نار وهدنه

نار وهدنه(الفصل العاشر)

نار وهدنه(الفصل العاشر)

الفصل العاشر
فهناك من يحبّ بكامل قلبه،
وهناك من لا يتجاوز حبّه خفقةً باهتة لا تكاد تُرى.
ومن هنا تتباين القلوب…
قلبٌ يهبك ذاته دون حساب،
وقلبٌ لا يمنحك سوى ظلّه إن حضر، وإن غاب، نسيك كأنك لم تكن.

الحبّ ليس مجرّد شعورٍ عابر،
بل التزامٌ داخلي، ووفاءٌ لا يغيّره الزمان،
هو ذلك الصدى الذي يسكنك حتى وإن خفتت الأصوات من حولك،
هو حضورٌ دائم لمن أحبّ بصدق، لا يرحل وإن ابتعد الجسد.

فلا تخدعك الكلمات ولا البدايات الجميلة،
الصدق لا يُختبر في اللقاء، بل في الاستمرار،
وفيمن ظلّ بجوار قلبك،
حين صار الجميع بعيدين.

أغلق سلطان الباب خلفه بعنف جعل الجدران ترتعد، واندفع نحو غرفة النوم كأن النيران تسري في عروقه. ضرب الباب بعنف هائجا،واقتحم الغرفة بعينين عاصفه وأنفاس متقطعة.

صاح بصوت مكسور من الغضب والغيرة والوجع:
هدخل عليكي ودلوقتي يابت البدري لازم تبقي مراتي يا ضي

تراجعت ضي بخوف وهي ترتجف من هيئته، وغمغمت:
في ايه!!  انت اتجننت؟!  حصل ايه لكل ده؟؟

نزع قميصه وألقى به أرضا وقال بنبرة كأنها صرخة إنذار: في اني مش هسمحلك تبعدي عني… ولا حاجه تبعدني عنك… حتي لو انتي.. او اخواتك.. أو الجن الازرق !!

كانت عيناه تشتعل كأنها نار لا تهدأ، ارتجفت وضي كأنها طير صغير عالق بين مخالب صقر وصاحت :  انا معملتش حاجه.. ومقلتش اني هسيبك !!

نزع حزام بنطاله وهدر بفحيح حاد: وانا ايه ضمني؟! مفيش حاجه تضمن غير انك تبقي مراتي يا ضي!!
حلالي .. واعمل فيكي اللي علي مزاجي… ومحدش يقدر يقولي تلت التلاته كام !!!

اندفع نحوها بسرعه جنونيه وكأنه تلبسته كل شياطين الأرض.. صرخت برعب وركضت الي الجهه الاخري من الفراش وصرخت بفزع: سلطان بلاش ..فوق انت كده هتكرهني فيك !!

لكنه لم يسمع. أو ربما لم يعد يعرف كيف يصغي.

كان غضبه أعمى، متورم في عروقه، يدفعه للاقتراب منها كمن يحاول إخماد نيران داخله لا يجد لها مخرجًا وصاح :  كده… هتحبيني! أوعدك… بس سبيلي نفسك!

اقترب منها كالإعصار، بخطوة خاطفة كأنما قرر أن يعصف بكل شيء في لحظة…

مد يده نحو ذراعها، لكنها صرخت من أعماق الرعب، وقفزت على السرير كمن يهرب من الموت.

لكنه كان أسرع… قبض على كاحلها، وسحبها بقسوة جعلت جسدها يهوي بقهر فوق الفراش،

ثم… سقط عليها بثقل جسده، يطوق معصميها بيدين كأنهما قيدان لا فكاك منهما.

صرخت، وحاولت دفعه ، وهزت رأسها بالنفي بعنف، وغمغمت بصوت يتهدج بالدموع والخوف: لا يا سلطان… بالله عليك… بلاش! مش هقدر أتحمل… مش كده!!

كانت عيناه تشتعلان بشرر لا رحمة فيه، كأن الشيطان التهم رجاحة عقله.
لكن حين اصطدمت نظرتها المرتجفة بنظراته، حدث الشرخ… الشرخ القاتل.

عيناها الجاحظتان، يغمرهما الذعر، تهرب منهما الدموع كما يهرب آخر أمل من روح مستباحة، أنفاسها متقطعة، تكافح لأجل البقاء… لا لأجل الحب… ولا حتى لأجل النجاة.

لكن سلطان، المنهار من الداخل، لم ير شيئًا سوى شبح الفقد… ولم يصغي لشيء سوى صوته الداخلي الجائع: إنها ستغادر… ستتركني… لن تعود …

رعشة من قلبها سرت إلى أطرافها وهي تهمس برجاء موجوع: بلاش كده… بلاش كده يا سلطان… بالله عليك…

لكن الكلمات ماتت على شفتيها… حين انقض عليها، وقطع توسلاتها بقبلة كانت أشبه بـنهش ذئب جائع سقطت فريسته بين أنيابه…

نهشها… لا حبا فقط … بل خوفًا، قهرًا، وجنونًا.

تخبطت بين يديه، تحاول التملص، لكن قبضته كانت أسبق من توسلاتها، وصوته كان أعتى من بكائها، وهمهمتها تختنق بين شفتيه المشتعلة: مممممم…

غرس شفتيه في فمها كأنما يبحث عن حياة لن تعود، فاجأه طعم الدم ،لكنه لم يردعه. بل زاد من جنونه. نهشها بشراسة من فقد السيطرة، وجاع حد الجنون…

وضي تتلوى تحته، لا من رغبة، بل من ألم.
أناتها كانت ضعيفة، متقطعة، كأنها تستنجد بالرحمة التي غادرت المكان منذ بدء اللحظة.

انزلق إلى عنقها، يقبل، يلتهم، لا يرى إلا الجسد.
أما الروح… فقد بدأت بالانسحاب.

ضربته بكفيها… حاولت دفعه… صرخت، لكن صوتها اختنق، وضل طريقه إلى أذنه.
كأنها تصارع وحشًا لا يملك عقلًا ولا قلبًا… فقط اندفاع أهوج لا يعرف التراجع
قبض على حماله الصدر التي ترتديها ومزقها بعنف وغرز أسنانه في نهدها وهو ينزع اخر قطعه ترتديها بعنف 

وفي لحظة ما… حين اجتاحها الألم كإعصار، وحين شعرت بجسدها ينتزع منها رغماً…

سكنت.
تجمدت.
صارت قطعة من حجر جليدي بارد بين ذراعيه المشتعلتين.. كأن الحياة فصلت عنها فجأة.
لا صوت… لا حراك… حتي لا نفس ينبئ أنها ما تزال تنتمي للعالم.

فقط دموعها، تتسلل ببطء قاتل على جانب وجهها، كأن كل قطرة منها تحمل ما لا يحتمل من الألم، والخذلان، والذعر.
شعر بشيءٍ غريبٍ، شيءٍ لا يمكن تسميته بردًا… ولا حتى صقيعًا.
بل كان موت يابس، زحف من جسدها إلى روحه، وسكن بين ضلوعه كسكينٍ بارد تنغرس ببطء.

رفع رأسه عنها ببطء…
ببطء ثقيل، كأن كل ذرة فيه تقاوم، وكأن الخطيئة التي اقترفها تسحبه إلى الهاوية دون مقاومة.

وما إن وقعت عيناه على وجهها…

تجمد.
لم ير ضي.
بل رأى شبحها…

وجه شاحب، خال من الحياة.
ملامح مسلوبة، فارغة كقبر مفتوح.

وعيناها…
يا إلهي… عيناها كانتا مفتوحتين باتساع لا يحتمل، كأنهما تبصران وحشًا ينهش لحمها حية، دون أن تملك حتى القدرة على الصراخ.

ارتجف….كأن قلبه وقع من بين ضلوعه، وانفجر في صدره رجفه همس باسمها بصوت مختنق، منكسر، مدمى: ضي… ضي؟!

انزلقت نظراته المرتجفة إلى صدرها…
ورأى أنفاسها تنتزع من داخلها بصعوبة، بصوت متقطع، كأن روحها تنزع نفسها من الجسد قطعة قطعة… وهي لا تجد سبيلًا للهرب.

اقترب منها ببطء، وربت على وجنتها المرتجفة بأنامل مرتعشة، ثم تمتم، بصوت لا يكاد يسمع، ممزوج بكل ألوان الذنب والوجع: ضي… في إيه؟ ضي، أنا هنا… سامعاني؟!

رفع رأسها بين كفيه، هزها برفق، كمن يحاول إيقاظ قلبٍ توقف، وهمس برجاء موجوع: ضي، اهدي يا ضي… خلاص، مش هكمل، بالله العظيم، مش هعمل حاجة… بس اهدي…

جلس، واحتضنها بين ذراعيه، جسدها يتأرجح بين الحياة والموت، وربت على ظهرها بعشوائية المذعور، يلفظ الخوف من قلبه كما يلفظ سما…
كأنها طفلته، كأنها آخر أنفاسه وصاح :  ضي!! ضي فوقي يا بت طيب دي حالة إيه؟ انتي ولا فايقه ؟ ولا مغمي عليكي ؟!ردي عليا يا ضي!

هزها بقوة بين يديه… ليست قسوة، بل رعبا متفجرا، وجعا ينزف، ندما لا يجد طريقا للتكفير.

صرخ بصوت مرتعش ممزق: حرمت يا ضي… حرمت!
والله حرمت! مش هلمسك تاني غصب عنك!
حرمت…

غمرها في حضنه كأنما يحاول أن يذيب ما تراكم بينهما من ألم، ثم رفعها بذراعيه المرتجفين ، وحملها إلى المرحاض بخطى سريعة تخنقها الذعر وتبلعها العجلة.

فتح الماء الساخن، وانسكب البخار حولهما، لكن جسدها ظل متجمدا بين يديه، لا يقاوم، لا يستجيب، كأن الحياة فارقته للحظات.

ثم…
شهقت فجأة. صرخت بفزع، وعيناها تتلفتان حولها برعب.

ضمها إليه بقوة من جديد، قلبه يرتجف، وصوته مبلل بالدموع:أنا آسف… آسف يا ضي، والله أنا آسف…

ضربته بقبضتها الصغيرة على صدره، وصرخت بحرقة تخترق القلب: متوحش! حيوان! همجي… أنا بكررررهك!

شدها إليه كأنها نجاة، وهمس بصوت متهدج: وانا بحبك… بحبك أوي…حقك عليا، يا حبيبي… سامحيني…

دفعته بقوة، وانزلقت من بين ذراعيه، أمسكت بمنشفة ولفتها حول جسدها المرتعش، وهتفت بحدة مختلطة بالبكاء: أوعى! أوعى تلمسني تاني! انت فاهم؟!

هرولت خارجة من كابينة الاستحمام، لكن قدمها خانتها، وانزلقت، وكادت تسقط… لولا ذراعيه اللتين تلقاها في اللحظة الأخيرة وحملها بين ذراعيه ضربته بقبضتها
وصفات أوع! قلتلك… ما تلمسنيش… أوعاا!!

خرج بها من الحمام، ووضعها برفق على السرير، ثم جثا أمامها، وأمسك قدمها بحذر يحاول أن يداوي، لا أن يؤذي… لكنها انتفضت.

تراجعت إلى الخلف كمن لدغته النار، عيناها تتسعان بفزع، وصاحت بنحيب مختنق: لأ لأ لأ… بلاش… لأااا…

اقترب منها، بحذر شديد، ووضع كفيه على وجهها، نظر في عينيها المبللتين بالدموع، وهمس بندم متجلي: ضي… اهدي واسمعيني…
كانت لحظة شيطان… اتجننت لما علي قال إنك ممكن تبعدي عني… ضي أنا…

بلع غصته، وعيناه لا تغادران عينيها، لكنها شهقت من جديد وحاولت التملص، فتشبث بها وصاح :  ضي… أنا بحبك… بجد بحبك…

هزت رأسها بعنف، وغمغمت بصوت مرتجف: وانا مش عايزاك تحبني… ولا هحبك… أنا بكرررهك…

أطرق رأسه بحزن عميق، ثم قال بنبرة مكسورة: حقك تكرهيني…بس حتى لو ده الإحساس الوحيد اللي في قلبك ناحيتي… أنا بحب الكره ده، وبحمد ربنا إنه منك…
أنا ماصدقت إننا اتجوزنا… وإنك في بيتي… عارف محتاجه وقت… وأنا مستعد أستنى…

نظرت له بدهشة حائرة وغمغمت بدموع : أنا مش فاهمة حاجة…

أومأ برأسه، كأنما يرجوها أن تمنحه لحظة واحدة فقط ليشرح، وهمس بحنو: هتفهمي كل حاجة مع الوقت…
سامحيني يا ضي… والله كانت لحظة غضب… وراحت لحالها…

ضربته في صدره بغيظ مكبوت، وقالت: كل شوية تعمل مصيبة وتقولي لحظة غضب!

اقترب منها وقبل جبهتها برفق، ثم رأسها، وقال بصدق كاد يبكي الحجر :  هحاول أسيطر… أوعدك… بس سامحيني يا حبيبي…

ارتعشت شفتاها، واغرورقت عيناها من جديد، وهمسة بحرقة: ليه يا سلطان…؟ أنا كنت حاسة إنك أماني… ليه مصر تخوفني؟

رفع رأسه، ونظر إليها بعيون تمزقها النار والندم، ثم سحبها إليه، احتواها بين ذراعيه بقوة، كما لو كان يتمسك بالحياة نفسها وهمس : أوعديني… أوعديني ما تسيبينيش…وأنا مش هتجنن عليكي تاني… أنا خايف عليكي… وخايف تفلتي مني…

لحظة… لحظة واحدة فقط، شعرت ضي أنها تغرق بين ذراعيه… أنه نجاتها رغم كل شيء. فاستسلمت، بلا وعي… بلا إرادة… فقط تشبثت به.

أما هو… فكان يحتضنها كمن يحتضن عمره بأكمله، يخشى أن يضيع، يخشى أن تنفلت منه وتلك المره… لا تعود.
…………..

في شقة عمار البدري،

سكن الغضب جدران الصمت قبل أن يتمزق بصوت غليظ ثائر صرخ عمار وقد احمر وجهه وانقبضت ملامحه: هو في إيه يا علي؟! حاطط سلطان في دماغك ليه كده، بعد كل اللي عمله؟!

لم يرد علي على الفور حدق فيه نظرة ثقيلة، كأنها تحمل خيبة وثقل دفين، ثم قال بحدة مكبوتة: يعني إيه؟ مش هو صاحبك؟! وده المفروض بين الصحاب، من غير ما أختك تدفع التمن!

أدار عمار وجهه، ومسحه بكفه المتوتر، ثم هتف بنبرة مرهقة: مين قال إن ضي دفعت التمن؟ أنا متأكد إن سلطان بيحبها… وهيحافظ عليها.

ضحك علي، ضحكة باردة محملة بالتهكم والخذلان، ورد بسخرية: هو اللي زي سلطان ده يعرف يحب؟! ده حتى مايفهمش يعني إيه حب! ده عمل لها رعب… إنت مشوفتش عنيها أول ما دخل المتخلف بيتخانق معاها عشان واقفة بتتكلم مع أخوها… بلبسها العادي !

تنهد إبراهيم بضيق، وصاح محاولًا تهدئة الأجواء: يا جدعان، إنتو بتتخانقوا على إيه بالظبط؟! أنا بجد مش فاهم حاجة.

ثم نظر إلى علي بنظرة جادة، وأضاف:بص يا علي، أختك دلوقتي مراته… وممكن تكون حامل كمان. لازم تحط في دماغك إن سلطان مش زينا، يعني اللي احنا شايفينه عادي، هو بيشوفه حاجة تانية خالص.

رمقه عمار بنظرة ممتنة، ثم قال بإصرار: وليه مفكرتش إنه بيغير عليها؟ يعني بيحبها.

قلب علي عينيه بانكسار، وهمس كمن يحادث نفسه أكثر من غيره: حب إيه؟! وغيرة إيه؟! إنت مصدق نفسك؟! لو كان ده حب… يبقى زي الدبة اللي قتلت صاحبها من كتر الحب!

سكت لحظة، ثم صرخ بعينين تشتعلان بالغضب: لو في يوم ضي جرالها حاجة… هيكون ذنبها في رقبتكم!

سحب هاتفه بعنف، واندفع نحو الباب، وخرج وصفقة الباب خلفه دوت في أرجاء الشقة كصفعة.

تنفس إبراهيم بصعوبة، وقال بقلق: والله بدأت أحس إن علي… معاه حق!

تجمدت نظرات عمار في الفراغ، عيناه تزاغان كأنهما تبحثان عن يقين تائه… لكنه ما زال يرتكز على ثقته في سلطان. تلك الثقة التي يظنها صلبة… فهل ستصمد؟

…………………..
في قلب الحارة،
حيث الأزقة تضج بالحكايات القديمة، توقفت السيارة أمام بيت الهواري … ترجلت منها عايدة، وبطة، وحياة بخطى هادئة. كان السائق يراقبهن، ثم انحنى قليلًا ناحية بطة، وهتف بأدب خالص:تأمري بحاجة تاني يا ست الكل؟

هزت بطة رأسها نافية، وردت بابتسامة باهتة: لا يا أخويا، ارجع للمعلم بقى… كتر خيرك.

أومأ الرجل برأسه، ثم غادر بسيارته، تاركا خلفه سكون ثقيلا قطعه صوت الحياة اليومية المتصاعدة من جنبات الحارة.

دلفت عايده وبطه الي المنزل وتوقفت حياة، وقد وقعت عيناها على تقي تقترب منها بخطى مترددة، تحمل في ملامحها قلقا ظاهرًا كمن يسير على حبل مشدود فوق هاوية.

اقتربت منها حياة، واحتضنتها برقة دافئة، ثم همسة بحنان صادق: عاملة إيه يا حبيبتي؟

ربتت تقي على كتفها برفق، وردت بصوت منخفض حزين: الحمد لله… عايشة.

كادت حياة أن تسألها سؤالًا آخر، لكن قطع الحديث فجأة بصوت رجولي غاضب دوى من أمام المحل.

وقف عز، عابسًا، ذراعيه في جنبيه، وهتف بحدة: ادخلوا يا بت انتي وهي جوا… إيه اللي موقفكم في الشارع كده؟!

أومأت حياة بسرعة، وقالت باستسلام: حاضر يا خويا… هندخل أهو.

ثم أمسكت بيد تقي، واقتربت منها هامسة: تعالي يا بنتي… بدل ما يقيموا علينا الحد، أخواتي مجانين هوب من زمان.

تحركتا معًا بصمت، تجر خلفهما خيبات صغيرة وسؤالًا كبيرا لا يقال. دلفت حياة إلى الشقة، ثم إلى غرفتها، وأغلقت الباب، فتنهدت تقي وسألت بهمس: راجح عامل إيه يا حياة؟

أومأت حياة، وردت سريعًا: كويس أوي… بس ملكيش حق يا تقي، كان لازم تروحي تشوفيه في المستشفى.

هزت تقي رأسها نافية، والدموع تترقرق في عينيها، ثم تمتمت بصوت مرتجف: لو روحتله… يبقى بعشمه. كأني بقوله ممكن يكون في أمل… وأنا مش عايزة أعيشه الوهم على الفاضي.

عقدت حياة حاجبيها، وضمت ذراعيها في حنق، وهمسة بحرارة: ليه يا تقي؟ ده راجح بيحبك أوي… لو كنتي شفتي عنيه النهارده! كان بيدور عليكي في كل وش، والحزن اللي مالي عيونه لما ملقكيش معانا… والله صعب عليا.

أغمضت تقي عينيها، ثم قالت بصوت مكسور: انتي لسه صغيرة أبويا وأبوه عمرهم ما هيقبلوا يناسبوا بعض. وأنا مقدرش أقف في وش أبويا. انتي عارفة هو اللي ربانا من بعد ما أمي ماتت، وحرم على نفسه كل حاجة عشانا… أنا مقدرش، بعد كل ده، أكسر كلمته. ده إن شاء الله ما عشت ولا كنت… ولا حتى اتجوزت.

ضربت حياة كفا بكف، وهتفت بيأس:يلهوي عليكم! طيب وآخرتها؟!

مسحت تقي دموعها، وقالت بأسى خافت:زي أولها يا حياة… إحنا ملناش نصيب في بعض. بس هو اللي مش قادر يفهم ده.

هزت حياة رأسها بضيق وقالت بمرارة: يفهم إيه؟ هو بيفهم أصلًا؟ ده قفـــل.

ضحكت تقي، ضحكة خفيفة يغمرها الشوك، وقالت في استسلام: في دي معاكي حق…
……………………………..
مساءا في مخزن حنفي الرشاش ..

في عتمة المخزن الكبير الذي تفوح منه رائحة الخوف قبل البارود، انفتح الباب على عجل، واقتحمه أحد رجال حنفي وهو يلهث، يهتف بأنفاس متقطعة: الحق يا معلم!

قفز حنفي واقفا، وقد توتر جسده في لحظة، وصاح بعينين تشتعلان: في إيه ياض… عرفة وقع في إيد سلطان الهواري؟!

هز الرجل رأسه بعنف، والذهول مرسوم على ملامحه المرتبكة، ثم همس كأن الكلمات تخونه من الرعب: لا… سـ… سلطان الهواري… تـ… تحت!

اتسعت عينا حنفي حتى كادتا تخرجان من محجريهما. بدا كأن السماء قد سقطت على رأسه دفعة واحدة. تلعثم كمن فقد القدرة على النطق: تـ… تحت؟ يا ليله سوده ومهببه… على دماغكم!

اندفع حنفي يجر قلبه المرتعش، وتوقف أعلى درج المخزن، يبلع الغصة التي تكورت في حلقه، وهو يرى المشهد الذي لم يكن ليجرؤ على تخيله حتى في أسوأ كوابيسه…

كان سلطان … جالس فوق سطح سيارة سوداء لامعة… نفس السيارة التي كانت بالأمس تطوف حول ضي كظل مرعب. تحت قدميه، سائقان راكعان، ووجوههما مملوءة بالذل والانكسار.اكثر من الدماء النازفه منهما ..

أما رجاله، فقد انتشروا حول المخزن كدروع من نار، وجوههم جامدة صارمة، تبث الرعب من النظرة الأولى.

أشعل سلطان سيجارته بهدوء القاتل، ثم نطق بصوت خافت كالجليد، لكنه حاد كالسيف، فارتجف له جسد حنفي من شدة البرودة:هم دول العربيات يا رشاش؟ ولا غيرهم؟ أصل ماعنديش وقت أولع في كل اللي هنا.

تلعثم حنفي وهو يزحف بصوته المرتعش: عربيات إيه؟! دول لسه واصلين… ده حتى الورق لسه ما خلصش… وماتحركوش من ساعة ما جم من الجمرك!

ابتسم سلطان تلك الابتسامة التي تنزع القلب من موضعه. ثم قال بهدوء متلذذ: طيب… أنا حذرتك… وانت براحتك.

أشار برأسه إلى أحد رجاله، فتقدم بخطوات ثقيلة، وأخرج قنبلة يدوية. تحرك نحو إحدى السيارات المركونة في عمق المخزن.

صاح حنفي، وكأن روحه تحاول القفز من جسده: إنت هتعمل إيه؟!

رد سلطان بإيماءة خفيفة، وهو يقول ببرود متلذذ: هتشوف… مستعجل على إيه؟

سحب أمان القنبلة، وأُلقها داخل السيارة… لحظات، ثم انفجار عنيف دوى في أرجاء المكان، فزأر كل شيء.

أسقط حنفي ورجاله أرضًا، أما رجال سلطان فتراجعوا خطوات بلا خوف، فيما سلطان استنشق دخان سيجارته في هدوء قاتل، وغمغم: العند بيضيع صاحبه… يا رشاش.

نهض حنفي، وبدنه كله يرتعش ما بين الغضب والرعب. صرخ بجنون: إنت عايز إيه يا ابن الهواري؟!

رمقه سلطان بنظرة باردة، وقال: أنا سألتك… وإنت ما رديتش.

هدر حنفي: قلتلك أنا معرفش إنت بتتكلم عن إيه! العربيات دول لسه جايبهم من بره!

أصدر سلطان صوت ساخر من فمه، وهمس:خلاص… طالما العربيات مش جاية معاك… تيجي البني آدمين.

أشار إلى أحد رجاله، فاقترب من أول سائق، ووضع فوهة المسدس على رأسه، ودون تردد أطلق الرصاص… استقرت في راس السائق وسقط جثه دون روح ….

صاح سلطان وهو يزفر بغضب: قلت ألف مرة… حط كاتم للصوت! مش بحب الدوشة.

ثم التفت نحو حنفي، الذي تحجرت ملامحه من الرعب، وقال ببرود مخيف: بصدع… يا حنفي.

ارتجف حنفي وتراجع، فاقدًا القدرة على الرد. اقترب الرجل من السائق الثاني، فصرخ السائق قبل أن يلمس رأسه: أنا هتكلم! يا جنرال… هقول كل حاجة!

ابتسم سلطان وقال بهدوء شيطاني:  سامعك.

أومأ السائق برأسه، وجسده يرجف برعب : أيوه… هم العربيات. وأنا كنت سايق واحدة.
نظر الي جثه زميله وغمغم :  ورفعت… كان بيسوق التانية… وإحنا كنا بننفذ أوامر المعلم حنفي… يا جنرال، سامحني… أبوس رجلك.

أشار سلطان إليه بإيماءة: تعالى… بوسها.

اقترب الرجل مذهولًا، وانحنى نحو قدم سلطان، لكن رصاصة سلطان اخترقت قلبه قبل أن تلامس شفتاه الأرض…سقط جثة هامدة.

صرخ حنفي برعب هستيري، ثم أطلق الرصاص على المصباح الكبير، فعم الظلام، لكنه لم ينجوا … فقد سبقت رصاصة سلطان الظلام، واخترقت ساقه.

سقط حنفي على الدرج، ثم اقترب منه سلطان، وأطلق رصاصة أخرى في ساقه الثانية، وهدر وهو ينفث آخر دخان سيجارته: إنت بتلعب بالنار… وأنا بعشق اللعب. ده تذكار بسيط… يا حنفي. المرة الجاية… هتكون رقبتك… ورقبة عيلتك… نفر نفر!

أشار إلى رجاله، فقاموا بتفجير السيارتين، وارتفعت ألسنة النار تلتهم الحديد، فيما كان حنفي يصرخ بنحيبٍ يشق القلب: لاااااااا… كفاية!

أومأ سلطان، وألقى بسيجارته على وجه حنفي المحترق ألمًا، ثم همس بغلظة: لو عايزها يبقى كفاية… اعمى عنيك عني يا حنفي. بدل المرة الجاية… هخليك تلحق الأموات في أهلك.

صرخ حنفي وهو يزحف في الظلام، ثم صاح برجاء:
خلاص… مش هاجي على سكتك تاني… خلاص يا جنرال!
اوما سلطان برأسه واشاره إلي رجاله وانصرف تاركا خلفه دمار هائل لا يعد ولا يحصى …
………….
في شقة ياسر الهواري،

كان الليل ساكنًا… إلا في قلبها.
جلست جنات في ركن الأريكة، تعض على أطراف أصابعها، كأنها تحاول خنق وجع يفيض منها قهرًا….

كانت عيناها تلمعان بالدموع، وصوتها يرتجف وهي تهمس لنفسها بشجن: ما هو أنا كمان غلطانة… الراجل دخل عليا وهدومه كلها دم… وأنا بدل ما أطمن عليه وأسأله الدم ده من إيه، قومت فيه… زي البوتاجاز !

نهضت، تدور في المكان بتوتر مجنون، كأنها تطارد ظلا لا يمسك. وهمسة، كمن يحاول إقناع روحه الغاضبة:
بس أنا كنت قلقانة عليه…

زفرت بعنف، ثم سارت نحو غرفة النوم بخطى مترددة. فتحت الباب بهدوء، ودلفت وأغلقته خلفها. وقفت تنظر إليه وهو نائم، تغمره البرودة كجدار بلا حياة.

اقتربت وجلست إلى جواره، وركبتاها تلامسان السرير برفق حزين. ثم لكزته بخفة وهمسة: ياسر…

لم يرد. اقتربت أكثر وقالت بصوت أعلى قليلًا: يااااسر… اصحى بقى…

تململ في مكانه، وفتح جفنيه بكسل. صوته خرج متحشرجًا من أثر النوم، جاف كأنه لم يعرف الحنان من قبل: في إيه؟… عايزة إيه، يا بِت؟

عضت شفتها بنزق، والدمعة تتأرجح في عينيها، ثم همسة:عايزة أتكلم معاك…

أغمض عينيه، ثم فتحهما بضيق، وزفر بحنق وقال بفتور:
اتكلمي… سامعك.

تنحنحت، كأنها تمهد لجرح مؤلم، ثم قالت بصوت خافت:
حقك عليا… أنا ماخدتش بالي من الدم اللي في هدومك…

اعتدل في جلسته، وأسند ظهره على ظهر الفراش ثم سحب سيجارته وأشعلها. قال بصوت مبحوح، دون أن ينظر إليها: تعالي جنبي يا جنات… عشان ما نفخش الدخان في وشك.

تحركت وجلست إلى جواره، تنظر إليه بعينين تفتش فيهما عن دفء قديم. زفر هو دخان السيجارة بعيدًا، وتمتم بنبرة تحمل اللوم والخذلان:ده مش جديد عليكي… انتي ليكي فترة كده… مش عارف جرالك إيه. مش بتاخدي بالك من حاجات كتير.

أغمضت عينيها بقهر، ثم فتحتها وقالت بعصبية: أنا؟! لا يا ياسر… أنا باخد بالي من كل حاجة! هاتلي حاجة واحدة… واحدة بس أنا مقصرة فيها!  معاك، ولا مع الولاد، ولا مع البيت!

هز رأسه نافيا، وحدق في اللاشيء:انتي بتعملي كل اللي عليكي… بس مش بتعذريني. أنا راجل واقف في السوق طول اليوم… زباين طالعة داخلة، وتعامل مع خلق ربنا… بيعمل بلوة في الدماغ.

نظرت له بدهشة، صوتها حمل ظل صدمة: يعني دلوقتي… المشكلة عندي؟! طيب… واهتمامك فين؟ وحبك؟! أنا امبارح كان عيد ميلادي… قعدت طول النهار مستنياك تقولي حتى كل سنة وانتي طيبة…

نهض ياسر فجأة، غضبه يسبق حركته، وقال: ومجاش في بالك إن اللي حصل برجلني؟! وإني كنت عامل حسابي؟!

نظرت إليه، وعيناها لا تصدق. فذهب إلى المرحاض، وجلب بنطاله، أخرج منه علبة قطيفة حمراء، وعاد بها، ألقاها أمامها وهتف: انتي مش مصدقة؟! أهو يا ستي…

نظرت إليه بدهشة، التقطت العلبة بيد مرتعشة، فتحتها ببطء. أخرجت خاتمًا ذهبيًا بفصوص ألماس صغيرة، على شكل زهرة لوتس. أغمضت عينيها، والدمعة أخيرًا انزلقت على وجنتها، وهمسة:أنا ما تخيلتش إنك افتكرت… وكنت زعلانة منك…

جلس إلى جوارها، قال بنصف ابتسامة ساخرة: وإيه الجديد يا بت عمي؟! انتي طول الوقت زعلانة… ومصدرة لي الوش الجبس ده!

اقتربت منه، وضمت جسده من الخلف، وضعت رأسها على ظهره العريض، وتمتمت بصوت مخنوق: أنا يا ياسر… ده أنا فتحت عيني في الدنيا عليك… وعمري ما شوفت… ولا هشوف راجل غيرك.

استدار نحوها، عيناه تغلفهما طبقة من الإعياء والخذلان، ثم همس بمرارة: على أساس يعني… أنا اللي ملت عيني ست غيرك.

وضعت يدها على فمه وقالت برجاء: خلاص بقى… سماح… المرة دي… أنا آسفة.

سحب يدها من على فمه، ثم أخذ الخاتم من يدها، وألبسه لها ببطء، وقال بحنان خافت: كل سنة وانتي طيبة… يا أم العيال.

ابتسمت برقة، لكن عينيها ظلتا معقودتين بحزن عتيق، حزن تكدس في قلبها عبر سنين طويلة من مواقف وخذلان. وهمسة بخشوع:ربنا يخليك ليا…

اقترب منها، وقبل وجنتها برفق، ثم ضمها إلى صدره. لفت ذراعيها حول عنقه، ومال نحوها، ينهل من شفتيها قبلة ناعمة… يده تمر على جسدها كعازف يعرف أوتاره، لكن عزفه بلا روح.

كان يلمسها كما اعتاد… بلا رغبة، بلا شغف، بلا وعي بأنه يسحق أنوثتها كل يوم أكثر بين يديه.

حاولت مجاراته، لكنها لم تلحق… فقد انتهى قبل أن تبدأ، وكأنها مهمة يؤديها لينام.

نهض بثقل لا يشبه الرجولة، وألقى بجسده على الفراش، وغط في سبات عميق… دون كلمة.

شهقت بصمت، كأنها تبلع جرحا قديما عاد لينزف. نهضت بتثاقل، ودخلت المرحاض، ودموعها تنهمر على وجنتيها بحرقة… كأن قلبها يغسل من خيبته.

…………..
في فيلا خلف الحناوي
خرج خلف من المرحاض وملامحه متجهمة، يلف جسده بمنشفه بشرود لا يسكنه سوى الغضب. أشار إلى أحد رجاله ببرود ساخر: خده… ارميه في أي داهية.

أومأ الرجل بصمت، دلف إلى المرحاض ينفذ الأمر، بينما تحرك خلف نحو الهاتف الذي لا يكف عن الرنين، أمسكه بحدة، وغمغم بضيق نفد صبره:في إيه؟ في مصيبة عشان الرن ده كله؟!

صاح الرجل وهو يلهث وكأنه قطع المسافة إلى الجحيم وخرج حيا، :أكتر… يا باشا، حصل كارثة!

اعتدل خلف دفعة واحدة، اشتعل الشر في عينيه، وصاح بجنون: حصل إيه؟! انطق يا حيوان!

هتف الرجل مسرعًا، وكأن الكلمات تفر من بين شفتيه قبل أن تسحق تحت قدمي خلف:مصنع الحديد اللي على الصحراوي… الحكومة هجمت عليه، وقبضوا على المدير

التنفيذي، وشمعوا المصنع… وحرزوا كل الحديد المغشوش!والمواد كمان …

صرخ خلف كمن احترق جسده دفعة واحدة:إزاي ده يحصل؟! عملها سلطان الهواري عملها؟!

هز الرجل رأسه بقلق، ورد بصوت مرتجف: الضابط قال إن الموضوع جاي من فوق اوي… متوصي عليه جامد. مش باين إن سلطان الهواري له يد، إلا لو كان واصل لوصلة محدش يعرفها.

هدر خلف كالثور الجريح، يصفق الهواء بيده: طيب غور… واعرفلي مين اللي طلعلي من تحت الأرض!

أغلق الهاتف، واندفع كقنبلة فقدت صمام أمانها. راح يركل الأثاث، يحطم الزجاج، ويفرغ غضبه في كل ما تقع عليه يداه. زمجر كوحش خرج من الجحيم، لا يهدأ له تنفس، ولا يتراجع عن الدمار.

مر الوقت وهو يلهث، جسده غارق في العرق، وعيناه تبرقان بجنون… حتى دوى صوت الهاتف من جديد.

نهض بثقل، التقط الهاتف، نظر إلى الرقم الغريب، ثم رفعه إلى أذنه، وهمس بحدة: مين؟!

لم تأت الإجابة بكلمة، بل بضحكة يعرفها جيدًا… ضحكة تشعل تحت جلده نيرانًا لا تنطفئ ووووووو

5 3 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
2 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
10 أيام

🥰🥰🥰🥰❤️

nahla
nahla
1 يوم

الفصل التاسع مش موجود