بين احضان قسوته( الفصل التاسع والثلاثون)

أيّتها الملهمة، يا مَن سكنتِ الحرف قبل أن يسكنكِ القلب، حدّثيني…
ألم تقولي إنكِ عالمةٌ بأسرار الهوى، خبيرةٌ بدهاليز العشق والتيه؟
فهل لي فيكِ مأوى يُحميني من جنون الشوق، أم أن هواكِ فرارٌ لا يُدرك؟
ظننتُ الهوى خاضعًا لنا، نُقبله متى نشاء، ونطرده حين نهوى،
لكنّه، ويا للعجب، كان قدرًا مُباغتًا… نبوءةً تسبقنا بلا استئذان،
لا تقيده طبقاتُنا ولا تسجنه مسافات،
يعبر بنا الأوطان، ويهزم الحدود، ويكسر القيد والأسوار.
وإن حالت بيننا ألف حاجز،
تلاقت أرواحنا فوقها،
عشقًا لا يُفسَّر،
ودفئًا يسري في العروق،
ورجاءً يُزهِر في الصحارى المهجورة.
عند مدخل القاعة،
خطت أمل خطواتها الي القاعه جوارها وائل الذي كان ينظر حوله باستغراب متوتر…
ابتسمت وهي تقول بنبرة فرحة: هي متجوزة من فترة، بس لظروف معينة ماعملوش فرح وقتها.
أومأ برأسه دون تعليق، ثم تلفت بعينيه كأنه يسترجع شيئًا ضائعا بين الجدران، وتمتم: أنا اشتغلت هنا قبل كده… بس صاحبتك شكلها اتجوزت واحد—
توقف فجأة.
وجحظت عيناه بدهشة صادمة، وانحبست أنفاسه في صدره حين وقعت نظراته على ونس، بثوبها الأبيض، وجبران يحاوط خصرها بحميميه ويضحكون بمرح وسط الحضور.
كأن الزمن توقف، وكأن النبضات انكمشت في قلبه.
استدار نحو أمل ببطء، والذهول يلتهم ملامحه، وهتف بحنق مكتوم: ونس؟ صاحبتك؟!
قطبت أمل حاجبيها بدهشة لم تفهم سببها، وسألت بتعجب: إنت تعرف ونس منين يا وائل؟!
لم يجب… بل التفت بعنف وخرج من القاعة بخطوات هائجة، كأن ما رآه كان صفعة على وجهه.
ركضت خلفه أمل، وهتفت بانفعال: استنى! إيه الجنان ده؟! إزاي تسيبني كده وتمشي؟ لازم تفهمني!
توقف خارج الفندق، وعيناه تقدحان شررا، وهتف بغضب مكتوم: إنتي ما قولتيش ليه إن ونس صاحبتك!
رمشت أمل، لا تصدق ما تسمعه، وردت بانفعال ممزوج بالارتباك: وأنا جبتلك سيرة مين من صحابي علشان أقولك على ونس؟ وبعدين إنت تعرفها منين أصلًا؟ دي متجوزة من زمان، قبل ما أعرفك حتى!
أخفض عينيه للحظة، كأن الذكرى أثقلته، ثم همس بصوت خافت حزين: أعرفها… من قبل ما أعرفك…
كنت فاكر إني بحبها.
اتسعت عينا أمل، وقلبها انقبض فجأة، تراجعت خطوة للخلف، وهمسة: بتحبها؟!
لم يرد، لكن عينيه قالت كل شيء.
والدموع سبقت الكلمات على وجنتيها، فسارعت بالدوران والهروب، لا تحتمل مواجهة ما شعرت به.
لكنه لحق بها، قبض على ذراعها بقوة أوقفها، وهتف بصوت مجروح: استني! لازم تسمعيني!
دفعت صدره بعنف، وصرخت باكية: أسمع إيه؟ إنك بتحب صاحبتي؟!
هز رأسه بالنفي، واقترب منها خطوة، وصوته يعلو مع كل حرف: إنتي غبيه ! أنا قلت كنت فاكر إني بحبها…
بس لما شفتك، لما عرفتك… فهمت يعني إيه حب حقيقي!
كل حاجة كانت مكسورة جوايا اتصلحت على إيدك!
اللي بيني وبين ونس كان إعجاب، شوية مشاعر باهتة…
لكن إنتي؟ إنتي أول مرة قلبي ينبض بصدق!
كانت أمل تترنح بين الغضب والخذلان، وهتفت بنبرة مختنقة: ليه ما قلتليش؟ ليه ما صارحتنيش من البداية؟!
اقترب منها أكثر، وجعل أنفاسه تلامس أنفاسها وهو يقول بصوت خفيض مليء بالشغف: عشان الوحيدة اللي حسيت معاها بالأمان…عشان أول مرة أحس فيها إني بني آدم…ونس لما راحت، كنت موجوع، بس كنت عايش.
بس إنتي لو مشيتي من حياتي… هموت!
شهقت أمل بدهشة، حين جذبها وائل فجأة، وقبلها.
كانت قبلة هادئة في بدايتها، لكنها سرعان ما تعمقت، حتى أصبحت صرخة حب تتجلى فيها كل الأحاسيس المؤجلة…
ضمها إليه بقوة، يده خلف عنقها، والأخرى تحاصر خصرها، وشفاه تلتهم شفتيها كأنها وطنه، وكأن أنفاسه تعلقت بها عمرا.
وضعت يدها على صدره، وقلبها ينبض بجنون، والدهشة تكسو وجهها.
فصل شفتيه عن شفتيها، وأسند جبينه على جبينها، وهمس بصوته الأجش: حتي شفايفك سكر يا قنبلة السكر…
فتحت عينيها بذهول، وهمسة بأنفاس متقطعة:
إيه اللي إنت عملته ده؟!
بلل شفتيه، وكأن طعم شفتيها ما زال يسكنه، وقال بشغف صادق:بوستك…وطعم شفايفك علق على شفايفي…شبه الورد.
دفعته بخجل لم يخفي ضعفها، ثم هرولت بعيدًا وهي تصيح: احترم نفسك يا سافل!
ضحك وائل من أعماق قلبه، وسار خلفها بخطوات واسعة، وهتف:أنا هحترمك…احترام محصلش!
بس استحملي حبي شوية يا قنبلة السكر!
…………………………..
في زورق فاخر يشق طريقه بهدوء فوق سطح النيل، وقفت ونس وقد انسحب صوت العالم من حولها، لا تسمع إلا خفق قلبها ونبضات الحنين. ارتخت نظراتها على صفحة الماء المتراقصة تحت ضوء الشمس، كأنها تتأمل حلما لم تظن يوما أنه قد يكتب لها.
أدارت أناملها برفق على ثنايا فستانها الأبيض الحريري، تتحسس نعومته بذهول، وكأنها تستوثق من أن هذا اليوم ليس حلم آخر من تلك الأحلام التي اعتادت أن تستيقظ منها على وجع الواقع.
رفعت رأسها نحو السماء، وعيناها تبحثان بين السحاب عن ملامح أم رحلت، لكنها لم تغب عن القلب لحظة واحدة….
ابتسمت بشجن، والدموع تنهمر على وجنتيها كالند في ضوء: شايفاني يا أمي؟ أنا النهاردة أسعد واحدة في الدنيا… كل دعوة كنتي
بتدعيها لي، ربنا استجابها… بس في بني آدم واحد… شفتي يا أمي؟ عوض ربنا عظيم ازاي … جميل بطريقة أنا ما كنتش أتصورها…
ارتعشت شفتاها، وازدادت نبرة صوتها خفوت وصدقا:أول مرة دموعي تنزل من الفرحة… انا مش بحلم، والله ما بحلم، عارفة ليه؟ لأن حتى فـ أحلامي ما كنتش أتخيل إني ألقى راجل زي جبران، يحبني بالشكل ده، ويعمل عشاني كل ده.. أنا بحبه اوي اوي يا امي
وما إن أغمضت عينيها على تلك الأمنية التي تحققت، حتى باغتها دفء ذراعيه يحيطها من الخلف، وصوته الأجش يهمس قرب أذنها: ولا جبران كان بيحلم، لحد ما دخلتي حياتي يا ونس…
شهقت، وابتسمت من فرط التأثر، ثم همسة بصوت مبلل بالدموع والضحكة: جبري… خوفتني!!
ضمها بقوة إليه، كأنما يخشى أن تسلبه الأقدار هذه اللحظة، وراح يمرر شفتيه على وجنتيها المحمرتين من الخجل والدمع، وتمتم بعشق مشاكس: سلمتك يا كوين فاليروز… أخص عليا !!
ضحكت بنعومه ، وعانقته بذراعيها بشوق واطمئنان، وهمسة: جبري، متشتمش نفسك… أزعل منك ..
ابتسم بعبث خافت، واقترب من شفتيها وهمس:
والله ما اقدر علي زعلك يا ونس… يبقي لازم أصلح غلطتي..
ردت بصوت متهدج مغلف بأنوثة فاتنة: أنت لسه ما صلحتهاش، يا جبري؟
أصدر صوتا نافيا ساخرا من فمه، وقال وهو يضغط على حروفه بعذوبة ماكرة: تؤتؤ… لسه. هبوظك في ليلة، وأصلحك في اللي بعدها ..
ضحكت بفتنة صافية، وشدت ذراعيها حول عنقه، تحتمي به، وتفتنه أكثر. حملها بين يديه كأنها كنزه الأثمن، وردد بشغف وعبث : استعنا على الشقى بالله!!
تسلل بها إلى الغرفة السفلية، حيث يحتل السرير الكبير منتصف المساحة، وضعها برفق على الفراش كمن يضع أمنية طال انتظارها،
وجلس إلى جوارها، يداه تتلمسان خصلات شعرها، يعيد إحداها خلف أذنها، وعيناه تغوصان في ملامحها. همس بصوت مبحوح من فرط المشاعر:
هي دي الليلة اللي تستاهليها ، يا ونس… كنت غلطان لما لمستك قبل ما أعملك فرح يعرف بيه الكون كله إنك مراتي…
رفعت عينيها إليه، ونظرت له بعينين مغمورتين بالعشق واليقين، وهمسة: وأنا مش ندمانة، يا جبري… كل مرة لمستني فيها، كنت بتنتزع شوك من قلبي، وبتزرع مكانه ورد… ورد كتير…
ابتسم من جانب فمه، واقترب حتى اختلطت أنفاسهما، وهمس بعينين مشتعلتين: ولسه فيه شوك؟
هزت رأسها نافية، وتمتمت بصوت مثير لا يخلو من الحنان: لا، كله ورد… إنت شلت كل الشوك. قلبي كان مقفول، ميت… دلوقتي بقى جنة كلها ورد، بحبك اوي !!
اقترب منها أكثر، شفتيه تسيران على عنقها، كأنها ترانيم مقدسة يهمسها عاشق لأول مرة، وهمس بحرارة أنفاسه تذيب الهواء: ما تيجي نزرع ورد جديد؟
شدته نحوها، والتقت عيناها بعينيه، وهمسة بشوق مبحوح: عايزة ورد كتير… بحب وردك أوي!!
ضحك بخفة ماكرة وقال: إحنا اتطورنا أوي يا ونس… إيه اللي حصل؟
فجأته بقبلة عميقة حملت كل الامتنان، كل العشق، وكل الجنون، وقالت له بين ضحكتها وأنفاسها: لالاا متفهمنيش صح يا جبري!!
لكن جبران لم يكن لينتظر تفسيرًا، بل كان قلبه يقرأها قبل كلماتها. انزلق سحاب فستانها بانسيابية بين أصابعه، وكأن الصبر قد فارقه، وهمس بشوق مشتعل أمام شفتيها المرتجفه: هو حد فاهمك قدي، يا ونس؟
ومن تلك اللحظة، تاهت الكلمات، وغرقت الأنفاس، واشتعلت الأرواح ببعضها، وتحولت الغرفة إلى معبد عشق، حيث لم يبق في العالم سوى ونس وجبران، عاشقان نزعا الأشواك عن بعض، وزرعا وردا لا يذبل… أبداً.
تسارعت دقات قلبها تحت أنامله، كأنما كل خلية فيها تنبض باسمه. كانت عيناه تشي بنهم العاشق، لا الجائع لجسد، بل الظامئ لقربٍ طال….
مال عليها بجسده فوقها لم يكن عبئا… كان أمانا. كان الدفء الذي افتقدته طوال حياتها، والحنان الذي تاقت إليه في الليالي الباردة من الوحدة، والجنون الذي أيقظ فيها أنوثة كانت تجهلها.
أغمضت عينيها حين انحنى يمرر قبلاته على كتفها العاري، ببطءٍ متعمد، وكأنه يحفظ تضاريسها بأنفاسه قبل شفتيه. أنفاسه الساخنة تلامس رقبتها، تسبق شفتيه بندى من الرغبة، وهمس لا يقال بالكلمات بل بالحضور كله.
قال بصوت أعمق من همسة، وأشد وقع من اعتراف:
كنت فاكر إنك هديتي من ربنا… بس دلوقتي، بعد اللي حسيته… أنا متأكد إن ربنا بعتك لي رحمه في الدنيا دي!!
مرت أصابعه بخفة على طول ذراعها، فتشبثت به أكثر، كأنها تخشى أن تذوب دونه، أن تفقد اتزانها من فرط ما تشعر.و تمتمت بصوت خافت، وهي تطوقه بذراعيها:
كنت خايفة… من كل حاجة… حتى منك… بس دلوقتي، ما بقتش عايزة غيرك…
همس عند أذنها، وهو يتنقل بين عنقها ووجنتها بشفتيه:خوفتك أنا زمان يا ونس ؟
هزت رأسها ببطء، وهمسة بخجل دافئ: اه بس شكلي كده كنت خايفة أحبك أوي… فتكسرني!!
رفع رأسه، ونظر إليها بعمق يخلع اليقين من القلب، وقال بصوت أجش: أنا مش جاى أكسرك يا ونس… أنا جاى ألمك، وأعيدك لنفسك، وأحبك حتى لو الدنيا كلها ضدك!!
أغلقت عينيها، ودمعة صامتة انسلت من زاويتهما، فمسحها بشفتيه، كما لو أنه يمحو كل جرح قديم. ثم تابع بنبرته التي كانت تجمع بين الوعد والرغبة:
هعلمك يعني إيه لما راجل يحب مراته… لما يعشق تفاصيلها… لما يخليها ملكة في حضنه، ما تطلبش أمان من حد تاني غيره
وببطء، بدأ يخلع عنها خواء السنوات الماضية، لم يخلع فستانا فحسب، بل خلع عنها ثوب الوحدة والخوف، والخذلان… وحين التصقت روحه بروحها، لم تكن لحظة عابرة، بل كانت تجسيدا مقدسا لحبٍ اكتمل، وعشق لا رجعة فيه.
تناثرت أنفاسها تحت قبلاته، وارتجفت ضلوعها حين ناداها باسمها لأول مرة بنبرة لا تنسى: يا ونس دنيتي … يا وجعي الحلو… يا عمري اللي كان ناقص…
تمتمت بأنفاس متقطعة بين قبلة وأخرى: جبري… هموت من كتر اللي حاسه!!
رفع وجهه عنها للحظة، وهمس وهو يتأمل عينيها الغارقة فيه: تعالي موتي فيا… وارجعي تولدي بين إيدي!!
دنا منها وهمس أمام شفتيها بصوت أجش مشتعل: أنا هزرع ورد لحد ما اهد حيلك يا ونس الليله دي …
ضحكت بصوت مثير رنان فهبط علي شفتيها بقبله ناريه سحق شفتيها بعنف ويده تمر علي جسدها بسرعه ولهفه …
لفت ذراعيها حوله ومررت يدها علي ظهره برقه وهي تتنفس بصعوبه امتص شفتيها بعنف ودار بها وسط الفراش وجلس بها …
تمسكت به وامتصت عنقه وهي تمرر أظافرها علي ظهره بـ اثاره حارقه …
دنا منها وهمس ف أذنها بعبث: ونس مش عايزين نكمل الليله ف المستشفى يا قلبي اهدي عشان احاول اهدي ..
هزت راسها بالنفي ودنت منه ومالت عليه ولفت ساقيها على خصره ..وشهقت وهي تفرك جسدها بنعومه فوق رجولته المتصلب بجنون…
مالت عليه وامتصت شفتيه شهقت بلهفه عندما قبض على شعرها وسحب لسانها وامتصه بعنف ويده تمر على جسدها يداعبها بأطراف أصابعه …
جعل جسدها يرتجف وانفاسها تشتعل بجنون اخترقها بعنف حاول السيطره عليه بكل قوته شهقت وتلوت بين أحضانه وصرخت بالم: ااااه يا جبري ااااااه …
ضمها إليه ورفعها ودنا منها وهو يدفع بداخلها بقوه حانيه.. وجنون عاقل …ونار مشتعله تحت الرماد…
عالت آهات ونس وصرخاتها ملأت الإرجاء…
وزفرات جبران وانفاسه تحرق جسدها المرتجف بنعومه فائقه ..
وفي تلك الليلة، لم يكن النيل فقط شاهدًا، بل حتي النجوم نفسها أغمضت عينيها حياء أمام عشق من طينة نادرة…
عشق حفر على جبين الليل وعدا أبديا أن لا انفصال بعد الآن، أن لا خوف، أن لا برد، أن لا وحدة… فقط ونس وجبران، وجسد واحد يحتضن أرواح التصقت إلى الأبد.
في صباح هادئ، تراقص فيه ضوء الشمس على صفحة النيل كما لو أنه يهمس بأغنية لا يسمعها سواهما…
استيقظ جبران باكرًا، ترك الفراش بصمت حتى لا يوقظ ونس، ثم توجه إلى المطبخ الصغير في الزورق، يعد الفطور بنفسه. لم يرد لأحد أن يشاركه تلك اللحظة… كان يريد أن يدللها، أن يعوضها، أن يبدأ صباحهما بمذاق لا ينسى….
عينيه لم تكن ترى في الحياة سوى وجهها، وملامحها الناعسة التي تركها على وسادته…
دس الزبدة فوق التوست، قطع الفاكهة بعناية، أعد القهوة بنفس الرائحة التي تحبها… وحين انتهى، حمل الصينية وسار نحو الغرفة بقلبٍ يخفق كصبي وقع في الحب لأول مرة.
فتح الباب بهدوء، ودلف بخطوات خفيفة.
كانت ونس لا تزال نائمة، شعرها مبعثر على الوسادة، وجهها يغمره النعاس وعيناها نصف مغمضتين… بدت كطفلة أرهقها الفرح.
اقترب منها، جلس عند طرف الفراش، وهمس بنبرةٍ دافئة، صوته كحريرٍ يلامس الروح: صباح العُمر، يا كوين … صباحك ناعم زي قلبك.
ثم مال نحوها، وطبع قبلة هادئة على جبينها.
فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه بتلك النظرة التي تحمل كل العشق، وكل الامتنان : جـ… جبري؟ انت صحيت بدري؟
ضحك برقة: صحيت وأنا بعرف انام وانتي جمبي بطيري النوم من عيني … قومى بقى، أنا عملتلك فطار يليق بكوين فاليروز ….
ابتسمت، وبدت تحاول النهوض، لكنها ما إن حركة جسدها حتى تأوهت بخفوت، بألم لطيف ارتسم على ملامحها، توردت وجنتاها خجلا…
انتفض جبران فجأة، وضع الصينية جانبا وانحنى نحوها، عينيه تسكنهما نارا من الهلع: ونس؟ فيكي إيه؟ ايه بيوجعك؟ في حاجة؟!
هزت راسها بالنفي وردت : لا يا جبري… أنا بس، جسمي مكسر شوية… من الليله اللي فاتت…
أمسك بوجهها بين راحتيه، عيناه تبحثان عن أي إشارة للأذى، قلبه يضرب بجنون، كأنه يعاقب نفسه بصمت وغمغم : حبيبي! أنا… أنا كنت عنيف؟ ضايقتك؟ كنت غبي؟!
هزت رأسها بالنفي سريعا، وضحكت بخجل، ثم همسة بصوت مبحوح: متقولش كده… دي كانت أحلى ليلة في عمري يا جبران… مفيش وجع، في بس فرح… في جموح… لعشق أول مرة حد يعيشه بالشكل ده.
تنهد براحة، وسحبها برقة إلى صدره، عانقها طويلًا وكأنّه يخشى أن تفلت منه وهمس : كنت مجنون… بس كنت بموت عليكي، وكنت عايز أزرعك جوايا… كنت عايز كل نفس منك يدخل في دمي.
ضحكت بخفة، وهمسة في عنقه: زرعت ورد كتير يا جبري… ولسه ريحته مالية القلب…
سحبها من يدها بلطف، وأجلسها في حضنه، ثم مد يده وأخذ قطعة من التوست، قربها من فمها: افتحي بؤك، عايز أأكلك زي الملوك…
– مش عايزة اتدلع لوحدي، كل معايا يا باشا.
– ناكل سوا يا كوين فيروز.
أكلا معا، تتخلل اللحظات ضحكات ناعمة، وقبلات مسروقة، وهمسات تقال بالعيون أكثر من الشفاه… وكأن هذا الفطور هو وعد بحياةٍ من الدلال والعشق والاحتواء.
وبعد أن انتهيا، أسندت رأسها على كتفه وهمسة: جبري… أنا عايزه أرجع القصر النهاردة.
رفع حاجبه بدهشة: ترجعي؟ ليه؟ واحنا لسه ف شهر العسل!
ضحكت وقالت برقة: عشان دمع وجيلان… امتحاناتهم قربت ولازم أكون معاهم، مقدرش أسيبهم يا بابا
نظر لها نظرة عشق تفيض احترامًا: أصيلة يا قلب البابا … هانرجع، بس اوعدك… هنكمل شهر العسل جوه القصر.
سحبها من يدها، وقبلها في كفها كأنها أميرة تتسلم عرش قلبه، ثم نهض ليجهز كل شيء للرحيل.
لكن ما في قلبه، لم ولن يرحل… فقد سكنته، ونس… للأبد.
……..
في صباح اليوم التالي داخل القصر…
جلست ونس بكامل هيبتها، تراقب جيلان ودمع بعين صارمة لا ترحم. كانت عينها تنتقل بين رؤوسهما المنكسة فوق الكتب، كأن كل دقيقة تمر هي كنز لا يعوض، وكل لحظة ضائعة تحمل ثمنا باهظا لا يدفع إلا بالفشل.
رفعت جيلان رأسها بتعبٍ ظاهر وزفرت بشدة، قبل أن تقول بأنين: ونس، أنا خلاص تعبت… كفاية النهارده.
لم ترفع ونس عينها عنها، بل اكتفت برفع حاجبها وهتفت بصرامة هادئة: ذاكري يا بت، وبطلي دلع!
اعترضت دمع بنفاد صبر: يا ونس، بقالنا ست ساعات بنذاكر، دماغنا هتنفجر بجد!
نظرت ونس إلى الساعة في يدها، ثم قالت بنبرة لا تخلو من الحسم: كمان ساعة، وهديكم عشر دقايق راحة…، اعتبروها جائزة…
شهقت جيلان بيأس، بينما ألقت دمع برأسها على طاولة الطعام كمن سلبت روحها، وغمغمت بدموع على وشك السقوط: ده اسمه اضطهاد… اضطهاد رسمي يا ناس!
ضحكت ونس بخفة، وحنان خفي، قبل أن تقول: خلاص، ربع ساعة راحة… بس نكمل بعد كده، الامتحان بعد بكرة يا بنات!
عادت الفتاتان إلى الكتب مجددا، تتقاذفهما المعاناة، حتى دلف إلى القاعة كل من سليم وآدم…
دخل سليم أولًا وهو يلوح بيديه ضجرا، وهتف: أنا اليوم كله مشوفتش مراتي علشان الهري ده… امتحانات إيه يا جدعان؟ أنا هصور لكم قتيل!
قهقه آدم بخبث، وهو يغمز له: نفسي أشوفلك موقف يا راجل قبل ما أموت… ده انت بتخاف من ونس يا باشا!
رفع سليم حاجبه بتهديد مصطنع، وقال: أنت بتسخني؟ طيب تعالى شوف بنفسك!
تمسك به آدم وهتف : استني عايزك في كلمتين
نظر له سليم وأشار بيده واردف: قول يا آدم ..
نظر له آدم وهتف بجديه : بصراحه يا سليم أنا لي فتره بتواصل مع القائد بتاعي.. وهرجع شغلي تاني أنا مش لاقي نفسي من وقت ما سبت الخدمه !!
اقترب منه سليم وربت ع منكبه وقال: ليه تاني يا آدم ..أنا مصدقت ارتاح من القلق عليك يا اخي؟!
ربت ادم علي كف سليم وغمغم: حبيبي متقلقش الاعمار بيد الله ..وانا بصراحه مش بحس اني عايش غير وانا بشتغل في الخدمه.. وانت عارف زمان سبتها عشان امي الله يرحمها ..ودلوقتي أنا محتاج ارجع ..
عشان خاطري متزعلش مني يا صاحبي!! واحنا شغلنا وشاركتنا زي ما هي في شركه الحراسه.. لما اكون اجازه هكون معاك اكيد !!
ربت سليم علي منكبيه وضمه بحضنه وقال: اللي يريحك يا صاحبي ..أنا معاك فيه !
نظر له وغمزه بعبث وقال: تعال شوف بقا ..هعمل ايه في ونس!!
ثم تقدم الي داخل القصر نحو ونس وقال بجدية مفتعلة: موبايلك فين يا كوين القصر ؟
نظرت إليه بدهشة وهتفت : فوق… ليه؟ في حاجة؟
اقترب منها وهو يصطنع الذهول: يا نهارك اسود… الباشا بيرن عليكي من بدري، وزعلان إنك مش بتردي!
شهقت ونس، ونهضت بسرعه كأن مس أصابها، وركضت نحو الدرج وهي تهتف: يا لهوي… طيب مرنش ليه على تليفون القصر؟!
تبعها صوت دمع وهي تتحرك خلفها بفزع: يانهار اسود! ونس، متجريش كده، ده خطر… انتي حامل!”
أمسك سليم بذراعها فجأة : استني يابت إنتي كمان!
حاولت الفكاك منه وهي تصيح: ابعد يا سليم! أنا هروح أجيب لها الموبايل!
قهقه آدم ضاحكًا، بينما قال سليم بامتعاض: يعني أنا أعمل كل ده… وفي الآخر إنتي اللي تروحي تجيبي الموبايل؟!
حدقت فيه باستغراب:ةنعم؟ يعني إيه؟
فجأة بحركة مفاجئة، وحملها على منكبه وركض خارج القصر وهو يهتف: يعني… وحشتيني أوي يا ديمو!
ضربته بخفة على ظهره وهي تضحك وتصرخ:يا مجنون! ونس هتطلع عينك النهارده… امتحان بعد بكرة يا ناس، ألحقيني يا ونس!
ضحك آدم وتوجه نحو جيلان، سحب يدها بلطف مغلف بالحزم وقال : تعالي انتي كمان… وحشتيني يا چيچي!
تردد صوتها الخائف وهي تسحب نحوه: انتو اتجننتوا؟ هنسقط والله، أنا حاسة كده!
خرج بها الي الحديقه الخلفيه وأسندها برفق إلى جذع شجرة، واقترب منها حاصر جسدها الصغير بجسده العريض وهمس بصوت خافت:هتجوزك، وأخليكي أميرة في بيتي… يا قلب آدم.
ضحكت بخجل، ولفت ذراعيها حول عنقه وهمسة:
ياريت يا آدم… تريحني من الامتحانات والمذاكرة…
هز رأسه نافيا وقال بنبرة جادة: لا يا قلبي… الجواز مش معناه إنك مش هتكملي دراستك. ده عندها يابت ..الدراسه عندي خط أحمر!
قطبت حاجبيها بدهشة: عندها؟!! هي مين دي؟
دنا منها وضحك بمكر وغمغم بعبث : لما اتجوز أقولك!
في الأعلى…
قلبت ونس في الهاتف بتوترٍ ظاهر، حتى وضعت يدها على قلبها وقالت بارتياح: الحمد لله… مرنش ولا حاجة!
ثم رفعت نظرها إلى الأمام وهمسة بحنق: ماشي يا سليم… أنا هوريك!
نزلت بخطى سريعة تبحث عنهم، حتى وجدت طاولة الطعام خاوية والكتب عليها بلا أحد. عضت على شفتها بنزق وقالت: أنا هوريكم يا شوية عيال… يومكم اسود النهارده!
خرجت إلى الحديقة ومنها إلى فيلا سليم، لكنها وجدت الباب الخلفي مواربا، فدخلت بهدوء… لكنها شهقت فجأة عند رؤيتها لـسليم يعتلي دمع على الأريكة، يقبلها بنهم لا يعرف الكبح.
صرخت بخجل مخلوط بالدهشه: ســــليم! دمـــع! ده وقته؟! إنتو اتجننتوا؟!
قفز سليم من فوقها كأن صاعقا مسه، بينما سحبت دمع فستانها المرتبك وهي تهتف: والله ماليش دعوة! ده هو اللي جابني غصب عني!
نظر لها سليم مصدوما: غصب؟ ومين اللي كان دايب في حضني من شوية؟!
لكزته ونس بحدة وصاحت: هتجننوني! إنتي امتحاناتك بعد بكرة يا بت! هتمتحني ف ايه يا دمع !!
رد ساخرا وهو يسحب قميصه: أحياء!
أمسكت ونس إحدى الفازات وصرخت فيه: اطلع برا! وسيب أختي تذاكر قبل ما أسيح دمك!
ركض وهو يضحك بينما الفازة تطير نحوه. تبعته دَع راكضة إلى القصر، وهتفت وَنس: المذاكرة! الامتحان يا نهار اسود!
توقفت لحظة ثم قالت: وجيلان؟ أكيد مع المنحرف التاني!
اتجهت إلى الحديقة الخلفية، ووجدته يضمها لحضنه ويضحكون بمرح . لكزت آدم في منكبه وقالت بحدة:
وبعدين معاكم؟!
شهقت جيلان وهربت فورًا إلى الداخل، بينما قال آدم بابتسامة ساخرة: حماتي حبيبتي!
نظرت له بدهشة: حماتك؟ أنا؟! فاكرني جيلان هتضحك عليا بالكلام ده؟!
نظر ادم الي جيلان وهي تركض وصاشح بنزق :
اجري يا بت اجري… أما وريتكم يا عيلة كتعة!
نظر لها آدم وقال همس: الا إنتي يا جميل اللي هتحنني قلب الباشا عليا !! انا زي اخوكي برضو !!
أشارت له بيدها نحو الباب:امشي! ومشوفش وشك هنا غير بعد الامتحانات!
قال بإصرار: بس تجوزها لي بعد الامتحانات!
هزت رأسها بحسم: علي الجنان اللي انا فيه ده بعد الجامعة! مش قبل كده!
شهق وقال بصدمة: أحااا؟!
جحظت عينيها وصرخت: آدم؟!
هتف بغضب: أربع سنين؟! إنتو عايزين تجننوني؟!
أدارت ظهرها له وقالت بمرح وهي تبتعد: والله ده اللي عندنا!
دخلت القصر، لتجد جيلان تعطي كوب ماء لـدمع، بينما الأخيرة شاحبة الوجه.
اقتربت ونس وقالت بقلق: في إيه؟! مالك يا دمع؟!”
همسة دمع بضعف: دوخة بسيطة يا ونس…
ردت جيلان: ممكن من التوتر والقلق بتوع الامتحان…
لكن ونس لم تقتنع، رمقتها بنظرة عميقة وقالت: لا… لو اللي في بالي صح، أنا هموتِك يا دمع!
نظرت لها دمع بدهشه وغمغمت : هو إيه؟! أنا معملتش حاجة!
صرخت وَنس باتجاه إحدى العاملات: كلمي الصيدلية… عايزة اختبار حمل حالًا!
نظرت إليها دمع وجيلان بدهشة وخوف، وبعد دقائق عادت العاملة بالاختبار. أخذته ونس، وقالت:يلا يا دمع… على أي حمام، واعملي الاختبار!
نهضت دمع، تتعثر قدماها من التوتر، وأغلقت الباب خلفها. مرت لحظات من القلق، بينما كانت ونس تدور حول نفسها، وجيلان تراقبها مستغربة:أنا مش فاهمة… إنتي متوترة كده ليه؟
قالت ونس بصوت مختنق: احنا داخلين على امتحانات… ولو دمع حامل، الضغط والتعب هيزيدوا عليها أضعاف!
هزت جيلان رأسها بتعب: معاكي حق والله…
وفجأة، سمعوا صرخة عالية من داخل الحمام: الحقيني يا ونس!!
هرعتا معا نحو الباب، وهتفت وَنس : في إيه يا دمع؟!! إنتي بتصرخي ليه؟! افتحي الباب يا بت!
فتحت دمع الباب ببطء، وعيناها تلمعان بالدموع، ومدت يدها المرتجفة وهي تمسك بجهاز اختبار الحمل، ناولته لونس دون أن تنطق بكلمة.
أخذت ونس الجهاز، نظرت إليه بسرعة، ثم شهقت ووضعت يدها على فمها، وهي تلتفت لدمع بدهشة وقالت بصوت خافت: يا نهار أبيض… حامل!
صرخت جيلان بصدمة: إيه؟!! بتهزري؟!
أومأت ونس برأسها ببطء، ووجهها لا يعكس سوى مزيج من الذهول والقلق، ثم نظرت إلى دمع التي بدأت دموعها تنهمر وقالت بصوت مكسور: أنا مش فاهمة… أنا كنت باخد بالي والله، هو حصل إزاي؟
اتكأت ونس على الحائط وقالت بحدة خافتة: حصل لأن جوزك مجنون، ومش بيفهم حاجة اسمها توقيت، ولا مسؤولية، ولا امتحانات بعد بكره!
قاطعتها جيلان بدهشة: طيب وهنعمل إيه دلوقتي؟!
مسحت ونس وجهها وقالت: هنعمل اللي المفروض يتعمل… مفيش ضغطولا صريخ، هنعدي الليله دي بسلام، وبعد الامتحانات هنفكر هنمشي إزاي.
ثم نظرت لدمع بحنان وهي تقترب منها وتمد ذراعيها لتحتضنها وقالت:زبس يا حبيبتي، متعيطيش… إحنا معاكي، ومش هتعدي حاجة لوحدك، بس لازم نكون عاقلين.
دمع همسة وهي تغوص في حضن ونس: خايفة… خايفة أوي يا ونس.
ونس وهي تربت على ظهرها بلطف:وخوفك طبيعي، بس إحنا أقوى من أي خوف… واللي حصل خلاص حصل، المهم نعدي اللي جاي بالعقل.
جيلان قالت وهي تمسك بيد دمع وتبتسم بلطف:
وما تنسيش… أنا معاكي دايما، وحتى لو عندك بيبي… هيكون أول حفيد للقصر ده، وهنغرقه في الدلع.
ضحكت دمع وسط دموعها، وغمغمت:
“ابن سليم المجنون… تفتكروا يطلع عاقل ؟!
ضحكت ونس وقالت: ما أظنش… شكله هيطلع نسخة تانية من أبوه، وربنا يعيني عليه!
ضحكت البنات جميعًا وسط جو امتزج فيه القلق بالحب، والخوف بالتكاتف، وبدأت رحلة الاستعداد للامتحان تحت ظل خبر غير متوقع…
………….
كانت الشمس تميل إلى الكبد، تنثر خيوطها الذهبية فوق عشب الجنينه، حيث عم السكون كأنما توقفت الدنيا للحظة.
على مقعد خشبي بجوار شجرة ياسمين عتيقه، جلست أميرة، تتابع مي الصغيرة وهي تقلب صفحات كتاب الحساب بملل، بينما عين أميرة نفسها كانت غارقة في مكان بعيد، أبعد من الورق والأرقام.
من خلف الشجيرات، تقدم عادل بخطى واثقة لكنها متأنية، يحمل في ملامحه هدوء يشبه أواخر الخريف…
هدوء رجل شبع من الصخب، ولم يعد يهوى إلا السكينة.
توقف على مسافة قصيرة، وصوته خرج هادئًا يحمل نبرة دفء نادرة: ازيك يا مدام أميرة…
رفعت أميرة رأسها ببطء، وعينيها قابضتين على الحذر، كأنها لا تريد للكلام أن يبدأ حتى لا تضطر للرد. ثم قالت، دون أن تنظر إليه : خير؟
ابتسم عادل برقة، وجلس دون أن يستأذن، ناظرًا إلى الأرض قبل أن يرفع عينيه نحوها:كل خير أنا كنت جاي لجبران… بس شفتك، قلت أسلم. لو وقتك يسمحلي، أحب أتكلم معاكي شويه.
نظرت إليه نظرة فاحصة، فيها شيء من الاستغراب، وشيء من العتاب، ثم غمغمت: هو إنت دايما بتتكلم بالراحة كده يا خويا ؟ ولا انت نحنوح ولا ايه بالظبط!!
ضحك بخفة، وقال دون أن يفقد هدوءه:أنا طريقتي دي مع الكل… بس انتي ليكي طريقتك في الوجع.
أول مرة شفتك، حسيت بحاجة عمرها ما حصلتلي.
قطبت جبينها، وأشاحت بوجهها كأنها تصد أي فرصة للضعف:طب وماله، تحس براحتك.ةبس أنا ماليش في الكلام ده يا اخويا ، ومليش في الرجالة أصلًا.
أنا اتلسعت… ولسعتي دي خلتني أحرم توبت توبه نصوحه
مال قليلًا للأمام، وقال صوت أصبح أكثر دفئًا، لكنه لا يزال متزن، كأن كل كلمة تخرج منه بحساب:
اللسعة من حد ما تعنيش إن الكل بيحرق.
وفيه ناس بتيجي علاج على الوجع مش تزوده.
صمتت… كأن كلماته لمست شيئًا دفين فيها، ثم رفعت نظرها له وقالت، بنبرة حاولت أن تكون جافة لكنها خرجت مخنوقة:أنا كنت عايشة مع راجل… مش راجل.
صبحي… كان وحش في صورة بني آدم.
حياة كلها ضرب وإهانة وسكوت…
سكت عشان عيالي، وسكت عشان الناس… وسكت لحد ما الصوت جوايا مات….جاي النهارده تصحيه؟
نظر لها نظرة طويلة، حانية، لا تحمل شفقة بل تقديرًا عميق، وقال بهدوء: لأ… أنا مش جاي أصحي حاجة ماتت، أنا جاي أزرع جديد… لو عندك نقطة مية تسقيه.
أنا مش طالب حاجة… غير إنك تسمعيني، وتدي لنفسك فرصة.
ضحكت ضحكة صغيرة فيها مرارة، وقالت: فرصة ايه يا خويا بعد ما شاب ودوه الكتاب؟ أنا خلاص… الفرص بالنسبالي بقت شبه العدس في الرز.
يا دوب تلمحيها قبل ما تختفي.
ابتسم وهو ينظر إلى مي التي كانت تغني لنفسها بهمس وهي تقلب الكتاب، ثم قال دون أن يرفع عينيه:
بس أنتي لسه بتذاكري معاها… ولسه بتخافي عليها… ولسه عندك حب.
واللي لسه عنده حب… يقدر يبتدي.
صمتت أميرة… لحظة واحدة فقط، لكنها كانت كافية ليزحف التردد إلى نبرتها. ثم قالت بنعومة مفاجئة:
ماينفعش… أنا ايه ضمني انك مش زيه في الآخر راجل
هز رأسه بتفهم، وقال:بس مش زيه ابدا
اومات برأسها وقالت: كلكم نفس الطينه أنا خلاص هعيش لبنتي وبس
نهض وابتسم بجانب فمه ورد: أنا مش مستعجل… ومش مستني دلوقتي.
بس لو جيه يوم واحتجتي كتف ترتاحي عليه…
أنا موجود.
ربت على صدره بحركة خفيفة، كأنما يحاول أن يخمد شيئًا داخله، وقال قبل أن يرحل : سلام يا أميرة…
مضى، في خطوات بطيئة لكنها ثابتة، بينما ظلت أميرة تحدق في ظهره.
وعينيها… فيهم شيء اتغير. مش حب، لكن… تساؤل.
وتساؤل الست المجروحة أول الخيط.
…………………………………………..
ف فيلا سليم الباشا
كانت الغرفه غارقة في هدوء ناعم، لا يُسمع فيه سوى صوت أنفاسها المتوترة وهي تلف حول الطاولة الصغيرة التي رتبتها بعناية. الشموع الموزعة بعناية ألقت بظلال راقصة على الجدران، والموسيقى الهادئة التي كانت تسمع في الخلفية تزيد الجو حميمية.
تألقت دمع، بفستان أبيض ناعم ينزلق على جسدها بانسيابية، كانت ترتجف رغم دفء المكان. وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها، وضعت يدها على بطنها الصغيرة التي لم يبد عليها شيء بعد، لكنها تعرف، بداخلها حياة… قطعة من سليم.
همست لنفسها وهي تبتسم بتوتر: هيفرح… أكيد هيفرح. ده كان دايما بيحلم بده…
على الطاولة، وضعت صندوقا صغيرًا أنيقا، لونه كحلي داكن، وبداخله فردة حذاء أطفال قماشي أبيض، وبجواره ورقة صغيرة مكتوب عليها بخطها المرتعش “استعد… انا جاي يا بابا …
فتح سليم الباب، فقفز قلبها من مكانه. وقفت بسرعة، وعدلت شعرها، ثم وقفت وسط الغرفه تنتظره، قلبها يدق كأنها ترى سليم لأول مرة.
دلف سليم وهو يفك زرار قميصه، وقال بتعب واضح:
دمع، انتي لسه صاحيه ليه؟ الدنيا قربت على الفجر…
ثم سكت فجأة… وبدأ يلاحظ الجو.
حدق سليم بدهشة وهو يلف بعينيه: إيه الرومانسيات دي؟ شموع؟ موسيقى؟ ريحة أكل؟ إيه ده؟
همسة دمع بصوت خافت مرتبك: كنت… كنت عايزة أقولك حاجة.
اقترب منها وهو يبتسم بخبث: كل ده عشان تقوليلي حاجة؟ أنا بدأت أقلق.
أشارت له بالصمت، ثم تناولت الصندوق من الطاولة وقدمته له بيدين مرتجفتين.
سليم وهو يلتقط الصندوق باستغراب : ايه الصندوق ده ؟ جبتلي هدية؟ انا اللي لازم أجيبلك هدية، من امتى القواعد اتقلبت؟
فتح الصندوق، وسكت…
نظر إلى الحذاء الصغير، ثم إلى الورقة، قرأها مرة، مرتين… ثم رفع عينيه ببطء نحو دمع.
وهمس بصوت مبحوح: يعني… يعني إنتي…؟
صوته اختنق، وكأن الكلمات تخونه. ونظر لها بدهشة
اومات دمع بابتسامة باكية : أنا حامل، يا سليم…
تجمد في مكانه لحظات، قبل ما يضحك فجأة، ضحكة عالية مجنونة وهو يرمي الصندوق على الكنبة ويهجم عليها، يرفعها من خصرها ويدور بها وهو يصرخ:
ييييااااه! أنا هابقى أب؟!! دمع!!! إنتي حامل بجد ؟ والله؟!!
ضحكت وهي تبكي وهتفت : جد جد، والله العظيم.
أنزلها فجأة، وركع على ركبتيه امامها، ووضع كفه على بطنها، وقبلها بهدوء وهمس: هنا؟ هنا في ملاك صغير؟ مني ومنك؟ يااااه يا دمع… إنتي عارفة إنتي عملتي فيا إيه دلوقتي؟
هزت راسها وهمسة بصوت متأثر: إيه يا حبيبي؟
رفع عينيه وهو يدمع لأول مرة: حسيت إن قلبي ما بقاش ملكي… بقى ليكم. انتي… وللي جواكي.
ضمها بقوة، بصدره، بذراعيه، بكل جنونه… وقال بصوت مبحوح: أنا هحميكم، وهعيش عشانكم، ووالله لا أفرشلكوا الدنيا ورد، بس استنوا عليا، استنوا شوية، وانا هخليكم أغنى اتنين في الدنيا حب وأمان.
ابتسمت دمع، ثم قالت بسخرية خفيفة: أهم حاجة تسيبني مساحة أنام بس… البيبي محتاج أم مرتاحة!
ضحك سليم، ومسح دموعه، ثم همس لها وهو يحاوط وجنتيها : إنتي أحلى خبر جالي في حياتي يا دمع… وأنا مجنون بيكي، وباللي جاي منك.
ثم احتضنها من جديد، ووقفا هناك، وسط الشموع، والموسيقى، وبداخلهما إحساس لا يمكن وصفه… حياة جديدة بدأت، وبذرة عشق تنمو بداخلها ، يرويها قلبهم معا
…………………………….
مر شهر، لكنه لم يكن شهرا عاديا. كان كأنه نافذة فتحت على فردوسٍ أرضي، تناثرت فيه قطرات من الفرح الصافي، واكتمل فيه نضج العشق وتوهجه. كأن الزمن تآمر مع القدر ليصنع لكل قلبٍ من هؤلاء سكنا يليق به، وطمأنينة طال انتظارها.
ونس، تلك النقيه التي ارتوت روحها من جنون جبران، كانت تخفي وجع الحمل المتصاعد خلف ابتسامة عنيدة، تقاوم الأرق والغثيان وارتباك الجسد، فقط لأجل ألا يرى في عينيها تعبا. كانت تتلوى أحيانًا بصمت، تضع يدها على بطنها وتهمس في قلبها: “هو بيننا الآن… لا مجال للضعف.
وجبران؟ لم يكن رجلًا يكتفي بالحب، بل كان عاشقًا يفتك به الحنين حتى وهي بين ذراعيه. ينظر إليها وكأنها المدى الذي لا يطال، وكأنها معجزة كل يوم تتجدد. كانت ونس له وطنًا، وها هي تنبت له حياة جديدة في أحشائها، فصار أكثر هدوءًا، أكثر عمقًا، وكأن الوجود خضع لأصغر نبضة في قلبها.
أما دمع، فقد صارت وردة تتفتح في حضن سليم. فرحة الحمل تنمو في عينيها قبل جسدها، ونورها يشع كلما اقترب منها. كانت تمضي أيامها كأنها تطير، تتنقل بخفة بين دفاتر الامتحانات وهمسات الجنين. أنهت امتحاناتها بشق الأنفاس، لكن قلبها كان مطمئنًا… يكفيها أنها عادت إليه كل مساء، تضع رأسها على صدره وتستمع لدقات قلبه كأنها موسيقى لا تنتهي.
وسليم؟ كان غارقًا فيها حتى النخاع. ازداد حبه لها عمقًا، صار يتتبع حركاتها، يتفقد نبضها، ويخشى أن يتسلل التعب إليها كما تتسلل الذكريات القديمة. كان يضحك معها، يحتضن مخاوفها، يقسم لنفسه أن هذه النعمة لن يفرط فيها أبدًا.
جيلان، الجميلة التي أنهكتها السنوات، صارت طفلة بين يدي آدم. كان يرافقها في كل صباح إلى لجان الامتحان، ينتظرها بسعادة العاشقين، يمسك يدها كأنها عمره بأكمله. كانت تذاكر على كتفه، وتنام على حنانه، حتى عبرت آخر اختبار وهي تضحك كأنها ولدت من جديد.
وآدم؟ كان كمن نال جائزة القدر، يحرسها بعينيه، ويشكر كل لحظة قدر له أن يعيشها بجانبها. صار يرى العالم من خلالها، ومن دونها لا شيء له طعم.
نظلي ورياض… أخيرًا أعلنت السماء موافقتها. اختاروا أن يكملوا الطريق معًا، بكل ما فيه من احتمالات. قرار الزواج لم يكن مفاجئًا، بل كان نضوجا نابعا من الود الذي نما في الخفاء. استقبل الجميع الخبر بفرح صادق، وكأن قلوبهم تنفست أخيرًا حبًّا جديدًا يستحق الحياة.
أما أميرة… فكانت الحكاية الأكثر صمتا، والأشد وجعًا. لكن عادل اقترب منها كما لم يقترب منها أحد من قبل. لم يقتحم، لم يضغط، فقط حضر… حضر بثقله كرجل يعرف كيف يرمم، كيف يحتوي، كيف يجعل المرأة تشعر أنها ليست وحدها. ببطء، بدأت أميرة تلتفت، تبدأ بقراءة ملامحه، وتحاول أن تصدق أن ليس كل الرجال كصبحي.
كانت تخاف، تتردد، لكن قلبها… قلبها خذلها حين شعر بالأمان لأول مرة منذ سنين.
وكان لي ونس الدور الأكبر في تبديل راي اميرة واعطاء عادل فرصه وأنه بالتأكيد ليس كغيره من الرجال ..
وفي الخلفية… كانت الحياة تبتسم.
والي اللقاء مع البارت الاخير المره القادمه بأذن الله
ودمتم سالمين يا سكاكر قلبي ♥️
………………..
ساحره القلم ساره احمد