بين احضان قسوته(الفصل الثاني والثلاثون)

ان تأنس ويؤنس بك و تأمن و يؤمن بك
ان يباع كل شئ و يشتري خاطرك
ان يكتفي بوجودك فيهون كل شي .. ولا تهون أنت
ان تتكئ للمره الاولي .. ولا تخشي السقوط
ان يجعلك أحدهم تحب نفسك مجددًا
وتراها أهلا للمحبه .. فقط تخيل ذلك
جحظت عينا سليم بذهول قاتل، وصوته خرج أشبه بالهمس المرتبك: إيه؟! أنتي بتقولي إيه يا دمع؟! بقلك هصلح كل حاجة، هنروح وهنعتذر، وأنا متأكد هم… هيسامحونا.
لكن صوت دمع خرج مخنوق، منكسر على أعتاب القهر لا يحتمل.. قبل أن تنطق قاطعهم صوت مبحوح، ممزوج بالذهول والخذلان، جاء من خلفهم:جبران… ونس متجوزين؟! إزاي؟!
استدار سليم بحدة، ليجد عمته تقف عند المدخل، وجهها مصعوق، شاحب، وكأن الأرض انهارت تحت اقدمها
وهتف بصوت خافت لكنه حاسم:أيوه يا عمتي.. وأحسنلك متحاوليش تعترضي الموضوع انتهى !!
وعلي فكره الباشا عمل حادثه ليله امبارح وهو في المستشفى ..
جحظت عينين نظلي.. وشهقت دمع بنحيب ..
وهتفت نظلي بحنق: انت بتقول ايه ياسليم؟ وكنت امتي ناوي تقولي ؟!
هز رأسه بحزن ورفع منكبيه بقلة حيلة وقال : غصب عني.. انشغلت في كام حاجه !حقك عليا !!
صاحت بخوف شديد: طيب هو عامل ايه؟! ابوك حصله حاجه يا سليم؟؟
هز رأسه بالنفي وقبل راسها وهتف: لا.. يا عمتو هو كويس اوي ..جات سليمه الحمد لله !
أغمضت دمع عينيها بقهرٍ لا يحتمل، واندفعت راكضة نحو البوابة… جحظت عينين سليم ..ولحق بها بخطوات غاضبة، وقبض على ذراعها بعنف وهدر:تعالي هنا! فاكرة نفسك رايحة فين؟!
صاحت بنحيبٍ حارق، ودموعها تغمر وجهها:لأااااااا! سيبني! مش هرجع! أنا عايزة أطلق… زي ونس!
كانت الكلمات كالسكاكين، تقطع صدر سليم بلا رحمة…
نظرت لهم نظلي بذهولٍ، وعادت بخطوات مترنحة، نحو القصر… لم تعد تسمع أو ترى. المشهد أمامها اختفى، ليحل مكانه طيف امرأة كانت تعرفها جيدًا… زوجة جبران الراحلة….
جبران… شقيقها الوحيد… الحب الوحيد الذي فهمها يوما…
تذكرت كيف تبدل جبران منذ رحيلها، كيف صار جسدا بلا روح، رجلا جمده الفقد، واحتجزه الزمن داخل لحظة
واحدة لا تنتهي…
فلاش باك..
دلفت نظلي إلى مكتب والدها كمن يركض في كابوس وصوتها خرج مختنقا بالرعب:بابا! إلحق… جبران! مراته عملت حادثة كبيرة!
رفع والدها رأسه بهدوء مخيف، وبرود مغلف بالشر:
عارف… أخيرا خلصنا منها…
تجمدت نظراتها، وكأن الهواء في الرئة رفض الدخول، وصاحت:إييييه؟! لأااا… أوعى… تكون… أنت!
هدر صوته مغلف بجنون العظمة: أيوه… أنا اللي دبرت الحادثة. خدت ابني مني… حرمتني منه… حرمتني من حفيدي! الوريث! إمبراطورية الباشا مين يشيلها بعدي؟!
تقدمت نحوه بخطوات مترددة وجهها مصدوم، وعينيها تنهمر بدموع حارقه : بس كده… كده حضرتك خسرت ابنك للأبد! أنا كمان مكنتش موافقة عليها، بس… الموت؟ الدم؟! حضرتك قتلت جبران… مش مراته!
هدر بتحدي لا يعرف قلبا ولا حبا : هيحزن يومين ويفوق! أنا عارف ابني!
وقفت على الباب، ونظرت له بعينين محترقتين،
وهمسة:عمرك ما عرفتنا… ولا فهمتنا. بس دلوقتي اللي بينك وبين جبران… بقى دم! ودم مين؟ دم أغلى الناس عليه…
عوده …
خرجت من شرودها والدموع تهطل من عينيها كالسيل. قبضت على حقيبتها، همسة بقهرٍ مجروح:المرة دي كمان يا جبران… ليه؟ ليه مصر تنزل بمستواك؟!
نهضت من مكانها بعزم يشتعل في عروقها، وغمغمت وهي تدفع الباب خلفها: أنا لازم أتصرف… مفيش حل تاني المرة دي!!
……….
في المستشفى
كانت السماء تمطر فوق المستشفى، كأنها تبكي معها…
لم تكن ونس تمشي…بل كانت تجر روحها جرا عبر ممرات المستشفى،
كأن الهواء ثقيل، كأن الأرض تحت قدميها تشتعل نار، كأن كل شيء داخلها… قد انكسر دفعة واحدة. قلبها ينزف، وصدرها يضيق، وكلمات دمع تدور في رأسها كطعنة تمزق روحها …
وصلت لغرفة جبران وهي بالكاد تستطيع الوقوف، فتحت الباب بيد ترتجف ..
وحين وقع بصرها عليه، مستلقيا على السرير بضمادة تزين جبينه،لم تستطع الاحتمال… وركضت وغمغمت بصوت مختنق بالكاد يسمع: جـ جبران
رفع جبران رأسه بسرعه ، وحدق بها، وعينيه مزيج من دهشة والقلق… اعتدل في سريره رغم ألمه.وغمغم بقلق حاد يحرق أوردته : مالك يا ونس؟ حد اتعرضلك ؟! إنتي عامله كده ليه؟!اتكلمي يا ونس ..
ضمته بكل قوتها و انهارت على صدره باكية كطفلة ضائعة ..وهي تنحب وتشهق بصوت يقطع نياط القلب
حاول رفع رأسها من علي صدره ..وهتف بجنون من انهيارها بهذا الشكل : قوليلي من اللي دسليك علي طرف وانا اكله بسناني!! بس بلاش تنهاري كده وانا عايش كاني مليش لازمه يا روحي.. اتكلمي يا ونس عشان خاطري هتوقفي قلبي !!
قبضت علي ملابسه وصاحت بانهيار ودموعها لا تتوقف : أنا… أنا مش قادرة…كلام دمع قتلني… جوايا نار بتولع…
قالتلي أسيبك…دمع… دمع بتكرهني يا جبران!
تنفس الصعداء ..وضمها إلى صدره بقوة، يديه تحاوطان جسدها الهش المرتجف كأنه يحميها من العالم بأسره،
ربت على شعرها برفق حنون وغمغم : بس!! بس يا قلبي… أنا معاكي أنا مش هسيبك، إنتي هنا… في حضني،
ومحدش في الدنيا دي كلها يقدر يبعدك عني…
صاحت بصوت متقطع بين شهقاتها: أنا طول عمري باخد من نفسي وادي…ضحيت عشانها سنين… شقيت واتضربت.. وتحرمت من حاجات كتير عشانها…
وفي الآخر… هي بتتهمني إني هخرب حياتها ..
قبلها ع راسها وعينيه مشتعلة بحب لا يوصف: ماحدش يقدر يتهمك بحاجة…إنتي أنضف، وأطيب، وأحن قلب شوفته ف حياتي…وكل اللي عملتيه، كان عشان تحبي وتحمي…و دلوقتي… أنا دوري أحبك وأحميكي يا روحي !!
رفعت راسها وصرخة مكتومة تنفجر في صدرها كبركان صامت، وتراجعت للخلف بانهيار تام..
انهارت عند طرف السرير،وصرخت ونظرتها تائهة، مجروحة. صرخت بصوت يخرج من اعماق الانكسار : ليه؟ ليه تعملي كده يا دمع؟!
ليه تقوليلي إني خربت بيتك؟! ليه؟! وأنا… وأنا كنت بموت نفسي عشانك!!
نهض جبران بسرعه رغم الالم واقترب منها وحاوط وجهها بين يديه ..
وعينيه تتفحص ملامحها كمن يرى حبيبته تغرق…
وغمغم بقهر ووجع : ونس… حبيبتي، إهدي، بصيلي… أنا معاكي أنا هصلح كل حاجه.. بس انتي اهدي اوعدك هـ
قطعت جملته وتراجعت وصاحت بغضب مكبوت ودموعها تنفجر من عينيها غير قابله للكبح : مافيش حاجة هتهدى!
أنا بقيت وحشة! بقيت السبب في خراب بيت أختي!
هي قالتلي كده… قالتلي سليم هيطلقها عشاني!
قالتلي إني سرقت حياتها … إني خنتها اني انانيه !!
كانت تنتفض كطفلة وحيدة تركت في العراء.
وجبران ينظر لها كأن قلبه يطعن أمام عينيه،
مد ذراعيه لها وحاول ضمها، لكنها أبعدته مجددا وتراجعت وضربت صدرها بقبضة يدها وصاحت :ليه دايما أنا؟! أنا اللي شالت، وأنا اللي ضحت،وأنا اللي اتهانت،
وفي الآخر… أنا الخاينة؟!
هز رأسه بالنفي وغمغم بصوت متحشرج موجوع ودموع الندم تخنقه : ماحدش ليه حق يقولك كده… إنتي عمرك ما خنتي، ولا أذيتي حد! إنتي اللي كنتي دايما في الضهر، دايما بتحمي الناس اللي بتحبيهم … حتى وهم بيكسروا فيكي…
ارتجفت شفتيها وغمغمت بضياع وتوهان : كنت بشتغل وأنا عندي ١٤ سنة عشان أجيب لها جزمة العيد،
كنت ببدل أكلها بأكلي…كنت بضرب من أبويا علشان مايضربهاش! وفي الآخر تقوللي سيبي جوزك؟
تقولي امشي؟وأنا… أنا أول مرة ألاقي راجل يحبني بالشكل ده…
أول مرة أحس إن ليا مكان ف حضن حد…
وأسيبه؟! أسيبك ازاي يا جبران وانا روحي فيك !!
سقطت على ركبتيها ودفنت وجهها في السرير،
وهي تشهق شهقات موجعة، تمزق القلب،
كأنها تحترق من الداخل…
انحني عليها عنوة، وحاوطها بذراعيه بقوة وهتف ف أذنها بحنو عاشق بلغ عشقه عنان السماء : مش هسيبك تنهاري لوحدك…تعالي هنا، تعالي لحضني…أنا هنا، أنا معاكي،أنا لكل لحظة وجع عديتي بيها،
أنا التمن اللي تستاهليه بعد سنين من القهر. أنا جبرك يا ونس… وانتي ونسي ..الونس اللي خرجني من المتاهه اللي كنت ضايع فيها…
انتي اللي رجعت قلبي يدق ويعيش.. انتي حياتي ومستحيل اتخلي عنك… ولا اسمحلك تستغني عني !!
دارت له ونظرت بعينين ممتلا بدموعها : بس أنا تعبت…
أنا تعبت أوي يا جبران…وأنا بسمع كلامها كنت حاسة إن قلبي بينسلخ من جوايا…هي متعرفش قد إيه حبيتك…
متعرفش إني أول مرة في حياتي احس بالأمان ف حضنك …متعرفش إنك بقيت كلي…
جلس على الارض وضمها بقوه وسحبها بين أحضانه بين ساقيه وقبل راسها وهمس في أذنه بحنو : ومش هتخسري كلك…إنتي حبيبتي، ومراتي، وضهري، وبنتي كمان…إوعي تسيبيني…أنا محتاجك قد ما إنتي محتاجاني…وكل اللي قالته دمع… نحله، نواجهه… بس سوا ما ترميش قلبي في النار لوحده ..
ظلت تبكي في حضنه طويلًا،حتى هدأ صراخها، وتحولت شهقاتها إلى بكاء خافت…
وهو يربت على شعرها كما لو كان يهدئ عاصفة في قلبه قبل قلبها، كان يحتويها كما لم يحتويها أحد من قبل،
وهمس في أذنها: أنا مش هسيبك… لا دلوقتي… ولا يوم في عمري…
سكتت لحظة وهي تبكي في حضنه، ثم همست بصوت مكسور: أنا بحبك… بحبك اوي… ومستحيل أختار…
قلبي اتقسم نصين…
قبل راسها بحنو بالغ وهمس : متختاريش…خلي قلبك معايا، وأنا أدويه …أنا هحبك قد الدنيا…لحد ما كل الوجع اللي جواكي يروح…
ظل يضمها أكثر وكأنه يريد ادخلها بين ضلوعه يحتضنها بشده حتي سمع انين عظامها ، مسح على ظهرها بكف الكبير ، وقبضت ونس علي ملابسه وضمته بقوه ولأول مرة منذ سنين…
شعرت بأمان يشبه الوطن، ودفئ لا يشبه إلا الحب.
…………………………………..
في مكتب حازم صفوان
كان المكتب يغرق في سكون ثقيل لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة وهو ينهش اللحظة ببطء قاتل.
جلس حازم صفوان علي المكتب، واشعل سيجارته بنزق وهتف: هو اتاخر ليه الحيوان ده؟! هو فاكر نفسه مين ؟!
التفات له كمال وهو يقف بجانب الشرفه ونفث دخان التبغ وأشار إلي الباب وغمغم : اهو وصل! ممكن تهدي ؟!
دق الباب ودلفت السكرتيرة وقالت : في واحد بره اسمه صبحي ..
قال حازم بهدوء مميت: دخليه !
فتحت الباب، ودلف صبحي… بخطوات مبعثره ، ووجه مرتعد ، وعينيه تلمع بخليط من الحقد والطمع ..
رفع يده وغمغم بجسد خالي من الروح:الحقني يا باشا هيقتلني.. عايز يقتلني !
قطب حازم حاجبيه ونظر الي كمال بدهشه رفع كمال منكبيه بجهل وهتف : في ايه جدع انت!! مين ده اللي عايز يقتلك ؟!
غمغم صبحي بصوت باكي متوسل : جبران الباشا ..كان حبسني وعدمني العافيه ..هربت بمعجزة أنا عايز امشي واسيب البلد !!
ضرب حازم المكتب بقبضة بعنف وهدر : هو جبران ده هيفضل يبرطع وطايح ف الكل كده؟! ومحدش قادر عليه !!
اقترب كمال من صبحي ربت علي منكبه وقال بخبث : أنا عارف ايه اللي هيقطم ضهر الباشا.. ويجيبه الأرض !!
نظر له صبحي بدهشه وغمغم: ايه هو وانا اعمله دلوقتي ده رقبتي تحت سكينته!!!
أشار له حازم على الحقيبه وتمتم بخبث : مش بس هتخلص رقبتك من تحت سكينة جبران.. كمان الشنطة دي فيها نص مليون يا صبحي!! وبعد التنفيذ النص التاني عشان تسيب البلد وتسافر وتعيش ملك بدل شحات …
لمعت عينيه بطمع ثم هز رأسه وتمتم بدهشه : اعمل بيهم ايه كل دول ؟!
نظر له كمال بذهول وهتف: انت اللي بتقول كده يا صبحي!! ده لو اكتر من كده هتفرتكم ؟!
نظر له وضحك بصخب وقال: والمطلوب؟
اقترب كمال والقي ولاعه السجائر علي الطاوله وقال بحده : ونس مرات جبران… بنتك يا صبحي … لازم تجيبها لنا في مكان هنحدده، لوحدها، بأي طريقة… تكذب ، تمثل عليها … إنت وشطرتك!!
ضحك صبحي ضحكة سامة، وقال: اجيبها طبعا ..ونس دي عمرها ما كانت بنتي، دي غلطة كنت مستني ييجي يوم وأتاجر بيها.
نظر إليه حازم نظرة طويلة، ثم قال:ده اللي كنت عايز أسمعه…
مال كمال للأمام، وغمغم بصوت يقطر خبث:
هي الحاجه الوحيده .. احنا عايزين نكسر جبران الباشا بيها ، اللي شايف نفسه فوق الكل، لازم يركع…
وبنتك المفتاح!!
نقر صبحي بأصبعه على الطاولة، وتمتم بنبرة لزجة:
ركعو بيها… بس بعد ما تخلصوا منها، عايز حقي في الضربة التانية…
رفع حازم حاجبه بدهشة وقال :ضربة تانية؟
سحب الحقيبه وغمغم بصوت يشع كره وحقد : أنا مش بس هسحبها ليكم… أنا عايز أبقى شاهد على كسرتها !!
عايز أشوفها بتتبهدل، بتنهان…كل مرة بصتلي بقرف،
كل مرة قالتلي أنت مش أبويا ..أنا عايزها تدفع التمن كله…
ساد الصمت مطبق لثوان حتي هتف حازم ببرود شيطاني:هتشوف أكتر مما تتخيل، بس لو لعبتها صح.
وإوعى تغلط… اللعبة دي بموتك !!
تحرك صبحي بتجاه الباب وهتف : أنا مولود وسط النار!!
خرج من الباب واغلق الباب نظر كمال الي الباب وقال :
الحقير ده… ممكن يبيع نفسه لو السعر مناسب!!
رد حازم بابتسامة قاتلة:وهو ده النوع اللي بنعرف نحرقه لما نخلص العب …
………………………………………
عوده الي فيلا سليم الباشا ..
كانت الغرفة تغرق في صمت ثقيل، يتخلله صوت شهقات خافته…
تكورت دمع علي الفراش وعينيها تشتعل بين الندم والجنون ..وجهها شاحب كأنها فارقت الحياه..
غارقه في دموع لا تكفي لغسل الندم الذي يشطر قلبها ..
جلس سليم بجانبها ومسك يدها.. فسحبتها منه بنفور اغمض عينيه بقهر.. وحاول القبض علي يدها بقوه
كأنما يخشى أن يفقدها مرة أخرى وغمغم : دمع ارجوكي !!
همسة بصوت مبحوح، مكسور : أنا… أنا اللي استاهل اللي يجرالي…أنا كسرت قلبها…كسرت أختي بإيدي…
نظر لها وهو لا يطيق دموعها التي تنزل علي قلبه تكويه بندبات لا يستطيع تحملها وغمغم : هنصلحا يا دمع !!
نظرت له بملامح اختلط فيها الغضب بالحزن،وهمسة : ونس مش هتسامحني.. أنا قتلتها بكلامي…
أنا معنديش ضمير يا سليم ..بس انا كنت بموت من جوه، كنت باتقطع…وسبت لساني ياخدني…وقلتلها كلام مستحيل يتنسي…عــ..
قطعها سليم بصوت هادي لكنه مجروح: إنتي عارفة إنك كنتي هتموتي؟ كنت هتفقدي حياتك… عشان لحظة وجع؟
وأن ونس لو مش هتسامحك علي حاجه!! هتكون هي دي انك تموتي نفسك يا دمع.. ونس مفيش اطيب منها وبتحبك.. أنا متأكد انها هتسامحك !!
هزت راسها وهي تنحب وغمغمت: ماقدرتش أتحمل…
أنا مش بالشجاعة دي يا سليم…لما شوفتك بعيد… وبتكرهني… وبتقولي هتطلقني…وونس…ونس اللي أنا اتربيت في حضنها، قالتلي مش عايزة تعرفني…
أنا بقيت لوحدي…وحسيت إن الحياة قفلت في وشي من كل ناحية…
اقترب منها ومال ناحيتها، مسح دموعها بكفه، ونظر في عينيها نظرة مغموسة بوجع الحب والحرقة وغمغم بصوت متهدج : كان ممكن أخسرك…وأنا اللي قلت الكلمة، وأنا اللي بعدت…بس عمري ما كنت عايزك توصل للدرجة دي…إنتي مراتي… ونصيبي…ولو جرالك حاجة، أنا اللي هعيش ميت بعدك!!!
تمسكت به وصاحت بين شهقاتها : أنا غلطت…أيوه غلطت!بس والله ما كان قصدي أدمرها…
أنا كنت موجوعة… ومشيت ورا غضبي وخوفي…
بس هي أختي، يا سليم…أختي اللي كانت بتموت عشاني…وأنا… أنا اللي طعنتها ف ضهرها…
انفجرت ببكاء مرير بين يديه، كأنها تغسل ذنبها بدموع لا تكفي، كأن كل قطرة دم فيها تئن من ثقل الندم.
حاوطها سليم بحضن دافي وغمغم :هتعدي يا دمع …
وهنصلح اللي اتكسر…بس أوعديني…
أوعديني إنك مش هتفكري تاني تسيبيني كده…
أنا محتاجك، حتى وإنتي موجوعة… حتى وإنتي غلطانة…أنا محتاجك تبقي قدامي…
سامحيني يا دمع اغفر لي … عشان أسامح نفسي كمان…
انهارت ببكاء مرير وهمسة بصوت بالكاد مسموع موجوعه: أنا مش عايزة غير رضاها…مش عايزة غير حضن أختي يرجعلي…عايزة أقولها إني ندمانة…
إني ماستهلش حتى نظرة منها…بس قلبي بيتقطع، يا سليم…
لو ونس ما سامحتنيش… هعيش مكسورة طول عمري.
ضمها بقوة،كأنه يحاول أن يلصم شقوق قلبها بصدره…
وظلا هكذا ،في حضنٍ واحد جمع بين خيبة، وذنب، وحب…يبحث عن طريقه للغفران….
…………………………………………
في غرفه جبران في المستشفى
وقفت نظلي علي باب الغرفه بذهول مخلوط بالعجز…
كانت الغرفة شبه مظلمة، ضوء خافت يتسلل من النافذة، بينما خيم الصمت الثقيل على الأجواء…
نظرت على الأرض، حيث يجلس جبران بكل ما فيه من هيبة، وقد تحول إلى ظل رجل، يحتضن ونس المنهارة بين ذراعيه، يربت على ظهرها ببطء وكأن أنامله تحاول إحيائها من رماد الحزن…
تتسللت نظلي إلى الداخل بخطى مترددة، تتجمد عيناها
بحزن واقتربت ببطء، وعيناها ممتلئتان بدهشة لم تستوعبها بعد…
وضعت يدها على منكبه وهمسة بصوت متهدج : جبران !!
رفع رأسه لها بحدة، ونظر لها بنظرات دامية، وجهه كان قاسي كشخص لا ينتظر سوى طعنة جديدة، وحده التعب والحزن كسر صلابته.
وهدر بصوت خافت حاد : لو جايه تقوليلي اللي سليم قاله… أو تنطقي اني أسيب مراتي، يبقى وفري علي نفسك. أنا مش ناقص !! ونس مراتي، وهتفضل مراتي… غصب عن الكل غصب عن الدنيا كلها ونس مراتي الحاجه الوحيده اللي طلعت بيها من الدنيا …
تراجعت نظلي خطوة للخلف لم تالمها كلماته مثلما المها الحزن الكامن ف عينيه ..
هزت راسها ولم تغضب، بل اقتربت أكثر، وجلست على الأرض أمامه، وضعت يدها على منكبه برقة لم يعتدها منها منذ سنوات….
همسة بضعف ودمعه تحرق عينيها وقلب مكسور: أنا مش جايه أعاتبك… أنا جايه أصلح الغلط اللي ماعرفتش أصلحه زمان!! يوم ما سبتك تضعف بعد ما قتلوك من جوا… سبتك لوحدك، وقلت إنك هتفوق، زي ما أبوك قال…
بس أنت عمرك ما فوقت. عشت سنين عمري احاول أكفر عن ذنب ربنا يعلم اني بريئه منه …
أنا عايزك ترجع يا جبران !
جبران، أخويا اللي بعرفه، مات من سنين… والنهارده، وأنا شايفاك بتاخد أنفاسك ف حضن ونس،
حسيت إنه رجع…
أنا مش هقف بينك وبين اللي خلتك تحس إنك عايش تاني.. أنا اتعلمت الدرس يا حبيبي !!
شهقت بعنف وقالت : زمان سبت البني ادم الوحيد اللي حبيته.. عشان افضل جمبك واربي عيالك ..ومش ندمانه وكفايه عليا الحب اللي بشوفه ف عيون سليم وجيلان..
بس انا اخترت اعيش زيك بقلب متجمد زيك يا جبران !!
بكى قلب ونس قبل عينيها، تململت في حضن جبران وهي تسمع كلمات نظلي، وارتج جسدها من البكاء المكبوت،
تشبثت بقميصه وكأنها تتمسك بالحياة فيه.
ارتجفت شفتي نظلي وهتفت بنبره قويه لكن حنونه : ونس… مهما كان، بقت مننا… من العيلة حتي لو غصب عني؟ ايوه لسه مش بحبها..
مسحت علي شعر ونس وهمسة : بس هحاول…هحاول على قد ما أقدر أكون ليكي أخت، وسند… زي ما كنتي لجبران لما أنا اختفيت…
نظر لها جبران مطولا، بعينين دامعه ، لكن صوته خرج هادئا، كمن سلم روحه للأمان: لو كنتي قولتي الكلام ده زمان… كان حاجات كتير اتغيرت يا نظلي!!
ابتسمت نظلي بألم وقالت : لسه قدامنا حاجات نصلحها… ولسه في فرص.قوموا…
مرات جبران الباشا مكانها مش على الأرض… مكانها فـ قصر الباشا…
مرت لحظات من الصمت، ثم سحب جبران نفسا عميقا، ومال على ونس، قبل جبينها، وهمس لها: سمعتي؟ بيتك مستنيكي اخيرا يا ونس…
……………………………
ف قصر الباشا
ف جناح جبران ..
وقفت ونس في هذا الجناح الذي غمرته الأضواء الهادئة، وغطته ألوان من الدفء الناعم،..
وقفت كأنها غريبة عن المكان، عن نفسها، وعن هذا العالم ….
كان كل شيء حولها يوحي بالاحتواء، إلا قلبها… فقد كان متصدعا مهشم لا يسكنه إلا الألم…
خطت بخطوات مترددة إلى الداخل، وأناملها تحتك بحافة الجدار برهبة، وكأنها تتلمس طريقها في عتمة قلبها لا المكان…
نظرت حولها بعيون دامعه ، تاهت في التفاصيل، في الستائر المخملية، في تلك الزهور على الطاولة، في رائحة عطره التي تتسلل بين الجدران…
ثم همسة بصوت مخنوق:هو… ده كان جناحها؟
شعرت به يقترب منها بخطواته بطيئة، ثقيلة، وجسده نصفه مثقل بالوجع. كان ذراعه اليمنى معلقة بحمالة طبية، وجبينه تزينه تلك الضمامه…
لكن عينيه… عينيه وحدها كانت تحتويها بأكثر مما قد يفعله ذراعه السليمة…
وقف خلفها مباشرة، وحدق الي ظهرها المحني بالم شعر بها تختنق ببطء وكأن تنفسها يسبق حديثه، وغمغم بنبره خافتة ثابتة:لا يا ونس… الجناح ده مافيش ست دخلته قبلك…
التفتت له، وفي عينيها دموع متشبثة بحواف جفونها كأنها تتوسل إليه أن يكمل.. تعمق في عينيها واقترب منها ومسح على شعرها بحنان وقال : أنا كنت بجهزه ليكي من زمان…من يوم ما قلتيلي إني بخوفك فاكره يا ونس .. كنت شايف الخوف في عنيكي، وكنت بحاول أجهزلك مكان تحسي فيه بالأمان… تحسي فيه إنك اتخلقتي علشانه وعشاني يا ونس !!
شهقت شهقة مكتومة وهزت رأسها بنفي عاجز وهمسة : دلوقتي مافيش أمان يا جبران… دمع قتلت كل حاجة جوايا… قالتلي كفاية تضحية… بس أنا مش قادرة يبقي كفايه أنا اتبهدلت، اتحطيت في وش الدنيا لوحدي… حتى صوتها… وجعني …
اقترب منها أكتر ، ورفع ذراعه السليمة ووضع كفه علي وجنتها، ومسح دموعها بطرف إبهامه، ثم قال بصوت مهزوز من فرط احتوائه:ماحدش هيقدر يوجعك تاني وأنا واقف ف ضهرك … إنتي عارفة إن دراعي ده مكسور؟ بس والله لو هقدر أحتضنك بيه، لو بس هينفع يطبطب عليكي، ماكنت هتاخر !!
اختنقت بعبرتها، وغلبها وجعها، واندفعت على صدره، تبكي بكاء يشبه الانهيار، دموعها كانت ساخنة، تنزل على قميصه وتمر كأنها تحرق قلبه قبل أن تبلل جلده…
ضمها بذراعه الوحيد، شدها ليه بكل ما فيه من وجع، من إرادة، من حنان، وهمس بصوت مرتجف: عيطي… وطلعي كل اللي وجعك، كل اللي قهرك… بس إوعي تفكري إنك لوحدك. أنا هنا… انا جبرك ، اللي هيشيلك ف عينه وقلبه من الدنيا كلها، اللي هيفضل معاكي حتى لو بيد واحدة، حتى لو بنفس واحد..
ارتجفت بين حضنه وهمسة بصوت ضعيف مهزوم : أنا تعبت… مش قادرة… خايفة
ضغط علي جسدها بذراعه الوحيد وطوقها بشده وهمس : وأنا مش هسيبك تتعبي لوحدك تاني… هبقى ظهرك وسندك، ومطرح ضعفك… إنتي فاكرة نفسك قليلة؟! ده أنا بقالي سنين مستنكي ولما قبلتك بقالي كتير مستني اللحظة اللي تدخلي فيها الجناح ده، وأقولك… إنك أول ست تدخل المكان ده، وأول ست تدخل اعمق نقطه ف قلبي !!
رفعت رأسها بصعوبة، ونظرت له من بين دموعها، بعيون متورمة، وشفتيها ترتجف وغمغمت بدموع:ليه؟ ليه بتحبني كده؟
ابتسم بوجع وهمس أمام شفتيها:عشان إنتي الوحيدة اللي عرفت تلمس الوجع اللي جوايا… الوحيدة اللي ما خافتش من برودي، اللي فضلت تحارب عشاني وأنا مش حاسس ، وأنا مش بني آدم سهل، بس إنتي خلتيني أبقى بني آدم…
سقطت دمعة جديدة من عينها، لكنها لم تكن مثل من سابقها من دموع … لم تكن دمعه مكسور بل ارتياح خفيف في منتصف قلبٍ مرهق..
احتضنها أكثر ودفنت وجهها ف عنقه وسحبها برفق ناحيته حتى جلس على طرف الفراش وأجلسها على ساقه رغم ألمه،
كأنه يقاوم كل وجعه فقط حتي يمنحها لحظة أمان وهمس : أنا مش عايز أشوفك مكسوره تاني، فاهمة؟ كل مرة الدنيا تكسرك، أنا هرممك… هرممك بحضني، وبعيني، وبقلبي، وبأي حاجة فاضلة في…
أغمضت عينيها على صدره وراحت تبكي بصمت…مسح ع شعرها وتركها حتي تهديء لم يهزها، لم يطلب منها التوقف، بل ظل يهمس لها: هنا بيتك يا ونس… وده مكاني جنبك، مهما الدنيا وجعتك… أنا لسه واقف… لسه بحبك، ولسه هشيلك فوق راسي، حتى لو بإيد واحدة…
مر وقت قصير وتنهدت ببطء وهي تشعر بدقات قلبه جعلتها تشعر بدفا غريب تسلل إلي قلبها المحطم شعرت كم هي مرغوبه ،ومحبوبه ،ومحميه ف نفس الوقت …
رفعت راسها ونظرت له بعينين ممتلا بعشق فاق الحدود اقترب منها وذرع قبله ناعمه طويله علي وجنتها وهمس : أنا كده ممكن آخد أوسكار في الحب بدراع واحد… شوفتي يا ونس دنيتي انا بحبك بإيد مكسورة ولسه بعرف ادوبك
ابتسمت بين بكاءها وهمسة : عيب يا جبران… إنت لسه طالع من المستشفى. وتعبان بطل بقا
ضغط عليها بذراعه السليم وغمغم بشوق : يعني أستنى لما يجيلي جبس في التانية كمان؟ إوعي تفتكري إن دراعي الشمال همنعني أعمل اللي نفسي فيه… أنا لسه عندي لسان، وعينين، و… شفايف و***
شهقت ونس وضحكت ووضعت يدها على فمه وحاولت النهوض لكنه سحبها بذراعه السليمة، ولفها جواه كأنها طفلته المدللة
وانحني بها علي الفراش وهبط فوقها وهمس : قوليلي بس… خايفة مني ليه؟ هو أنا أول مرة أكون راجل معاكي ولا اول مره تسمعي مني الكلام ده؟!
وضعت يدها على صدره وهمسة: جبران !!
اقترب منها وقبل جبينها بشفتين رطبتين وغمغم بصوت رخيم: لا لا، بلاش تهمسي كده، ده إنتي كده بتولعي ناري، وأنا اصلا مولع جاهز … بصي، أنا مش هشوف دموعك دي تاني، فاهمة؟ من النهارده، أنا اللي هبكيكي… بس من العشق، من الدلع، من الكلام اللي هيدوبك…
رفع وجهها وتعمق ف عينيها وكأنه يغوص ف اعماق المحيط وهمس : أنتي عارفة يعني إيه بحبك؟ يعني أنا مش هشبع منك أبدا… كل نفس، كل رعشة فيكي، هتبقى ملكي… هتعيشي مدلعة، محسودة من كل الستات ، وإنتي في حضن جبران الباشا…
بلعت لعابها بصعوبه وهمسة بوله : أنا مكنتش متعودة على كده… على الحنية دي، على الكلام ده انا مش مصدقه اني مراتك وف حضنك من بين كل الستات اللي ف الدنيا …
ابتسم وقال بخفة :يبقى لازم أعلمك… دروس خصوصي في العشق، وهنبدأ من دلوقتي عشان تصدقي !!
اقترب منها وقبل عنقها بقبلات ملتهب علي طول شريانهاالنابض وهمس : عارفة إنك سبب نجاتي؟ مش المستشفى، ولا الدكاترة… وجودك هو اللي قومني، خليكي دايما جنبي… حتى لو اتعلقتي فيا من ناحية واحدة، صدقيني كفاية عليا…
هزت راسها بالنفي وغمغمت بعشق اغرقها به برحابة صدر: أنا مقدرش اعيش لحظه من غيرك وراضيه حتي بنص حضنك !!
نظر لها بوله ممزوج بالعشق نظراته انستها الوجع اقترب منها وقبل جبينها وهمس : مافيش حاجة اسمها نص حضن… حضني كله بيغرق في حضنك…بيدخل كله فاهماني يا ست هانم؟
هزت راسها وهمسة: فاهمه ..
سحبها إليه وضمها بحضنه وسحب الغطاء عليهم وهمس: نامي يا روحي ومتفكريش ف حاجه ابدا …
كله يتصلح !!
هزت راسها ودفنت وجهها ف عنقه وهو يمسح على شعرها بحنان والتزم الصمت ..لكن بقيت اللمسات الحنونة، ودفا العيون… واحتواء كان أداءه انكسرت بها كل جدران الحزن، وشيد جدران حكاية عشق حقيقي… رغم كل الكسور…
وفي قلب هذا الجناح، الذي لم تطأه امرأة قبلها، شعرت ونس أخيرا بأنها وجدت الوطن… لا في المكان، بل في صدرٍ واحد، يحتضنها رغم الكسر والخذلان..
………………………………
ف المصنع ..
كانت الساعة تقترب ع الساعه التاسعه حين دلفت أمل إلى المصنع، ورغم تعبها الواضح، كانت خطواتها مليئة بالحياة، كما لو أن المرض لا يسكن جسدها بل يغفو على حافة ابتسامتها…
شاحبة قليلا، وملامحها مرهقة، لكن عينيها… لم تكن منهزمة، بل مشاغبة كعادتها…
لمحها وائل من بعيد، وخفق قلبه رغما عنه، حاول أن يتجاهل الأمر، أن يضبط أنفاسه ويعود إلى جدول الإنتاج،
لكنه لم يستطع. نظر إلى الفراغ الذي كانت تملؤه ضحكتها الأيام الماضية، ثم إلى حضورها الآن، كأنها سدت ثغرة في جدار قلبه دون أن تنتبه.
همس لنفسه:ما كنتش مستنيها… بس رجوعها بخير فرحني أكتر ما كنت اتخيل!!
انشغل وائل بتزيين تورتة شوكولاتة، بتركيز عالي ، أو يحاول تشتيت تفكيره عنها.
لكن في لحظة، ظهرت أمامه … وبحركة سريعة، رسمت بكيس الكريمة على الرخام اللامع قلب كبير، وفي نصه كتبت كلمة واحدة: شيف
ثم ضحكت بصوت عالي، وهربت….
ارتبك ودق قلبه بعنف،واتسعت وعينيه بدهشة ممزوجة بضحكة مكبوتة وصاح واشار لها : أمل!!! إنتي بتعملي إييييه؟! هو دا شغل؟!
ضحكت وأشارت له بكيس الكريمه في إيدها:ماهو القلب بالكريمة أحلى من القلب بالحيرة يا شيف… مش كده برضو؟!
ترك ما ف يده، وأمسك فوطة، وركض خلفها بخطوات سريعه ..وسط المصنع العمال ينظرون لهم بدهشة
وامل تركض وتضحك وهو بيحاول الوصول لها:
أمل… والله ما هسيبك المرة دي! وهرسم ليك بالكريمه علي وشك!
صرخت وهي تختبئ خلف العاملات وهتفت : خلاص يا شيف قلبك ابيض عندي دور برد ومش قادره اتنفس هتموتني!!
- ما إنتي موتيني باللي عملتيه!
قالها دون وعي ثم صمت لحظه ونظر لها وعينيه تموج بمشاعر بين الغضب واللهفة…
صمتت تستوعب كلمته ونظرت له بعيون لامعه من الإرهاق، التوتر وقالت بهدوء نادر:كنت بنكشك مش بحب اشوفك سرحان … بس قلت يمكن مش هتلاحظ
نظر إليها طويلاً…حتي خفت حدة ملامحه، وقال بصوت منخفض:لاحظت… أكتر مما كنت متوقع !!
اقترب منها خطوة، ومسح نقطة كريمة علي وجنتها باصبعه، ونظر الي عينيها وغمغم :إنتي بتلعبي… بس كل حركة منك بتسيب علامة فيا. وأنا مش عارف أقاوم، ولا عارف أهرب!!
ابتسمت بخفة وقالت:طيب سيب نفسك… مرة واحدة بس..
رفع حاجبه وتمتم: خايف أسيب، وماعرفش أرجع !!
هزت راسها وتململت وهي تشعر بدوار وهمسة: هرجع معاك !!
تمسك به ونظر الي وجهها الشاحب كثلج ذائب، مدت يدها للهواء كأنها تبحث عن توازن لم يعد معها..
اقترب منها دون تفكير فقد اندفع حيث يقوده قلبه وسحبها الي اقرب كرسي واجلسها وهتف بقلق وحنو : إنتي لسه تعبانة!!
حاولت امل الابتسامه وقالت بوهن : أنا تمام… كنت بس محتاجة أتحرك شوية !!
نظر لها ورد بسخرية خفيفة : تتحركي؟ ده أنا حسيت إني شايف حد تاني غير قنبلة السكر اللي أنا أعرفها !!
ضحكت، لكنها قطعت الضحكه سعال خافت فسندها بسرعة دون تفكير وقال :خدي بالك… ده مش وقت استهبال.. لازم تخفي وتهتمي بنفسك اكتر من كده !!
نظرت له بدهشة وهمسة بخفوت: أنت بجد قلقان عليا؟
صمت لحظه ونظر. الي ملامحها المتعبه لكنها جميله جدا وغمغم : بصراحه اه !!
نظرت له بدهشة وحدق بها وقال : عمري ما كنت هفتح باب قلبي تاني… وكنت متأكد إني قفلته كويس…
نظرت له بدهشة وهمسة: وبعدين !!
ابتسم ونظر لها وقال:بس الظاهر إني نسيت أغير المفتاح…
ضحكت، ضحكة خافتة… مختلفة وجلس بجانبها وقلبه يخفق بشده ولن يستطيع السيطره عليه…
……………………………….
ف قصر الباشا
ف مكتب جبران الباشا
وقف بشرود وهو يتذكر الحزن والقهر الساكن قلبها..
وبهت علي ملامحها التي يعشقها …
من يراه من بعيد يظن أنه هادئ بشكل مريب،لكن بداخله كانت عاصفه هوجاء لا تعرف الهدوء…
نفث دخان سيجارته بعنف ومسح على شعره بغضب ..
دقت نظلي الباب ودلفت وهتفت بحنق : جبران اللي اسمه صبحي زفت ده عايز يقابلك بيقول ضروري !!
نظر لها بهدوء ظاهريا فقط… لكنه يخفي تحت جلده زئيرا جاهزا للانفجار وغمغم : خليه يدخل ..
هزت راسها بحنق وتحركت الي الخارج …
لحظات ودلف صبحي بخطوات ثقيلة، وابتسامة مريضة تتسلل لشفتيه.
يده اليمني ترتجف بحده وكأن بداخله ليس مجرد شخص عادي بل وحش له انياب …
غمغم جبران بصوت حاد كحد السيف : عملت ايه ؟!
هز رأسه وتمتم: كل خير يا باشا أنا جاي مش مستني مقابل… جاي أقولك كلمتين وهمشي أنا اتعلمت الدرس ..
نظر له جبران من اعلي الي الأسفل وقصف بصوت
رعدي : جاي تقولي علي النص مليون اللي ختهم من حازم صفوان ؟!
تجمد صبحي بأرضه ،حاول التظاهر بالصدق وقال :
أنا قلت اخدهم منهم عشان يصدقوني.. بس جتلك على طول،قلت أقولك… تبقى مستعد، وتحميها!!
ضحك جبران بدون مرح وقال : قلت لمين على المقابلة؟
هز رأسه بالنفي وهو يحاول الثبات : ليك يا باشا… مفيش غيرك، والباقي تمثيلية زي ما اتفقنا…
لف جبران له ببطء، وعينيه تلمع بشك عميق وهتف : تبقي غلطان لو فاكر اني ممكن اصدقك انت اخر شخص ممكن اثق فيك !!
ضحك صبحي ضحكه باهتها وهتف : يا باشا أنا مع اللي هيكسب واكيد حضرتك اللي هتكسب ف الآخر …
اقترب منه جبران ونظر له بحدة، وهدر : بفكرك خليك فاكر إن ونس دي بقيت مراتي، وكلمه زيادة منك هتدفع تمنها دم…
تراجع صبحي وهز رأسه برعب وتمتم : دم تمن رخيص أوي… أنا فاكر اخر مره لما كانت بتنزف!!
نظر له بدهشة وانفجر جبران ..وقبض علي ياقة قميصه بيده ورفعه من مكانه كأن جسده لا وزن له،
صرخ في وجهه:إنت جاي تبلغني بعد ما وافقت تبيعها؟!!تيجي تقولي عادي كده إن مراتي كانت علي لسانهم الوسخ زي قطعة شطرنج؟!!
وإنت كنت الرخ؟!!
ده إنت جريت معاهم للآخر… وجايلي دلوقتي تعمل فيها بني ادم !!
صاح صبحي باختناق : أنا غلطان! بس جاي في وقتي! اسمعني يا باشا!
القي به جبران بعيدا، فاصطدم بالكرسي وسقط على الأرض. وقف جبران أمامه وعينيه تقدحان شررا :كلكوا هتندموا…كمال… حازم… وإنت أولهم.ونس دي هتفضل فوق الدنيا كلها، طول ما انا حي !!
نهض صبحي متألما، وحاول تهدئة الموقف وغمغم :أنا… أنا كنت فاكر إني بساعدك!!
هدر بصوت منخفض لكنه محمل بطوفان من الجنون :
عارف يعني ايه ونس مراتي؟ يعني لو حد فكر جوه دماغه أنه يقرب منها يبقي بيفتح علي نفس طاقه من جهنم …
وانت جاي بكل بجاحه تقولي أنهم فكر يقربوا منها ويستخدموها وإنت كنت جزء من ده؟
ارتبك صبحي رفع يده وتلعثم : أنا ختهم علي اد عقلهم عشان اجيب آخرهم واجي احذرك يا باشا !!
نظر له بصمت ، ثم هدر ببرود قطع الهوا: هتمشي في خطتهم بالحرف. عايز كمال يروح المكان اللي هيحدده. وهو فاكر أنه هيلاقي ونس انت فاهم !!
تراجع صبحي برعب ينخر عظامه ورفع يده وتمتم : فاهم يا باشا… فاهم كويس أوي!!
………………………………
ف قصر الباشا …
علي طاوله الطعام…
نظرت نظلي الي أصناف الطعام الشهي وهي تراقب العاملات ينظمنا طاوله الغداء.. ونظرت الي الساعه وقالت : هما مش هينزلوا للغداء ولا ايه ؟!
اومات أحد العاملات برأسها وقالت: كل حاجه تمام يا هانم ..تحبي اطلع ادي الباشا خبر !!
هزت راسها بالنفي وغمغمت: لا .. أنا هطلع روحي انتي شوفي شغلك !!
اومات العامله وتحركت الي المطبخ وتحركت نظلي الي الدرج.. ولكنها توقفت علي دخول سليم ودمع وعادت إليهم وهتفت : اهلا يا حبيبي حماتك بتحبك.. تعال كنت لسه هطلع انادي بابا وونس عشان نتغدا!!
بلعت دمع لعابها بصعوبه وتمسكت بذراع سليم بعجز وغمغمت بدموع: هي ونس هنا ؟!
ربت سليم علي يدها بتشجيع مغلف بالحنان وهتف : عمتي أنا غلطت ف حق دمع وبابا وونس وانا عايز اعتذر ياريت تساعديني !!
هزت راسها بالايجاب وقالت: يا حبيبي انت عارف بابا مش بيشيل ..وخصوصا منك يا سليم ..وونس معرفتي بيها تخلني اقلك أن قلبها ابيض !!
تحركت الي دمع ونظرت لها بحنو لاول مره وهي تشعر بالشفقه عليها.. من شحوب وجهها واحمرار عينيها جسدها الهزيل ..
ومدت يدها تربت علي ظهرها وقالت: اهدي يا دمع كله هيتصلح ونس انتي عارفها مش هتهوني عليها ؟!
نظرت لها بدموع تنهمر على وجنتيها وغمغمت: أنا جرحتها.. جرحتها اوي ..واتهمتها بحاجات هي بعيد عنها اوي !!
قبضت نظلي علي يد دمع.. وسحبتها الي اقرب اريكه وجلست ..واجلستها بجانبها وقالت بصوت هادئ: بصي يا دمع خلينا نتكلم بصراحه.. انا كمان حسيت بخيبة أمل ف جوازه سليم ..وكملت بجوازه جبران.. كنت اتمنى لابني واحده علي الاقل متشابهين ف اي حاجه !!
نظرت لها دمع بدموع ونظرت الي سليم الذي
تحرك وهتف بحزم : عمتي !!
إشارة بيدها وهتفت: بس أن سليم يعيش مبسوط دي بالدنيا ويهون عشانها اي حاجه.. وطول ما انتي بتحبيه وبتسعديه ده اهم حاجه.. وونس عملت اللي محدش ف الدنيا كان قادر يعمله… وطلعت جبران من وحدته وحزنه اللي كان واكل قلبه من زمان …
ورجعته بني ادم من تاني ..
واللي تعمل كده قلبها اكبر من أنها تكره اختها اللي ربتها ع أيدها !!
شعرت دمع بامل يتجدد بداخلها وقالت : انا مش عايزه حاجه غير تسامحني والله ما عايزه حاجه تانيه !!
اومات نظلي وقالت بتأكيد : هتسامحك انا متاكده قومي اغسلي وشك وانا هجيب ونس والباشا ..عشان نتغداء سوا كعيله واحده !!
هزت دمع راسها ونهضت الي المرحاض وتحركت نظلي الي الدرج من جديد …
وصلت جناح الباشا …
ودقت الباب برقه لحظات وفتحت ونس الباب بعينين متورمه نظرت لها وهزت راسها بيأس وهتفت : ايه ده؟!
يا ونس لسه بتعيطي يا ماما !!
هزت ونس راسها بالنفي وغمغمت بدموع حاولت اخفاءها : لا ابدا أنا كنت نايمه.. اتفضلي !!
هزت راسها بالنفي وقالت : لا ..يلا هاتي جبران وتعالي عشان نتغدا!!
اومات برأسها وقالت: حاضر هصحيها حالا !!
اومات برأسها وتحركت الي غرفة جيلان ..
مر وقت قصير وجلست نظلي.. ودمع وسليم ..وجيلان ف انتظار ونس وجبران ..
حينما دلفت ونس مع جبران، توقف الزمن لحظة. كانت ونس تجاهد لتحبس دموعها، وجهها الشاحب يحمل قصة الألم التي تمر بها، بينما كان جبران بجانبها يحاوط خصرها بذراعه ..وكأن كل خطوة على الأرض تضغط على قلبه أكثر…
نظرات الجميع التقت في اللحظة نفسها وووو
………………………….
ساحره القلم ساره احمد..