنتيها … سحبت أنفاسها كما لو أن الهواء نفسه صار مؤذياً، واندفعت خارج المرحاض
لحقها، وهرول خلفها، صوته يتصاعد: ضي! استني! بطلي جنان!
ركضت، لم تلتفت، لم تتوقف، حتى وصلت الغرفة.
فتحت الباب، وحاولت إغلاقه، لكنه كان أسرع، دفعه بقدمه، ودلف وأغلقه خلفه بعنف زلزل الحائط.
وصاح بصوت لم يعد يحتمل: إيه؟ مش هنعقل ونبطل لعب العيال ده؟! هنفضل في الفرهدة دي كتير يا بت؟!
استدارت نحوه، كتفيها يهتزان من فرط الألم، ثم صرخت:إنت إيه؟! معندكش دم؟ ولا إحساس خالص؟
إنت حتى محاولتش تخبي عليا… أو تخاف عليا من الصدمة دي!
زي ما بتقول طول الوقت… أنا أمانك…
وأكتر حد بيخاف عليكي!
كل حاجة فيك كدب!!
اقترب منها، يقاتل على جبهتين… حبه وغضبه، وهتف:أنا محبتش أخبي عنك…عشان إنتي مراتي…
وأقرب واحدة ليا! اللي أنا قلته ليكي ببساطة…
أكبر من كده بكتير! ومحدش يعرفه عني غيرك… بره أبويا وأخويا وجدي!
دارت حول نفسها، كأنها تقاتل جدراناً تنهار عليها، ثم انفجرت: لا بجد؟ والله؟ المفروض أفرح يعني؟
ولا أحزن إني اتجوزت تاجر سلاح؟ عارف يعني إيه تاجر سلاح؟ يعني بتأجر في الموت! يعني قاتل بدم بارد!
إنت بتوصل الموت لناس ملهمش أي ذنب… غير وجود مجرمين زيك في الدنيا دي !!
عض على فكه، يحاول أن لا يفقدها وهتف : ضي اسمعيني أنا شغلي كله بره مصر… ومش بصدر جوه البلد أبدا!
ضحكت… ضحكة مشوهة بالمرارة وصاحت : يعني البلاد اللي بتشتغل فيها… الناس اللي فيها مش بني آدمين؟
لا، دول ناس…بني آدمين يا سلطان، بيموتوا بالسلاح بتاعك…مش عرايس ماريونت! دول أرواح…
العرايس بتقع لما الخيط يتفك… إنما الناس اللي إنت قتلتهم…خيط عمرهم اتقطع بمقصك! وإنت لسه بتسمي نفسك تاجر؟لا يا سلطان… إنت جزار! إنت تاجر الموت!!
صرخ بجنون الألم: أنا مخترتش أكون كده!
أنا طلعت لقيت نفسي كده… ده مش اختياري!!
همسة، والدموع تمزق صوتها: وأنا… مخترتش أتجوزك بإرادتي… بس هختار أسيبك بإرادتي يا سلطان.
اندفع نحوها، كأن ما قالته كان خنجراً طعن كبرياءه، وقلبه قبض على ذراعها بعنف، وصاح: ده لما تشوفي حلمة ودنك يا حلوة! انتي شكلك اتخدعتي في سلطان اللي غرقك حنيه … ونسيتي إن ممكن في لحظة أقتلك بإيدي… ولا تكوني لغيري! انتي فاهمة؟!
سحبت ذراعها، وصاحت بصوت يائس: حتى لو هتقتلني… عمري ما هكون ليك! بيني وبينك دم…
دم كتير أوي! بحر دم… ولا إنت هتعرف توصلي،
ولا أنا عندي استعداد أغرق معاك في بحر الدم ده!!
تراجع…
كأن كلماتها هي التي ضربته، لا يدها.
دار بجسده، وخرج، مغلق الباب خلفه بعنف يصم الأذن.
أما هي…
فانهارت، كما ينهار الحائط الذي أُنهِك بالضربات، وسقطت على الأرض، تبكي… تبكي حب صار قاتل…
وثقة ماتت على يد من أحبته أكثر من نفسها.
كيف كنت أتوهم الأمان في حضنه… وأنا أستحم في دمي!
……………………………
في منزل الهواري
في بهو الدرج، انفتح باب الشقة بخفة، وخرج منه إبراهيم يتبعه علي، كلاهما يهبط درجات السلم بثقة فتية وضحكة تعكس المرح
توقف علي أمام باب شقة عايدة، ودقه بأطراف أصابعه في إيقاع خفيف معتاد.
ثواني، انفتح الباب ليكشف عن حياة، ترتدي فستانًا صيفي بلون البحر، أزرق ناعم، تنسدل خصلات شعرها حول وجهها كغيمات مرحة.
صفر إبراهيم بإعجاب تلقائي وهتف: إيه القمر ده يا مفعوصة إنتي؟
ذمت حياة شفتيها بحنق ساخر وغمغمت، دون أن تخفي ابتسامتها:لازم الجملة عندكم تبدأ حلوة… وبعدين ترموني على جدور رقبتي؟! حرام بقا ..
قهقه علي وهو يتقدم، ونظر إليها نظرة كلها حنان أخوي وقال:لا متصدقيش يا حياة، إنتي أحلى من القمر… وأرق بنوتة.
ضحكت حياة بدلعها المعتاد، وغمغمت:ربنا يجبر بخاطرك يا عيلو ..
في تلك اللحظة خرجت بطة من الداخل، ونادت على ولدها: علي!
استدار إليها علي فورًا وقال بجديته المعتادة: أأمري يا أمي.
ربتت على وجنته بكفها الحانية، وهمسة بدعاء يقطر حبا:
ميامرش عليك ظالم… ولا ابن حرام، يا ضنايا. خلي بالك من البنات يا حبيبي.
أومأ برأسه، وصوته مطمئن وحنون: آمين يا أمي… متقلقيش، في عنيا.
قهقه إبراهيم وقال بنبرة مازحة: متخافيش يا بطوطة… إحنا معانا نوسة، يعني مش بنات أوي يعني!
لم تمر الجملة بسلام، إذ نظر إليه علي بحنق وقال في حزم:احترم نفسك يالا… دي نوسة ست البنات.
عند الباب، كانت نوسة تجمدت بارضها علي جملة علي وضعت يدها على صدرها، تشعر بأن قلبها يكاد يخترق ضلوعها من قوة الدقات…
الكلمات التي سمعتها منه كانت كفيلة بأن تبعثر اتزانها بالكامل.
تراجعت خطوتين قبل أن يلاحظ أحد انفعالها.وخرجت من جديد
خرجت حياة من غرفتها، وهتفت بمرح: يلا… أنا جاهزة!
أومأ علي، وخرج وخلفه إبراهيم وحياة، وجدوا نوسة تقف بالخارج، تستجمع أنفاسها، تحاول أن تخبئ ارتجافها الداخلي خلف قناع ثابت.
اقترب منها علي فجأة، وقطب حاجبيه بدهشة:
مالك؟ فيكي حاجة؟
نظرت إليه، وارتبكت، وخشيت أن يراها… أن يقرأ ما تحاول إخفائه، فاستعادت قوتها سريعًا، وتراجعت خطوة وهتفت ساخطة: مالي يعني؟ أنا زي الفل! خليك في حالك مش عايزين نحنحة من أولها… أنا جيت عشان بنتي خالتي متخرجش مع اتنين شحوطه لوحدها بس!
أغمض علي عينيه في ضيق من طريقتها، بينما صاح إبراهيم، وقد نفد صبره:إيه البت دي! الماسورة الأم! وانفجرت في وشنا!
ضحكت حياة وهتفت:انتو لسه شوفتوا حاجة؟ يلا يلا!
ركبوا السيارة السوداء الأنيقة، واحدة من سيارات عز الهواري الفاخرة، وانطلق علي بها بسرعة معتدلة.
بعد دقائق، توقف أمام أحد الكافيهات الراقية، على ناصية شارع يشبه المولات في تصميمه.
تأملت حياة المكان بدهشة، فيما هتفت نوسة وهي تنظر إلي المكان بدهشة :هو إيه المكان ده؟ لامؤاخذة يا متر!
قلب علي عينيه وقال بنزق مألوف: لا مؤخذتك معاكي ياختي… ده كافيه!
هزت حياة رأسها بعفوية وقالت: إحنا عايزين نروح الملاهي… ولا على الكورنيش… ولا سينما! نعمل إيه في الكافيه ده؟!
أومأت نوسة بقوة، ووافقتها:آه! هو كده! مش عايزين مكان ملازق كفايه اللي عندنا
قهقه إبراهيم، ونظر لها علي في المراه بنزق وهتف ابراهيم : اطلع يا متر! اطلع!
هز علي رأسه بيأس، وغمغم من بين أسنانه: يا صبر أيوب…
انطلق علي بالسيارة يشق الزحام بخفة، حتى توقف أمام أحد دور السينما ذات الواجهة الزجاجية الأنيقة، والتي تنبعث منها أضواء تغري المارة بالدخول.
ترجلوا جميعا من السيارة، قطعوا التذاكر بخفة، ودلفوا إلى الداخل.
جلسوا على التوالي: علي في المقعد الأول، إلى جواره نوسة، ثم حياة، ثم إبراهيم.
انطفأت الأنوار، وبدأ الفيلم، فاندمجوا فيه جميعًا، إلا عيني علي… التي كانت تنظر كل بضع دقائق إلى نوسة، متأملًا وجنتها وهي تضيء حين تضحك.
بعد وقت قصير، نهضت نوسة فجأة. التفت علي إليها باستفهام، وهمس:رايحة فين؟
رفعت رأسها في خفة وقالت: رايحة الحمّام… عندك اعتراض؟
هز رأسه نافيا، ثم نهض سريعًا، كأن شيئا ما بداخله يرفض أن يتركها تمشي وحدها: لا… تعالي أوصلك.
وضعت يدها على خصرها، وقالت بضيق: لا… أنا هروح لوحدي.
لكنه قبض على ذراعها، وسحبها نحوه، وغمغم من بين فكيه بانفعال مكبوت: يلا قدامي…يا أحسن واحدة تطلع الواحد عن شعوره… يخربيت دماغك.
خرجت أمامه غاضبة، تسحب ذراعها منه، بينما حياة وإبراهيم يكتمان ضحكاتهما من المشهد الكوميدي المعتاد بينهما.
وصل علي معها إلى باب المرحاض الخارجي، وأشار برأسه:ادخلي… وأنا هجيب فشار.”
أومأت برأسها، ودلفت.
تحرك علي بخطى ثابتة نحو بائع المأكولات.
اقترب من الكاونتر وقال بهدوء: عايز أربعة فشار، لو سمحت.”
أومأ له البائع، وبدأ في التحضير، فيما أخرج علي هاتفه من جيبه، يتصفحه بينما ينتظر.
لحظات فقط، حتى اخترق أذنه صوت جلبة غريبة، تعلو تدريجيًا، ومعها صوت أنثوي يعرفه جيدًا.
رفع عينيه بقلق، أعاد الهاتف إلى جيبه، وانطلق نحو مصدر الصوت.
اقترب من تجمع من الناس، وما إن اخترق الدائرة حتى رأى نوسة تقبض على ياقة أحد رجال النظافة، ووجهها مشتعل بالغضب، وصاحت :نعم يا روح أمك! راجل زيك ماله ومال حمام الستات؟ يا عمرررر!
كان الرجل يحاول الإفلات منها، يصيح: يا ست انتي! سيبيني! أنا مالي؟ ده شغلي… بنضف الأرضية!
جحظت عينا علي، واقترب منها بسرعة، يحاول نزع الرجل من بين يديها، وهو يصيح: يا نوسة… سبيه! فهميني، حصل إيه؟!
صاحت نوسة وهي تحاول لكم الرجل: الراجل الناقص العايب ده! طلعت من الحمام لقيته واقف قدام الباب!
صاح العامل وهو يتلوى: يا ستي إنتي مجنونة! أنا كنت بنشف الأرضية! شغلي والله!
نزع علي يدها بصعوبة، وهتف: بس! كفاية! الراجل بيشوف شغله… كفايه جنان يا ستي! هتجبيلي مصيبة!
اقترب شاب من الواقفين، ونظر إليهم باشمئزاز وقال بسخرية لاذعة: إنتي يا بت… امشي! اخرجي بره! يا بيئة… إزاي يدخلوا الأشكال دي هنا أصلاً؟!
تجمدت نظرة علي، وانعقد جبينه.
همس، بالكاد يسيطر على غضبه: أشكال؟!
وردت نوسة بصوت مشحون بنفس القدر: بيئة؟!
وفي اللحظة التالية…
قبض علي على ياقة قميص الشاب، وضربه بمقدمة رأسه مباشرة في أنفه، وهدر : أشكال؟! يا حيوان!!
انطلقت نوسة بزغروطة طويلة اخترقت أرجاء المكان، وسط ضحكات مفاجئة من الحضور، وكأن المشهد تحول إلى عرض مرتجل في قلب السينما.
اقترب رجال الأمن بسرعة، وبينما تقدم أحدهم للإمساك بـنوسة، سحبها علي خلف ظهره، ووقف في مواجهتهم، جسده مستعد للاشتباك، وعيونه تشتعل.
لكن فجأة…
علت صيحة رجل من خلف الحشد، بصوت عميق: بس! إنت وهو! إنتو متعرفوش ده مين؟
ده علي باشا البدري… يا بهايم!
تقدم المدير بنفسه بسرعة، وجهه يتصبب عرقًا، وهتف بابتسامة واسعة: أهلا أهلا علي باشا!
صافحه علي بهدوء وثقة، ورد باقتضاب: أهلاً يا فندم.
ربت المدير على صدره وقال معتذرًا: أنا آسف يا باشا… اللي ميعرفك يجهلك.
ثم التفت إلى نوسة التي كانت ما تزال تحدق فيه بدهشة، وقال: آسف يا مدام… أنا هتصرف مع العامل، وهجزيه !!
لكن نوسة لم تفوت الفرصة، وصاحت بشراسة: أيوه يا خويا! ده راجل واطي وعينه زايغة! عايزة أقلع عينيه! وده غلط علي سمعه المكان …
ارتبك المدير، لكنه تدارك نفسه بسرعة، وأومأ برأسه:
حاضر يا هانم… هنرفده خالص.
هزت نوسه برضا ..وهتف علي فجأة، بنبرة غاضبة:
لا طبعًا! متقطعش عيش حد… حرام. ويمكن يكون مظلوم، والآنسة نوسة فهمت غلط.
نظرت له نوسة بحنق، وازداد عبوس وجهها، لكن المدير أومأ وقال: اللي تشوفه يا فندم.
صافحه علي مرة أخرى، وشد يد نوسة التي كانت تتذمر خلفه، تسير متأففة، لكنه لم يلتفت.
خرج بها إلى السيارة، ليتنتظروا عودة حياة وإبراهيم بعد انتهاء الفيلم، فيما ظلت نوسة تتأفف في الكرسي، تتهامس لنفسها بكلمات غاضبة، وعينها تسرق النظر له… كل دقيقه
………………………………….
أمام شقة عمار
صوت خطواتها كان خافت، لكنه يدوي في صدرها كصوت زلزال.
وصلت أمام باب شقته، نظرت إليه كما ينظر الغريق إلى طوق نجاة على وشك أن يغرق معه.
رفعت يدها، وطرقت طرقات خفيفة… لم يرد.
انتظرت، ثم طرقت مجددًا، بقلبٍ يكاد يخرج من صدرها.
ثوان… ثم فتح الباب.
وقف عمار أمامها، ملامحه متحجرة، عيناه محتقنتان بالسهر والغضب والخذلان، وصوته خرج بارداً، كأن لا شيء بقي بينهما انتي جاية ليه يا آية؟
شهقت بهدوء، تلعثمت، وعيناها امتلأت بالدموع وهي وهمسة: جيت أشرحلك… عمار اسمعني بس، بالله عليك اسمعني…
هز رأسه بجمود، وخطى للخلف خطوة واحدة، لكنه لم يدعها تدخل : مفيش حاجه تتشرح… انتي عارفة أنا ليه سايبك، وده كفاية.
قالتها بانكسار وهي تمد كفها إليه: ما تبعدنيش عنك كده… أنا مليش غيرك والله… وأنا عمري ما كنت عارفه حاجة، أقسم بالله يا عمار…
قاطعها بنبرة غليظة، وكأنه يضغط على جرح قديم حتي لا ينسى : روحي يا آية… امشي من هنا قبل ما أقول كلام أندم عليه.
تقدمت خطوة، ودموعها تنهمر دون توقف: مش همشي… هافضل واقفة لحد ما ترد عليا، اضربني، زعقلي، بس متسكتش، متقفلش الباب في وشي، ده أنا…
صرخ، ويده ترتجف وهو يشير للباب: قلتلك امشي يا آية!!!
تجمدت في مكانها، وانسحب الهواء من رئتيها، لكنها تماسكت، رغم رعشة صوتها: مش همشي… ولو فضلت طول الليل على بابك، مش همشي… انت عمري كله يا عمار.
نظر لها مطولًا، وكأن قلبه بينهار داخله، كأنه لا يستطيع الصمود أكثر امامها …
اتجه فجأة ناحية الطاوله ، والتقط مفاتيحه وموبايله التاني، وتحرك ناحية الباب.
وقف أمام الباب ، وقال بصوت مبحوح: أنا اللي همشي… عشان لو فضلت ثانية كمان، ممكن آخدك في حضني وأنسى كل حاجة… وأنا مش عايز أنسى عايز النار اللي في قلبي تفضل مشعلله لحد ما ارجع حقي وحق ابويا!!
ثم خرج، وأغلق الباب خلفه…
صوت الباب وهو يغلق كان كطلقة، رنت في قلبها وهدت أوصالها.
ظلت واقفة، مذهولة…
يدها على الباب، وظهرها منحني من الوجع…
ثم انهارت على الأرض، تبكي كمن فجع في حبيبه، تبكي كأن كل العمر اتكسر لحظة ما ظهره اختفى من قدامها.
……………………………..
في السياره
كانت نوسة تجلس إلى جواره في السيارة، تطوي ذراعيها على صدرها، وعيناها تنظران من النافذة في عناد مشتعل.
الصمت يخنق المكان… لكن صوت أنفاسها المتوترة كان كافيا ليشعل الحرب من جديد.
فجأة، التفتت إليه، وانفجرت بصوت صاخب:
إنت شايف نفسك جامد؟ شايف إنك تمشيني على مزاجك، وتخرسني بحجة إنك الباشا؟!
لم يلتفت إليها… فقط شد على عجلة القيادة، لكن أعصابه كانت على شفا الانفجار.
لكنها صاحت من جديد : اصلا أنا مالي مين تبقى؟ باشا ولا رئيس جمهورية؟! ما يهمنيش! مش من حقك تمد إيدك عليا، ولا تمسكني كده ولا تجرني وراك كأني كلبه !
هنا التفت إليها فجأة بعينين تتوهج بالشرر، وصاح بصوت خافت لكنه مرعب: لو مسكتيش ولميتي لسانك… هلمه أنا.
سكتت لثانية، لكنها لم تفهم قصده، ولم تتراجع، بل زادت حدة صوتها: تلم إيه يابا ؟! انا المك إنت و…!
وقبل أن تكمل، كانت يده تمتد بخفة مفاجئة نحو عنقها، لا بخنق ولا عنف، بل بجرأة فيها سطوة، ثم سحبها إليه بقوة جعلت أنفاسها تتقطع، وطبع شفتيه على شفتيها بقبلة كـ الصاعقة…
قبلة لم يكن فيها عاطفة… بل كانت صفعة من نوع آخر، اخرسها بها، أجبرها على الصمت.
تجمدت، وارتبكت، ثم صاحت بجنون وهي تدفعه:
إنت اتجننت؟! إنت قليل الأدب! والله لأدوقك طعم القلم!
رفعت يدها، لكنه أمسك بها في اللحظة ذاتها، ضغط على معصمها بقوة وقال ببرود ساحق: جربي… جربي تزعقي تاني، وهسكتك بنفس الطريقة. كل مرة.
اتسعت عيناها في ذهول… كانت تهتز، من الغضب، من الخوف، من الحيرة التي اجتاحت عقلها، وامتلأت عيناها بالدموع التي لم تستطع منعها من الانحدار.
دفنت وجهها بين يديها، وبدأت في البكاء بانكسارٍ مفاجئ، يشبه طفلًا ضاع منه الطريق وسط الزحام.
نظر إليها، وتبدل وجهه كليا. انطفأت نظرة التحدي، وحل محلها وجع خافت.
مد يده ببطء واحتواها بين ذراعيه، رغم مقاومتها الخفيفة، طبطب على ظهرها وهمس:بس يا نوسة… حقك عليا… والله ما كنت أقصد أوجعك بالشكل ده… بس إنتي بتخليني أخرج من طوري… أنا آسف… آسف بجد.
لم ترد… فقط شهقت بصوت مكتوم، وبكت أكثر، لكنه ظل يحتضنها، يدور بها في هدوء، كأنه يعتذر بجسده أكثر من كلماته.
……………………………………..
في شقة ياسر الهواري…
دلف ياسر إلى الشقة بصمت ثقيل، وكأن الأيام الماضية أرهقته أكثر مما يحتمل.
خلع حذاءه بتنهيدة طويلة، ألقى بالمفاتيح والهاتف على الطاولة، وغمغم دون أن يرفع صوته: جنات؟
خرجت من الغرفة على مهل، ترتدي فستان صيفية ناعم القماش، لكن جريء التفاصيل…
شق عال عند الفخذ، وفتحة صدر خجلة من اتساعها.
لم تكن معتاده على مثل هذا، لكن الليلة… كانت تحاول.
ارتسمت الدهشة على ملامحه، ثم مال برأسه وقال ساخرًا: هي فين جنات؟
رفعت حاجبها بدهشة مصطنعة: أمال أنا مين يا ياسر؟
ضحك بخفة، وقال بنبرة مرحة: لا، انتي جنات الرقاصة.
ضحكت معه… ضحكة يملأه الحنين.
الحنين الي هذا اللقب الذي كان بينهم من أول زواجهم أول أيام الحب… لما كان كل شيء خفيفًا.
نظرت له وردت: أنا بفكر أرجعها تاني… ينفع؟ ولا إيه؟
اقترب منها بخطى بطيئة، وقال بصوت خافت: ياريت يا بنت عمي… مشكلتك إنك أول الجواز كنتي كل يوم بشكل وبروح، وبعد كده ثبتي على الزوجة المصرية الأصيلة.
ضحكت، لكنها سرعان ما تماسكت، وقالت بصوت حنون: ياسر، ممكن أتكلم معاك؟
رفع حاجبه بدهشة، ثم قال بنبرة متراخية: انتي عاملة كل ده عشان تتكلمي؟ لا، استني… أنا عندي كلمتين محشورين ف زوري لازم أطلعهم الأول.
وقبل أن تجيب، حملها فجأة بين ذراعيه.
شهقت، لكنه لم يمهلها.
دلف بها إلى غرفة النوم، وأغلق الباب خلفه، ثم وضعها على الفراش واقترب منها بعينين مليئتين بالشوق:
وحشتيني أوي.
وضعت يدها على صدره، وصوتها خرج مهزوز، متوتر:
استنى يا ياسر… أنا محتاجة أتكلم… محتاجة أسمعك، ومحتاجة لك بجد.
توقف لحظة، ثم قلب عينيه بضيق ظاهر: كلام إيه بس؟ هو ده وقته؟
دنا منها، لكنها تراجعت قليلًا، وقالت بنبرة راجية: أنا بحبك يا ياسر… بحبك ومش عايزة راجل غيرك.
عايزة أتحب… أتحب بجد… عايزة أسمع منك كلمة حلوة.
أخذ نفسا قصير، ثم ضمها إلى صدره وهمس: وأنا بحبك… انتي عارفة.
ثم دون أن يمهلها، التهم شفتيها بقبلة عميقة.
حاولت دفعه، وهمسة بصوت خافت: استنى طـ…
لكنه قطع كلماتها بقبلته، وأردف بلهفة ساخرة: مش وقته… ركزي معايا قبل ما البنات يصحوا.
أغمضت عينيها بقهرٍ لا يرى، لكنها لم تقاوم.
تركت جسدها له… يفعل به ما يشاء.
وكأن ما بينهما عاد فجأة إلى ما لا يتعدى لغة الجسد فقط.
حين انتهى، تراجع قليلًا، التقط أنفاسه وهو ممدد إلى جوارها، ولم يقل شيئًا.
أما هي، فظلت على حالها، تنظر إلى السقف، لا تعرف هل ما حدث كان حبا… أم خيبة جديدة.
مرت لحظات من الصمت، وهمسة بصوت مشروخ:
هو أنا… مش كفاية يا ياسر؟
غمغم بصوت خافت : نعم إيه يا جنات؟ إيه اللي مش كفاية؟
غمغمت بدموع مختنقه : أنا مش جسم وبس… أنا روح.
أنا مش عايزة حضن وخلاص، أنا عايزة كلمة، لمسة، إحساس.
عايزة أحس إنك بتحبني بقلبي مش بجسمي.
اعتدل قليلًا، ونظر لها أخيرًا، ثم قال: يعني هو أنا ما بحبكيش؟ هو أنا مش عايش معاكي وفتحنا البيت ده سوا ؟
هزت رأسها بمرارة: العيشة جنب بعض مش حب…
والحضن من غير كلمة دافيه… حضن ناقص.
ثم أردفت بهدوء خافت: أنا كنت ناوية أبدأ من جديد.
سحبت الغطاء على جسدها، وأعطته ظهرها وهمسة :
بس الظاهر إني بدأت لوحدي.
ظل هو صامتًا…ينظر لها بدهشة … لا اعتذار، لا كلمة، لا حتى لمسة.
كأن ما بينهما أصبح بلا صوت…حب يعيش، لكنه لا يحيا.
………………………………………..
مساء في بيت الهواري
في مساء رائق من أمسيات الجمالية، حيث تسكن الأرواح بين حارات الذهب وتتنفس المنازل عبق الماضي، عاد عز إلى بيته.
لم تكن خطواته على الرخام تعلن تعب الجسد، لكنها كانت تفضح ثقل في قلبه، لا يعرف مصدره، لكنه حاضر كأنه ظله.
وقبل أن تطأ قدمه أولى درجات الدرج خرج إليه صوتها…
هادئا، دافئا، كأنما خرج من صدر عتيق حفظ الحنان سنين:تعالى يا عز، عايزاك في كلمتين يا ابني.
التفت.
كانت عايدة واقفة على باب شقتها في الطابق الأرضي،
اقترب منها وتمتم : خير يا أمي؟
إشارة لهم وهتفت : تعالى بس، تعالى اشرب معايا كوباية شاي، وخلي الكلمتين يطلعوا على رواقة.
دلف إلى الشقة، كانت مشبعة برائحة النعناع والورد،
جلست أمامه، وضعت الصينية وسكبت له الشاي.
نظرت إليه طويلًا، كما لو كانت تنظر إلى الطفل الذي ربّته… لا إلى الرجل الذي صار عليه.
ثم همسة بحب :عامل ايه يا ضنايا ؟!
اوما برأسه وقال: زي الفل يا امي! الحمد لله !!
نظرت له نظره طويله وقالت : وعليا ؟!
مط شفتيه وقال : كويسه !
هزت رأسها بالنفي وربتت علي يده وقالت بحنو وحكمه :
بص يا عز… عليا مش كويسه زي ما انت فاكر ولا حتي عايشة، عليا بتتعايش.
تجعد جبينه، ونطق باستغراب: يعني إيه؟
نظرت له وردت بحنو : يعني بتمشي يومها وخلاص… بتقوم وتنام، وتبتسم مجاملة، وتكتم دموعها بضحكة.
بس هي من جوه… مخنوقه
هز رأسه بالنفي وقال: أنا مأذيتهاش يا أمي، عمري ما رفعت إيدي، ولا قصرت في حقها.
ارتشفت رشفه من كوب الشاي وقالت بهدوء :بس برضه يا ابني… ما طبطبتش.
رفع حاجبه بدهشه وغمغم: أنا…
اومات برأسها وقالت: عارف يا عز، الجواز مش بفلوسه ولا بعيشه… الجواز بالونس… أنت جبتلها دهب؟ جبت..
فتحتلها بيت يسكن فيه الملوك؟ فتحت…
ركبتها عربية؟ ماشي…
صمتت لحظة، ثم أردفت: بس عمرك سألتها إنتي خايفة من إيه؟
عمرك حضنتها وهي ساكتة من غير سبب؟
الست يا ابني لو ما حستش إنها أمانك… ما تبقاش ليك…
مسح جبهته بتعب وغمغم : هي عمرها ما اشتكتلي، يا أمي.
أشارت له وردت : عشان اتربت تسكت… من وهي صغيرة.اللي اتقالها جسمك عيب، صوتك غلط، إحساسك غلط.
اللي كل كلمة عن نفسها كانت تتقفل بيها، وكل لمسة جربتها كانت وجع…
هتكبر تقولك إيه؟ هتقولك أنا مخنوقة؟
ولا هتقولك خايفة منك ومن نفسي؟
انحنى عز قليلًا، أطرق إلى كوب الشاي…
كأن كل رشفة صارت مريرة وغمغم : أنا ما كنتش شايف ده.
ربتت علي وجنته وقالت: مش لازم تشوفه، بس حاول تحسه…. الست يا عز بتتفتح بالرحمة… مش بالطلب.
بتسلم لما تحس إن اللي
قدامها حقيقي… مش طامع.
نهض بثقل شديد وتحرك وكانه يدور في دوائر مغلقه وغمغم بحيره : طب أعمل إيه؟
نهضت واقتربت منه وربتت علي صدره موضع قلبه وقالت : خدها على مهلك…
إسندها من غير ما تقول، شيل عنها حتى لو ما طلبتش،
خليك حضنها وهي واقفة، وكتفها وهي بتنهار.
بص في عينيها من غير رغبة… من غير نية. بس بص كأنك بتقول أنا شايفك.
ابتسم بيأس وغمغم: أنا كنت فاكر إن البرود منها… بس يمكن أنا كمان كنت برد.
ضحكت بحنان الأم دون عتاب فقط تعلم: كلنا بنبرد لما نحس إن اللي قدامنا مش عايز يدفينا.
بس عليا ما ماتتش… عليا عايشة، بس جوا تابوت خوف.
مدت يدها، لمست وجنته برقة: ولو إنت فتحت التابوت ده، وشلت عنها الكفن… هتشوف عليا اللي نفسها تحب وتتحب بس محدش إداها فرصة.
أغمض عز عينيه للحظة، ثم فتحهما على نور جديد.
نور خافت لكنه صادق وقال : أنا هبدأ يا أمي… وهستناها. مش هاجري، مش هضغط عليها ..
نهضت وأغلقت الشرفه ، وقالت وهي تطفئ النور وتترك الحديث يواصل العيش في قلبه اقتربت منه وضمته لقلبها وقالت بحنو : واللي يستنا بحب، عمره ما يخسر…
وعليا تستاهل يتراهن عليها يا حبيبي
……………………………….
ألمانيا ..برلين
في جناح سلطان الهواري
دلف سلطان إلى الغرفة بخطى متعبة، كأن أقدامه تخونه، أو كأن كل خطوة تقربه من شيء لا يريد رؤيته.
كان الصمت يعم المكان… لكن ليس صمتا عاديًا، بل ذلك الصمت الذي يسبق الكارثة.
ألقى نظرة سريعة على السرير… كان خاليًا.
ثم جالت عيناه في أنحاء الغرفة، فوقع بصره على الفوضى.
ملابسها متناثرة على الأرض، حقيبة صغيرة مفتوحة ومقلوبة بجوار المقعد، وحقيبته هو على الطاولة، غير مرتبة كعادتها، وكأن يدا عبثت بها على عجل.
انعقد حاجباه واقترب من الحقيبة، مد يده، وفتحها.
وجد محفظته مطروحة إلى جوارها على الأرض.
انحنى والتقطها بسرعة….راح يتفقد البطاقات واحدة تلو الأخرى…
ثم توقف… هناك ..كارت مفقود.
رفعه أمام عينيه بقهر، وقلبه يضرب في صدره بعنف.
ثم انطلقت قدماه تلقائيا في أنحاء الجناح دون تصديق ، يفتح كل باب، يزيح الستائر، ينادي: ضي!”
ثم أعلى: ضييييييي!!
لا مجيب.
ركض نحو الهاتف، واتصل بأحد رجاله وهدر فيه كمن يشعل النيران في طرف لسانه:
— “Meine Frau ist nicht in ihrem Zimmer! Durchsucht alles! Sofort!”
( زوجتي ليس بالغرفه ابحثوا عنها في كل مكان فورا )
أغلق الخط بعنف.
ركض نحو موظف الاستقبال، وقلبه ينهار بين ضلوعه:
— “Meine Frau ist nicht im Zimmer!”
(زوجتي ليس بغرفتها ؟!)
رد الموظف بهدوء، غير مدرك للزوبعة التي تهب أمامه:
— “Ich habe ein Taxi bestellt, das sie zum Flughafen bringt, Sir.”
(لقد طلبت سياره اجري حتي تذهب الى المطار يا سيدي.)
عندها…
تجمد سلطان لحظة. ثم… انهار كل شيء بداخله.
بلا كلمة إضافية، استدار، وركض إلى الخارج كمن يهرب من الموت إلى الموت.
فتح باب السيارة بعنف، واخرج الحارس من السياره وصعد وانطلق وهو يلهث كأن صدره سيتوقف، يضرب المقود بقبضته، وعيناه تشتعلان: ليه يا ضي؟ كنتِ في حضني من ساعات… ليه تهربي؟
ثم همس… بحرقة: أنا خوفتك للدرجة دي؟
وصلت السيارة كأنها اخترقت الزمن…لم ينتظر سلطان أن تتوقف تمامًا….فتح الباب وقفز كمن يسابق رياح الأرض كلها.
المطار أمامه بدا كغابة من الوجوه، لكنه لم ير إلا وجها واحدا كان يبحث عنه بجنون.
خطاه تضرب الأرض كأنها غضب مجسد.
كل ذرة فيه كانت تشتعل، لكن ليس بالغضب فقط… بالخوف.
أين هي؟! ثم… رآها.
كانت تجلس هناك، عند زاوية بعيدة من صالة الانتظار.
كتفيها منحدران، رأسها منحني، ويداها تضغطان على حقيبة صغيرة في حجرها كأنها تحتمي بها من العالم.
لم تره، لكنها شعرت به….كان كالزلزال، يقترب، يكتم أنفاس المكان.
قبض على ذراعها فجأة، فانتفضت كغصن مبلول بالعاصفة….صاح بها بصوت متهدج بالغضب والهلع:
إنتي اتجننتي؟! إزاي تطلعي من غير إذني؟! رايحه فين يا ضي؟!
حاولت سحب يدها، لكن قبضته كانت من نار وصاحت : سيبني بقا، إنت ملكش دعوة بيا! أنا خلاص مشيت… مش هرجع! مش هرجع أعيش مع واحد بيبيع سلاح! مع واحد بيشوف الدم كل يوم! مع واحد… أنا مبقتش أعرفه!
نظر لها ، وعيناه تكادان تدمعان من القهر، وهدر بصوت مختنق: أنا كده، فاهمة؟! كده من زمان! وعمري ما لبستلك قناع… ده شغل أبويا وجدي، وأنا اتولدت لقيتني ف وسط ده! مش بإيدي!
دفعته بقوه وصرخت : بس بإيدك تسيبه، بإيدك تبقى إنسان أحسن، بإيدك متدخلنيش جوه دايرة دم ماليش ذنب فيها!
تراجع لحظة، كأن كلماتها لكمته في صدره، ثم انقض على يدها ثانية وهو يزمجر: إنتي فاكرة نفسك مين؟! فاكره نفسك هقدر تهربي مني ؟! من سلطان الهواري؟! ده إنتي…
توقفت الكلمات، لكن نيران عينيه كانت تكمل نيابة عنه.
أمر رجاله بإخراج تذكرة سفر من الطائرة الخاصة، وسحبها معه وسط دهشة المسافرين.
هي لم تبكي هذه المرة، لم تصرخ، لم تقاوم…
لكن في عينيها كان هناك موت بطيء… كسرة لا ترمم.
داخل الطائرة
كان كل منهما يجلس في أقصى طرف…
وبينهما ليس مجرد ممر… بل بحر من الدم النازف،
جرح لم تغلقه الأحضان، ولم تخيطه الكلمات.
كأن سلطان يختلس النظر إليها كل حين، كأنه يتأكد أنها لازالت على قيد الحياة…
بينما كانت تنظر من النافذة، تتمنى لو يفتح الباب وتقذف بعيدًا.
بعد اربع ساعات هبطت الطائرة في مطار القاهرة
وخرج سلطان من المطار يسحب ضي من ذراعها بعنف
فتح باب السيارة لها، ودفعها برفق غاضب إلى الداخل، ثم صعد خلفها، وانطلق بلا كلمة.
وصل الحارة…
ضغط على فرامل السيارة بقسوة،
ثم ترجل ودخل البناية، وهي خلفه تسير كمن تقاد إلى مصير لا تريده. ركبا المصعد…وصلا الطابق الرابع.
فتح باب شقته، ثم استدار…فلم يجدها خلفه.
أدار رأسه، فوجدها واقفة أمام شقة إخوتها.
نظرت إليه بثبات…
نظراتها كانت قنابل لا ترمي، بل تخلع على مهل وغمغمت : مش هدخل شقتك يا سلطان.”
هتف بغضب مشوب بالوجع: ما تعدي يومك بقى يا بت البدري!
قالتها كأنها تقسم:مش هدخل ولو غصبتني… هدخل… وأنتحر… بأي حاجه… مش هعيش معاك تاني. مش في الدم. مش في السلاح. مش في الرعب ده.
تجمدت ملامحه…وهز رأسه ببطء، كأن ما سمعه لا يصدق وغمغم :هي حصلت كده يا ضي؟ بقى بينا تهديد؟
نظرت له بحسره ولم ترد.
فتحت الباب، ودلفت ، وأغلقته خلفها بعنف موجع، كأنها أغلقت معه زمن من الذكريات.
توقف سلطان أمام الباب، يضع كفه عليه كأنه يلمس قلبها من خلفه…ثم أنزله ببطء، لم يأخذ المصعد…
نزل الدرج خطوة بخطوة…جسده يرتعش، كأن كل قطرة دم فيه تغلي وتثور.
داخل الشقة
انغلق الباب بقوة، فارتفعت رؤوسهم على الفور. نهض عمار من مكانه بقلق، وهتف وهو يتجه نحو الباب:
في إيه يا ضي؟ إنتو رجعتوا بدري كده ليه؟
نظرت إليه ضي بدهشة حائرة، كأنها لم تتوقع سؤاله، وردت بصوت خافت:رجعنا…
أومأ عمار برأسه وقال بنبرة متفاجئة : أيوه… سلطان بعتلي رسالة إنكم مسافرين شهر العسل بعد ما تخلصي امتحاناتك، فاستغربت.
اقترب إبراهيم منها بخطوات متسارعة، وعيناه تفتشان عن الجواب في ملامح وجهها الشاحب، وسأل بنبرة دافئة:إنتو اتخنقتوا؟ سلطان زعلك يا حبيبتي؟
هزت رأسها بالنفي، محاوِلة سحب أنفاسها المختنقة، وهمسة بصوت أقرب إلى الوجع منه إلى الكلام:لا… مزعلنيش. هو بس كلموه من الشغل فجأة، وكان لازم نرجع، بس… هنسافر تاني لما يخلص.
نظر إليها عمار مطولًا. لم تخدعه ابتسامتها المرتبكة ولا نبرتها المتماسكة. اقترب منها، ورفع وجهها بكفه برفق، حدق في عينيها اللتين كانتا تفضحان من الحزن أكثر مما تخفيان، وقال:إنتي مش هتعرفي تكدبي عليا يا ضي… إيه اللي حصل؟
ارتجفت شفتاها، وامتلأت عيناها بالدموع، قبل أن تهمس بنحيبٍ خافت:إنت عارف غيرت سلطان… صعبة أوي.
ابتسم إبراهيم محاولًا التخفيف عنها، وهتف بمزاح حنون:يا شيخة! خضتيني … غيره يعني بيحبك، وواضح إنه بيحبك موت كمان.
ضمها عمار إلى صدره، قبل جبينها بود، وقال بصوت يملؤه الحنان:يا ضي… عين أبوكي اللي معاه الجمال ده لازم يغير… وسلطان طبعه حامي شوية، بس متزعليش نفسك… أنا هتكلم معاه. ادخلي انتي وارتاحي.
أومأت برأسها بخضوع، ومشت إلى الداخل بخطى ثقيلة، كأنها تجر قلبا مثقوب لا يريد المضي أكثر.
في هذه اللحظة، تحرك إبراهيم نحو الطاولة وسحب هاتفه، ثم قال وهو يرتدي قميصه : أنا نازل.
قطب عمار حاجبيه بدهشة، وسأله:رايح فين؟
رد إبراهيم وهو يلتقط مفاتيحه سريعًا: عندي سبق جديد… ماينفعش أضيعه.
تنهد عمار، وغمغم وهو يلتقط هاتفه من على الطاولة:
ماشي… أنا جاي معاك.
اتجه إبراهيم نحو الباب، فالتفت عمار وهو يهم بالخروج وهتف بصوت مرتفع: ضي، إحنا نازلين شوية… لو احتجتي حاجة كلميني.
أُغلق الباب من خلفهم، وعم الشقة صمت ثقيل كالغصة… صمت لا يقطعه إلا أنين خفي يعلو من أعماق قلب تختنق فيه ضي وحدها.
……………………………………….
مساء ف بيت الهواري ..
عاد سلطان إلى بيته، لكن خطواته كانت تسير على شفير روحه، لا على الأرض…
كل خطوة يخطوها تصفع قلبه بقسوة، كأنما يصعد جبلا من جمر.
وصل إلى الطابق الرابع…
وما إن وقع بصره على شابٍ يقف أمام شقة عمار، حتى تغيرت ملامحه تمامًا.
الشرر في عينيه لم يكن عادياً… كان غضبا جافًا، مسعورًا، لا يبحث عن منطق.
اقترب بخطوات ثقيلة… كأن العاصفة تمشي وهتف :
بتعمل إيه هنا يااااض؟
هدر صوته فارتعد الشاب، وتلعثم وهو يرفع كيس الأكل المرتعش بيده: مـ مستني الحساب يا معلم سلطان.
نظر إليه سلطان كأن نظرته سكين، ثم مد يده وسحب من جيبه عدة أوراق نقدية، ودسها في يد الشاب بعنف، وهتف من بين أسنانه: غوووور يلا قبل ما ارميك من هنا !!
أطلق الشاب ساقيه للريح، يركض على الدرج كأن الشيطان خلفه.
وفي اللحظة ذاتها، انفتح الباب … وظهرت ضي.
كانت تهم بالكلام: اتفضل يا..
لكنها تجمدت…
الهواء بينهما انكمش فجأة….كانت نظراته مثل سوط ناري يصفع وجهها دون رحمة وهدر : يا إيه يا بت البدري؟!
صوته خرج كالسوط، يهدر بها كأنها ارتكبت جريمة لا تغتفر.
تراجعت، أمسكت بمقبض الباب بعنف، وقالت بنبرة متحدية:وانت مالك؟! أنا قلتلك مليون مره… ابعد عني! وملكش دعوه بيا يا سلطان!
اقترب خطوة… ثم خطوتين…
الغضب يكسو وجهه كقناع من نار، وهتف بصوت يشبه دوي الطبول:ده لو السما نزلت على الأرض!
لو نجوم الليل وقعت على دماغك! مش هيحصل!
انتي مراتي… وهتفضلي مراتي!
حتى بعد ما نموت يا بت البدري!
نظرت إليه، وفي عينيها خليط من الحنق والخذلان… ثم أغلقت الباب بعنف، كأنها تغلقه على وجع لن يشفي، وصرخت من خلفه: كفاية بقاااااا!
توقف سلطان أمام الباب… عيناه تتقدان كأنما ستشتعلان.
مد يده… وطرق الباب بعنف. طرقة… اثنتان… ثلاثة…
ثم صرخ، لا، لم يصرخ… بل دوى صوته كالرعد:
افتحي يا ضي قبل ما أكسر الباب…
وادخل اكسر دماغك بعديه يا بت البدري!!
تراجعت ضي الي الخلف، وخطواتها تتعثر، ووجهها شاحب كأنما رأت شبحا.
صدرها يصعد ويهبط… شهقة هاربة من بين شفتيها، ودموع تتفجر على وجنتيها….ثم ركضت إلى الداخل…
لم تجد سوى خزانة الملابس، فانكمشت بداخلها كطفلة مذعورة.
وضعت كفها على فمها، تخنق شهقتها، تمنع بكائها من أن يعلو فيسمع…
كل كيانها كان ينتفض.
وفجأة…
انفتح الباب بقوة جعلت الجدران ترتجف.
ووووووو
متنسووووش الفوت والكومنتات يا سكاكر قلبي ♥️
ساحره القلم ساره احمد 🖋️
🥰🥰🥰🥰🥰🥰