بين احضان قسوته (الفصل الحادي وثلاثون)

يا أميـرتـى وبنــت قلـــبى .. هل فهمتى ما بين سطورى ..
أم لكلـــــمات الـــــــــــهوى فى آشـــــــــــــــعارى لا تُدركيـن ..
كيف لا آهـــواكِى وأنــتِى فى الحياة نبــــــضى و نـــــــورى ..
بل كيف والمُنــىَ أنـــــتِى وعشـقٌ يدووووم عُــــمرا طول السنين ..
يا حبيبتـــ♥ــى
لم تكن تسمع سوى خفقات قلبها المجنون…
ولا ترى إلا وجهه الشاحب المسند إلى منكبها..
حتى دوى في الأرجاء صوت سيارات الإسعاف، تشق الغبار والدمار كوميض أمل خافت.
نظرت ونس إلي سيارة الإسعاف وصرخت بكل ما تبقى لها من قوة : هنا! هنااا!
لوحت بذراعها المرتجفة، ودموعها تغرق عينيها فلا تكاد ترى،بينما كانت تحتضنه كمن يخشى أن تنتزع روحه منه قسرا…
اندفع المسعفون نحوهم، وأصواتهم متلاحقة، أوامرهم تتقاذف بين أيديهم، لكنها…
لم تكن تسمع منهم سوى الهمسات المشوشة، وكأن العالم يغرق في دوامه كثيفة من الضباب….
حاول أحدهم أن ينتشل جسد جبران من بين ذراعيها،
لكنها تشبثت به كالغريق وصرخت بفزع : لالاا مش هسيبه ! مش هسيبه… مش هسيبه!
كانت تبكي بحرقة، وصدرها ينتفض مع كل شهقة مذبوحة وهي تضمه دون وعي …
أمسك أحد المسعفين منكبيها برفق، وحاول تهدئتها: إحنا هنلحقه إن شاء الله، بس لازم تسيبيه دلوقتي، عشان نساعده بعد اذنك يا مدام !!
هزت رأسها بعنف، وهي تشهق دون توقف،
بينما جبران بعينين نصف مفتوحتين وابتسامة بالكاد ترى،
رفع أصابعه المرتعشة ولمس وجنتها المبللة بالدموع.
همس، بصوت بالكاد خرج من بين شفتيه:
عشان خاطري متعيطيش كده، إنتي وجعتي قلبي أكتر من الحادث يا ونس!!
ارتجفت دموعها فوق وجنتيها، وصرخت باكية وهي تقبض على يده المرتعشة:بحبك!والله بحبك اوي بالله عليك فوق… بالله عليك متسيبنيش!
ابتسم جبران بوهن ثم أغمض عينيه، كأن التعب غلبه.
صرخت ونس بفزع: جبرااااان
تحررت شهقة مدمرة من صدرها، وانهارت على صدره تبكي بحرقة…
اخيرا استطاع رجال الإسعاف حملوه برفق على نقالة الإسعاف، وجسده يتمايل بلا حول، وهي ركضت خلفهم، تكاد تسقط من شدة الهلع،
تناشدهم بأنفاسٍ متقطعة:براحه والنبي براحه بينزف … خلوه يحس بيا… مش هسيبه لوحده!
دفعوها بلطف إلى داخل السيارة،وجلست إلى جواره، تمسك يده الباردة بكلتي يديها المرتجفه وتضعها فوق قلبها، وتهمس بألمٍ كاسر :حاسس بيا؟ قلبي بيندهلك… هموت عليك… بالله عليك متعملش فيا كده ؟!
انطلقت السيارة تشق الليل الكئيب.. وصوت صفارتها يئن فوق أنين قلب ونس …كأن الكون كله قد انكمش بين خوفها عليه… ورجائها الذي لا ينقطع….
داخل الإسعاف، كان صوت أجهزة المراقبة ينبض مع دقات قلبه البطيئة، وكلما خفتت دقاته، كانت دموع ونس تهطل أكثر…
وكل همسة تصدرها كانت تنطق حياة لأجله همسة بضعف: هفضل جمبك… مش هسيبك… مش هسيبك حتى لو الدنيا كلها سابتنا…
مررت أصابعها المرتجفة فوق ملامحه،
قبلت كفه،… وغمرته بكل الحب الذي لم يسعها الوقت أن تقوله له من قبل وفي قلب هذا الدمار كله…
لم يكن هناك سوى أمنية واحدة تهمس بها روحها:
أن يحيا… فقط ليحيا …
اندفعت سيارة الإسعاف إلى بوابة المستشفى، والعجلات تصرخ فوق الأرض كأنها تلهث مع أنفاس ونس المضطربة…
توقف السائق بعنف، وانفتح الباب الخلفي، فاندفع المسعفون حاملين النقالة، بينما ونس تركض بجانبهم، حافية القدمين ، لا ترى شيئا سوى وجهه المغطى بالدماء….
وصلوا الي غرفه الطوارئ وصرخت وهي تندفع معهم :
استنوا… استنوا خدوني معاه! مش هسيبه لوحده
صرخت بها بصوت مذبوح، كأنها تخشى أن يسرقه منها أحدهم لو غفلت لحظة….
حاول أحد الأطباء أن يمنعها وهتف : يا مدام لازم تسيبيه يدخل غرفة الطوارئ، متقلقيش، إحنا معه !!
دفعتهم بيدين مذعورتين وصرخت بقهر:مش هسيبه! مش هسيبه! أنا معاه… أنا روحه!
كانت تصرخ بوجع، بعناد من أدرك أن بعدها عنه لحظة قد تكلفة فراق لا رجعة فيه…
تبادل الأطباء النظرات، ثم أومأ أحدهم، فسمحوا لها بالدخول إلى غرفة الطوارئ، بشرط أن تقف جانبا…
وقفت، وجسدها يرتجف، ودموعها لا تتوقف، بينما الأطباء يحاصرون جبران، أصوات الأجهزة تعلو وتخفت، والأنوار تسطع فوق رأسه المسجى…
رأتهم يضعون أنبوب الأوكسجين على فمه، رأته يتلوى تحت أيديهم كطفل مذعور.
صرخت برعب : جبران! جبران فوق! فوق عشان خاطري !!
مدت يدها المرتعشة نحوه، تلمس أصابع يده الممدودة،
كانت تبحث عن حياتها في لمسة، عن طمأنينة تمنحها القوة للاستمرار….
لكنهم أبعدوها، ورفعوا الستائر بينه وبينها،
فشعرت كأن حجابا من الموت قد نصب بين قلبها وقلبه.
انهارت على الأرض بجانب الباب، تضع رأسها بين كفيها، تبكي بنحيب يكسر الحجر وصاحت بنحيب : يا رب… يا رب ما تحرمنيش منه… خد عمري وخليه لي… خد روحي وسيبه يعيش.
كانت الكلمات تتفجر من بين شفتيها كدعاء غريق يتعلق بآخر خيط أمل.
مرت الدقائق دهورا، وكل ثانية كانت تقطع من قلبها جزءا.
حتى جاء طبيب من الداخل، وجهه مشدود، يتصبب عرقا ونزع الكمامه وهتف : انتي قريبته
هبت ونس كالمجنونة وصاحت : اه اه أنا! أنا مراته أنا كل أهله! أنا دنيته! اوعي بالله عليك تقولي جوزي في حاجه هيقوم مش كده؟ هيقوم والنبي !!
ربت الطبيب علي منكبها برفق وقال: الحمد لله احنا عملنا اللازم.. اتكتب له عمر جديد !!
اغمضت عينيها وفاضت الدموع من جفنيها ..وهي تشعر اخيرا بدقات قلبها تعود من جديد ..قبضت علي كف الطبيب وقبلتها وهتفت : ربنا يخليك بجد!! خليني اشوفه دقيقه واحده !
اوما الطيب وقال : هننقلوا اوضه عاديه وتقدري تشوفيه ..
اندفعت كالسهم، تمشي بخطوات متعثرة إلى الداخل،
إلى حيث يرقد جبران فوق السرير الأبيض،
شاحب، وموصول بالأنابيب، كأن الحياة تقاتل لأجل البقاء في جسده …
وقفت إلى جواره، تحدق فيه، والدموع تملأ عينيها.
كان ساكنا لا أثر لابتسامته العابثة، ولا نظرته التي كانت تحرقها عشقا…
مدت يدها ببطء، كأنها تخشى أن تزعجه ..لمست أطراف أصابعه، وهمسة بصوت مرتجف:أنا هنا… أنا جمبك، ومش هسيبك، فاهم؟! أنا مش هسيبك تمشي وتسيبني وحيدة…اصحى يا جبران… اصحى عشاني…أنا محتاجالك اوي !!
انخفض صوتها حتى صار نحيب :إنت ما تعرفش إنت إيه بالنسبالي…أنا كنت بلملم نفسي عشانك…كنت بعيش عشان ضحكتك…و دلوقتي… دلوقتي مش قادره أتنفس من غيرك…
وضعت جبينها على ظهر يده، وقبلته بلطف،
كأنها تنقل له الحياة عبر أنفاسها، وتبث فيه الرجاء من روحها…
رفعت رأسها ، وقلبها يكاد ينفجر بين ضلوعها وهمسة بصوت مرتجف :جبران! سامعني؟! حبيبي… ده أنا ونس! سامعني؟!
راقبته بعينين تتوسل، أن تري منه مجرد رمشة عين تطفيء نار قلبها الذي يحتضر بين ضلوعها ضمت كفه الي صدرها وهمسة بنحيب : أنا معااااك… ومش هسيبك… أبدا …
………
في مكتب سليم الباشا …
جالس سليم على مكتبه.. يحاول جاهدا أن يغرق نفسه في الأوراق والتقارير .. يقنع نفسه أن العمل سيسكت العاصفة التي تعصف بصدره…
لكن لا يوجد شيء قادرا على إخماد الحريق الكامن خلف ضلوعه… الغضب، الخذلان، والوجع…
رن الهاتف فجأة بعنف… كأن القدر نفسه يناديه حتي يرفع الهاتف وغمغم : الو
هتف الشخص من الجهه الاخري : سليم بيه الباشا … عمل حادثة!!
سقط القلم من يده ..وتجمد جسده ..وخرج صوته من صدره شعر به كأنه جرح صدره وغمغم بصوت مبحوح بدون تصديق : إيه؟ بتقول ايه انت ؟!
- العربية خرجت عن السيطرة… وهو في المستشفى دلوقتي… وحالته…
لم يسمع شيئا بعدها. كل الأصوات تحولت إلى ضوضاء مشوشة، وكل ما سمعه قلبه هو: أن أبيه في خطر… أبيه يمكن ما يموت ولا استطيع ان يلحق به!!
قفز من مكانه كالمجنون… وسحب سترته وهرول في الممر.. كأنما يهرب من نفسه، من الزمن، من الذنب الذي بدأ يخنقه….
صعد سيارته وهو يرتجف، ويده ترتجف ولا تستقر على عجلة القيادة… والدموع تحجب عنه الرؤية وغمغم بدموع: يا رب لا… يا رب ا… يا رب … لا يا بابا ما تسبنيش وإحنا متخاصمين…
كل ثانية كانت كأنها دهر، وكل إشارة مرور كأنها تطعنه. راح يضرب المقود بعنف وهو يصرخ لنفسه: أنا اللي غلطان! أنا اللي خليت آخر كلمة بينا وجع!
وصل سليم للمستشفى … وعيونه شاردة كأنها تائهة وسط ضباب سميك من الذنب والخوف..
تخبطة خطواته.. وقلبه يطرق بعنف كطبول الحرب اقترب من الاستقبال ..
وغمغم بصوت مرتجف بهذيان : جبران الباشا فين ؟!
حد كلمني قالي عمل حادثه ..فين ابويا؟ فين ؟!
أشار له الموظف وهتف : اوضه ٥٥٠ الدور الثاني ..
هرول في ردهات المستشفى الموحشة، وهو يتخبط في الماره ..وهو يبحث علي رقم الغرفه ..ارتجف الهواء حوله وكأنه يهمس بخطر يداهمه، والخوف ينهش صدره بضراوة الذنب….
هرول سليم ،وهو لا يشعر بقدميه، لا يسمع سوى صوت دقات قلبه الهائج، وكأن كل نبضة تنزف من داخله…
فتح باب الغرفة فجأة، وانكسر قلبه قبل أن تكتمل النظرة… عندم وقعت عينيه عليها…
ونس…
كانت تجلس على الأرض، عند اقدام جبران، منكمشة كأنها طفلة ضائعة، تغشي عينيها دموع حارقه كانت عينيها معلقه بجسد جبران برجاء موجوع….
كانت تحضن ذراعه الملفوف بالجبيرة، تمسح جبينه المجروح برعشة مرتجفه ، وهمسة بكلمات مكسورة:
قوم يا جبران قوم… كفاية كده، أنا مش هتحمل… بصلي بس نظره واحده اعيش عليها عمري كله.. والنبي عشان خاطري قوم يا بابا ..ويا حبيبي ..وجوزي.. وكل الدنيا ..
اقتربت من يده وقبلتها بحنان وهمسة : انت كل دنيتي يا جبران ، أنا مليش غيرك ، أنا كنت عايشه وسط غابه، وسط ديابه، وجيت انت وجي الامان والحنان والحب والفرحه …
أنا كنت عايشه ومكنتش مستنيه من الدنيا حاجه..
بس دلوقتي مستحيل اقدر اعيش من غيرك يا حبيبي !!
حدق بها بذهول وجهها الباهت، وعيونها التي حفر بها السهر والخوف، وشعرها المتناثر حول وجهها كستار الحزن، حافيه القدمين وكأنها نسيت نفسها وبقيت فقط له، تنتمي لالمه ، وتتنفس وجعه.
دلف سليم بجسد منهك وخطوات ثقيله ، كأنه يتسلل إلى قبر يعرف أنه هو من حفره …
وقف، وتجمد بأرضه زاغت عينيه في مشهد يعجز عقلي عن وصفه يا ساده …
همس لنفسه بحسره : هي دي ونس اللي كنت شايفها طماعة… واهي بتموت تحت رجلين أبوك …
بتحضنه هو مش علشان مال ولا مركز… لأ، عشان بتحبه، وبتخاف عليه بجد ، بإخلاص انت حتي ماتعرفهوش….
أبوك اللي عاش عمره ساكت، مكابر، كاتم، دلوقتي واقع، وونس حضنه الوحيد…
تذكر صوت والده في مكتبه :ونس؟
ونس ابعد ما يكون عن الطمع ونس اطهر
وأنضف من إني أشك لحظة إنها دخلت حياتي طمع.
أنا اللي كنت طمعان…
طمعان في حضن يدفيني، في كلمة تطلعني من وحدتي،
في قلب يصدقني بعد سنين كنت فيها بكلم نفسي.
أنا كنت طمعان أعيش باقي العمر في حضنها…
اللي فيه أمان، ودفا، وحنان…
الحاجات اللي اتحرمت منها من زمان…
الان… الان فقط استطاع أن يري كل شيء.. ويسمع كل كلمه كان يرفض سماعها !!
تنفس بصعوبه واقترب وغمغم بصوت موجوع : ونس…
رفعت راسها ببطء، نظرت له بعيون يملأه الخذلان، والضعف، والهزيمة. لم تستطع فتح فمها لكن دموعها قالت الكثير ونهت اي حوار …
اقترب اكثر وجثي علي ركبته ومسك كف والده ونظر له وهمس بصوت مبحوح بدموعه : أنا… أنا آسف يا بابا… ياااه، أنا كنت غبي… كنت بعيد أوي عنك، ومشوفتش… مشوفتش اللي جواك…
نظرت له ونس ودموعها تنهمر بصمت كتم سليم شهقته وغمغم بحرقه : مكنتش أعرف… إننا شبه بعض أوي، احنا الاتنين كنا لوحدنا… بس انا لقيت حد يطبطب عليا ، وأنت كنت بتكابر وتنفر من اللي يحاول يقرب …
قبل كف والده وسند جبهته عليه وغمغم بصوت مكسور :
أنا زعلان من نفسي… زعلان إني شكيت فيكي يا ونس، وزعلان إني كنت آخر واحد يعرف… وزعلان أكتر إني كنت هخسرك يا بابا، وإحنا لسه زعلانين من بعض…
أغمض جفونه، وانهمرت دمعة ثقيلة، سقطت على كف والده..
سكن الندم عروقه وتمدد، وحفر داخله مكانا عميقا…وانتهي الأمر ..
وكأن كل اللحظات اللي ضاعت منه، قد عادت الآن لتنتقم….
وفي صمت الغرفة المطبق بقي المشهد كما هو…
ابن منكسر… أب غائب عن الوعي…. وزوجة مكلومه تقاتل الألم بأطهر دموع ….
………………
دقائق مرت أو ربما ساعات مرت كأنها دهور….
كانت ونس قابضة على كف جبران، تنحب بصمت… وسليم يجثو بجانب الفراش ، راسه محني فوق صدر والده ودموعه تنزلق، ولا يستطيع كتم شهقاته.
وفجأة مع فجرا يوم جديد …
حرك جبران يده حركة بسيطة…
شهقت ونس وارتجف قلبها ، ولمست وجهه بلطف وهمسة بدموع : جبران؟! حبيبي سامعني؟! فوق يا روح ونس… فوق عشاني!
رمش بجفنيه بثقل، وبصعوبة بالغة، فتح عينيه.
ظل جبران يغلب ضعفه، يحاول أن ينتشل نفسه من غيبوبة الألم،
يحاول أن يربت عليها بكلمة، بحركة، بأي شيء يطمئن قلبها المذعور…
همس، وصوته بالكاد يتشكل بين شفتيه:ونس… متعيطيش… أنا معاكي!
قالها وكأن روحه تتعلق بأهداب صوتها، كأن بقاؤه نفسه صار مرهونا بها.
ونظر لها نظرته كانت مشوشة، متعبة، لكنه ابتسم بوهن عندما راي ونس أمامه ، ضحكة ضعيفة ظهرت من بين شفتيه وغمغم :متخفيش عليا !
انهارت ونس بين ضحكتها ودموعها وغمغمت : كنت هموت لو حصلك حاجه ، الدنيا كانت زي جهنم وانت غايب عني ..
ابتسمت بين دموعها، ابتسامة مرتجفة ممزوجة بالوجع،
وقالت وهي تمسك كفه الساكن بكلتي يديها، ترفعه بحذر لتضعه على وجنتيها : كنت هموت عليك يا حبيبي.. كنت حاسة الدنيا وقعت فوق دماغي..
هز جبران رأسه ببطء وكأن كلماته أثقلته:ولا عمرها تقع… طول ما أنا موجود…
هزت راسها وهمسة بنحيب حاد: إنت مجنون… ليه عملت كده؟! ليه عرضت نفسك للخطر كده ؟!
ارتسمت على وجهه المرهق ابتسامة واهنة،
ونظر لها بعينين ذابلتين ولكنهما مشبعتان بالعشق،
وقال ببساطة محطمة:لأني بعشقك … وبحبك أكتر من نفسي…
اختنق صوته، واغرورقت عيناه بالدموع… لأول مرة تراه يبكي ذلك الجبار، الصلب، الذي لطالما ظنته لا ينكسر،
ها هو الآن ينهار أمام حبه..
شهقت ونس بوجع، ثم مالت فوقه، وضمت رأسه إلى صدرها تغرقه بدفء قلبها المرتجف وهمسة في أذنه وهي تبكي: وأنا كمان بحبك… وربنا ما يحطك في ضيقة تاني…ولا يوجع قلبي عليك كده أبدا !!
ارتجف جبران بين ذراعيها، كأنه طفل ضائع وجد حضنه الأول وشهق شهقة موجوعة، وكأن كل خوفه انفجر في تلك اللحظة وغمغم بصوت متحشرج موجوع: خفت عليكي… خفت أموت وانتي لوحدك..
قالها .. فاحتضنته ونس بقوة أكبر، كأنها تحميه من العالم بأسره وهمسه بدموع :إنت مش هتموت… إنت هتعيشلي… وهتفضل جنبي لآخر نفس فيا… وعد… وعد يا جبران!
همس وهو يغرق في حضنها وكأن العالم كله اختزل هنا بين يديها : وعد يا روح جبران !
نهض سليم ومسح دموعه وتحرك الي الخارج وغمغم وهو يخفي عينيه بالم : أنا هروح اجيب الدكتور …
توقف عند الباب عندما هتف جبران بصوت متحشرج: تعالي يا سليم تعالي !!
اقترب سليم بلهفه ودموعه تنهمر وانحني وضم والده ودفن وجهه في صدر جبران ، وهمس بصوت مرتجف:
بابا… سامحني… سامحني يا بابا… أنا آسف، آسف والله، أنا غلطت، كنت أعمى، كنت حقير، وكنت جاحد وانت متستهلش مني ده!
ربت جبران علي رأسه وغمغم: أنا مش زعلان منك يا سليم وانت متزعلش مني انا اللـ
قطع سليم جملته بسرعه وهز رأسه ودموعه تنهمر أكثر :
أنا كنت فاكر إني آخر واحد عندك… وطلعت أنا اللي سايبك لوحدك… وسايبك محتاج لونس، وهي الوحيدة اللي كانت سندك، وأنا كنت أول واحد شك فيها…
مد جبران يده و مسح دموع ابنه بإبهامه وغمغم : خلاص يا سليم المهم انك فوقت قبل فوات الاوان …
اقترب سليم وقبل راس والده وسند جبهته على جبهة والده وغمغم : أنا آسف… آسف يا بابا… مستعد أتحمل أي حاجة علشان تسامحني.. واقدر اسامح نفسي !!
نظرت لهم ونس ودموعها تنهمر بصمت وقلبها يتخبط برجاء أن يتصلح كل شىء …
اوما جبران برأسه وقال: أنا مش هعيش لكم العمر كله… بس نفسي اكون مطمن عليكم ، وأشوفكوا قريبين… شايلين بعض، مش كارهين بعض.. عايز احس اني سيب بعدي راجل يا سليم هيشيل بعد أبوه !!
هز سليم رأسه بالنفي بهستريه.. ونهضت ونس بسرعه وقبلت يديه وهتفت : بس يا جبران! انت بتقول ايه؟ احنا ملناش غيرك ومنعرفش نعيش من غيرك اوع تقول الكلام ده تاني ..
اوما سليم برأسه وقال: ايوه يا باشا انت سندنا كلنا.. وبلاش الكلام اللي يوجع ده ..احنا مش نقصين والله !!
ابتسم جبران وتنفس بعمق، ثم تحرك قليلاً وكأنه يريد النهوض وغمغم :لازم أخرج من هنا… الصفقة اللي شغالين عليها، لو الورق ما اتقدمش النهاردة، هنخسر بالملايين…
انتفضت ونس وهتفت وهي تتمسك به : أنت لسه راجع من الموت! مستحيل أسيبك تتحرك يا جبران !
تمسك به سليم وهتف : لا يا بابا مفيش حركه لحد ما الدكتور يقول !!
هز جبران رأسه وتمتم: لازم اقدم ورق المناقصه ..
قطعته ونس بإصرار وثبات وثقه : أنا هروح أقدم الورق يا جبران وانت ارتاح !!
كلمتها خرجت ثابتة… واثقة، كأنها جاءت من امرأة أخرى غير تلك التي انهارت بين ذراعيه قبل ساعات…
عقد جبران حاجبيه، وهتف بصوت ثقيل:لا طبعا أنا مش عايزك تقربي من الجو ده … وانتي اصلا مش مستعدة للجو ده…
ربت علي وجنته وقالت : أنا تمام يا جبران…انا عايزة أعمل كده… مش علشان الصفقة بس… علشانك. لازم أساعدك، زي ما دايما واقف في ضهري..
ابتسم سليم وغمغم بحسم : أنا هروح معاها!!
في ضهرك رجاله يا باشا ..
ابتسم رغم الألم ونظر الي ابنه وري في عينيه الم مكتوم وخجلا خفيف لم يعترف به بعد ..ثم أشار برأسه وقال :الورق في الدرج اللي ورا المكتب… متخافوش الدنيا سهلة وعلاء هيكون معكم !!
نظر جبران بينهم بعيون يفيض منها الاف المشاعر وقال : خلاص… توكلوا على الله… سليم ؟
التفت سليم وغمغم: نعم !!
نظر جبران لها واردف بجديه: خلي بالك منها.. عينك في وسط راسك ..وانا هكلم علاء !!
اوما سليم دون تعليق، لكن عينيه تحركت ناحية ونس، وفيها لأول مرة… شيء من الحذر المخلوط بالندم شيء لا يزال يقاوم بداخله…
……………………………..
في اللحظة اللي دوى فيها صوت أحد الحضور بنبرة رسمية:جبران الباشا… دورك تقدم ورق الصفقة…
ساد صمت ثقيل، والأنظار اتجهت ناحية الباب في ترقب، لكن كمال سبق اللحظة وقال بنبرة باردة يملأها شماتة:
جبران الباشا انسحب…
قبل ان ينهي كلمته، انفتح باب القاعة الثقيلة، ودلفت ونس بثبات يحبس الأنفاس….
كأنها نسمة نار، أنوثة صلبة، عيونها مشتعلة، وخطوتها تنطق بالثقة : جبران الباشا ما بينسحبش… الورق اهو!!
قالتها بنبرة هادئة، لكن تحمل قوة صادمة، رفعت الأوراق بثبات وهي تتقدم بخطى محسوبة…
بجانبها سليم، وعينيه تلمع بترقب وهدوء قاتل، وعلاء يسير خلفهم بعينين يقظة، يراقب كل حركة، كل همسة.
جحظت العيون عند رؤيتهم، فالآن بات الجميع يعلم من هي ونس، خاصة بعد حادثة جبران الأخيرة، ولكن أن تأتي لتقدم الأوراق مكانه كان مفاجأة…
بدأ الجميع يتبادلون النظرات، في الوقت الذي كان فيه سليم يتابع الموقف بحذر…
نظر حازم إلى كمال بحدة والنيران تقفز من عينيه وغمغم:إنت مش قولت إنها كانت معاه في العربية؟!
أومأ كمال وبلع لعابه بصعوبة وهمس بارتباك:أيوه… أنا شايفهم بنفسي، طالعين من الفندق وركبوا العربية!
كور حازم قبضته وهدر من بين فكيه بغضب:إزاي دي مفيهاش خدش؟ إزاي طلعت من الحادثة دي سليمة كده؟
هز كمال رأسه بدهشة وغمغم:مش عارف… أنا وريتك صور العربية، مدمرة إزاي! الحادثة دي حادث موت حرفيا..
ربت على منكبه ونهض كمال واقترب منهم، قال بنبرة ساخرة وهو ينظر إلى ونس بخبث:أهلا يا مدام ونس، المرة دي أكيد مش غلطان… أنا سمعت إن الباشا عمل حادثة كبيرة، ألف سلامة… زعلت بجد!
نظرت له ونس باستهزاء وغمغمت بنفور:الباشا زي الفل الحمد لله، جات سليمة… والله لا يسلمك…
رفعت اصبعه بتحذير حارق : اقسم بالله العظيم المره اللي جايه دورك يا كمال وخاف من اللي ملهاش حاجه في الدنيا غير جوزها.. وتاكل بسنانها اللي يوزه عقله ويرشه بالمايه.. عشان وقتها هرشه بالنار.. وخاف لما ست تحطك في دماغها !!
نظر لها بحنق ورفع حاجبه وهو يشعر وكأنها أمام جبران الباشا.. بنفس النظرات الحارقه.. والثقه المفرطه.. والقوه والهيمنة الجباره.. وهدر بفحيح: هو الباشا مش خايف عليكي؟ بيرميكي وسط الحيتان كده؟
اقترب سليم وخلفه علاء، وتراجعت ونس للخلف، وهدر سليم بغضب حارق:حيتان؟ هم فين دول؟ أنا مش شايف غير صراصير… وممكن أدوس عليهم بأوسخ جزمة عندي عادي أوي!
تراجع كمال للخلف من حدة سليم، وهتف حازم بحنق:
إنت بقى سليم الباشا؟ خليفة الباشا الكبير ؟ نزلت الملعب مكان أبوك؟
شعر سليم بأن قلبه يشتعل غيظا لكنه ضحك بتهكم بارد وقال:لأ يا حازم، أبويا محدش يعرف يملي مكانه… حتى لو كنت أنا، ونصيحة أخويا كده عالماشي… ارجع بدل ما تتفعص…
ضحك بتهكم وأردف:مش أنا اللي هتفعص، أنا أهو قدمت الملف… ومستني الرد من بدري، الباشا فين دلوقتي؟
اندفع علاء بغضب شديد وهدر: اخرس بقى!
شهقت ونس، ورفع سليم يده وغمغم: سيبه يا علاء… هو ده آخره، معرفش يقف في وش الباشا راجل لراجل بيلعب من تحت لتحت زي النسوان!!
رفع منكبيه وغمغم بتحدي:أصله مش راجل!!
نظر له حازم بحنق، وعاد إلى الطاولة بغضب.
نظر سليم إلى علاء وغمغم:علاء، عايز تقرير مستعجل على العربية اللي كان راكبها الباشا…
أومأ علاء وقال:تمام يا باشا… خلال كام ساعة…
هز سليم رأسه، وعقله يعمل في كل اتجاه كشبكة عنكبوتية معقدة، وأشار إلى ونس وقال:تعالي يا ونس.
تحركت معه، واقتربت من المكتب، قدمت ونس الأوراق، وسليم بجانبها، وعينيه تتجولان في المكان، على استعداد تام لأي شيء قد يحدث…
وبعد أن انتهت ونس من تقديم الأوراق، أومأ سليم برأسه
وتحرك وهو يقودها بلطف وجلس علي الطاوله ..
بعد مرور وقت دوى صوت أحد المسؤولين بنبرة رسمية من على المنصة:بعد مراجعة الأوراق المقدمة وتحليل التفاصيل…اللي كسب الصفقة شركة الباشا جروب التابعة لجبران الباشا!
سكتت القاعة للحظة، وكأن الزمن وقف، قبل أن تنفجر همسات الصدمة، وعيون الكل تتجه تلقائيا لونس وسليم
وقفت ونس بفرحه وسعاده ، بهدوء الواثقة وابتسامة المنتصر …
ابتسم سليم بجانب فمه بضحكة فيها نشوة نصر… مش نصر الصفقة فقط ..لكن نصر على كل شخص توهم إن جبران الباشا انتهى…
صفق علاء بهدوء، ونظر الي حازم وكمال بتحدي وهتف :الباشا كسب حتى وهو مش موجود… سبحان الله هيبة غايب اقوي من الحاضر …
نظرت ونس الي سليم وهمسة له بفرحة :الحمد لله يا سليم… كسبناها!
اقترب منها وهمس :لأ… انتي اللي عملتيها، الباشا علمك تبقي نار، وانتي ولعتي القاعة كلها…
ابتسم وأضاف بمرح : بس أوعي تفتكري إني مشوفتكيش وإنتي بتترعشي وإحنا دخلين…
ضحكت بخجل وهمسة: بصراحه كنت مرعوبة… بس حسيت إنه بيبصلي، وبيقولي: كملي عني…
في نفس اللحظة، ضرب حازم كف ع كف بغيظ، عينه تشتعل بنار حارقه، عض كمال شفته بغيظ وهو ينظر الي الورق الذي بين يده وكأنه يريد حرقه في الحال ..
وغمغم بغيظ:ده مستحيل… الورق ده ما اتعملش في يومين، ده شغل شهور!
رد حازم من بين أسنانه:هنعمل ايه؟ كده كل حاجه ضاعت! وممكن اتسجن في اي وقت …عملها جبران برضو من الاول كان ناوي على قلب الطربيزه…
اقترب سليم وقف أمامهم وقال بنبرة باردة : لسه حد بيقول جبران الباشا انسحب؟… ده حتى وإيده في الجبس بيكسب…
غمغم علاء بسخرية:أنا خايف عليكم لما الباشا يتعافى… وقتها هتدفنوا نفسكم بإيديكم!
تحركوا للخروج، وونس تسير بينهم، مرفوعة الرأس، والهواء يطير خصلات شعرها، كأنها تعلن للعالم أجمع إنها ليس مجرد انثي … أنها زوجة جبران الباشا….
غمغم حازم بحنق وغضب عارم:
البنت دي خطر… لازم نخلص منها وبسرعة!
هدر كمال من بين أسنانه:ده تار قديم… بس المرة الجاية، مش هتقوم منها…
……………………………….
في الخارج
وقف سليم بجانب السيارة ونظر إلى علاء وقال:
علاء، روح اعمل اللي قلتلك عليه بسرعة…
أومأ علاء وتحرك إلى سيارته، وتحرك سليم وفتح الباب، صعدت ونس السيارة، وأغلقت الباب بصمت، ثم صعد هو وانطلق بها بسرعة…
كانت السيارة تنساب عبر الطريق الهادئ، وفي داخلها، يملأها صمت ثقيل بين سليم وونس. كانت ونس جالسة بجانب سليم، عينيها تحدق خارج النافذة، والظلام يغطي الطريق، في حين أن أفكارها كانت مشوشة تماما. لكن سليم، كان يقود السيارة بهدوء وقلبه مثقل عليه الندم، وعقله يغلي بـ تساؤلات لم يجد لها إجابة.
مرت لحظة من الصمت، أخذ نفسا عميقا وتمتم بصوت هادئ،
ولكنه محمل بالندم:أنا… مش قادر أصدق إن ده كله حصل… أنا حاسس زي ما اكون في دوامه يا ونس دلوقتي مش قادر أفهم ليه عملتي كل ده. لو كنت عرفت، لو كنت فهمت إ
لم تلتفت ونس إليه في البداية، فقط استمرت في النظر إلى الخارج، لكن كلمات سليم كانت تأخذ وقتها لتتسلل إلى قلبها، وشيئا فشيئا، بدأت تشعر بما يقال، حتى وإن كان مكتوما علي قلبه نظرت له وقالت : أنت مش فاهم يا سليم. أنا مش ندمانة على حاجة، ولا على أي قرار أخدته في حياتي معاك أو مع دمع . ضحيت عشان دمع،
وضحيت عشانك أنت. كنت عارفة إن جبران هيكون في حياتي … حتى لو كان غصب عني. وكان حلمي، حلمي من البداية، انك انت ودمع تتجمعوا تحت سقف واحد …
نظر لها بعيون تلمع بدهشه وهزت كلماتها قلبه وكأن كل كلمة منها كانت مثل السهام التي تضرب قلبه، وتترك أثرا عميقا في روحه وهتف : مش ندمانة ابدا؟! حتي وانتي اتحرمتي من الفرح.. والفستان ..وانك تكوني زوجه في النور قدام الناس والدنيا ..
نظر له وعينيه تبحث عن اجابه وهو يشعر بمرارة في قلبه وهو يواجه حقيقتها ..
نظرت له وردت ببساطه صادقه : لا مش ندمانه ..
وكفايه عليا فرحة دمع ..واني لبستها فستان الفرح بيدي.. كأني لبسته.. وكمان أنا ربنا شالي نصيبي من السعاده كله في جبران .. أنا مش عايزه اكتر يا سليم ..
شعر سليم بشيء ثقيل في صدره تنفس بعمق، وكأن الكلمات التي قالتها قد انقضت على قلبه، تركته في حالة من الصمت المؤلم ونظر لها وقال : أنا آسف… آسف اوي يا ونس. أنا كنت حقيقي اعمي .. كنت جاهل مكنتش فاهم !
ضحكت ونس بسخرية خفيفة، ثم قالت بصوت حزين ولكنها لا تخفي أبدا صدقها: المهم انك فهمت.. حتي لو متأخر شويا.. المهم فهمت!! أنا كنت عايز ليكم الحياه اللي تستحقوها ..
كان ينظر لها، وهو يشعر بجنون ندمه ينهش قلبه. كيف لم ير كل هذا في البداية؟ كيف لم يفهم مدى قوتها، ومدى صدق مشاعرها؟
ابتسم بصدق وهتف : انتي كنتي جمب الكل من البدايه ودايما بتدي من غير ما تطلبي حاجه !!
عايز أقولك إني ندمان على كل حاجه ، على كل حاجة عملتها… مش بس معاكي ، ومع دمع كمان!!
توقف سليم عن الكلام للحظة، ثم تابع بحزن عميق في عينيه:أنا آسف،يا ونس… آسف إنني كنت في يوم من الأيام سبب في وجعك.. ووجع بابا ..وكمان دمع .
بس دلوقتي عرفت إني كنت كل ده غلط، وأنا مش عارف أرجع الوقت واصلح كل حاجة، بس كنت عايزك تعرفي إنك أكبر اوي ما كنت فاكر !
نظرت له ونس وابتسمت بلطف وقالت : أنا متشلش همي أنا مش زعلانه.. وبابا كمان انا متاكده أنه مش زعلان..
بس يا بطل شوف بقا هتصالح دمع ازاي؟! وانا حاولت اكلمها كتير الاسبوع اللي فات بس مكنتش بترد.. وبصراحه مكنتش عارفه انت قلت لها ولا لا !!
ومكنتش قادره أوجها..
ذم شفتيه بغضب ورد: كله بسببي! بس متخفيش أنا هصلح كل حاجه …
اومات برأسها وقالت: طيب روحني علي البيت اجيب هدوم وكام حاجه كده قبل ما اروح المستشفى …
اوما برأسه وقال: اي بيت ؟!
إشارة بيدها وهتفت: هقولك العنوان ..
اوما برأسه وقال: وانا هروح المستشفى لحد ما تيجي وهبعتلك السواق عشان اطمن الباشا علي الورق ..
انطلق بالسياره حتي توقف أمام عنوان شقة جبران الباشا وترجلت ونس وإشارة له وصعدت وانطلق بالسياره بسرعه …
………….
انتهت ونس من جمع الأغراض التي أتت من أجلها
كان كل شيء في البيت ساكنا… الصمت يكسو الجدران، غياب جبران عن المنزل كان يخنقها وكأنها أوشكت أن تفقد حياته ..
فتحت ونس الباب بخطى مترددة، خطوات امرأة تحمل بين يديها هم الأيام،، وعينيها تبحث عن شيء من الهدوء وسط العاصفة. لكن وجدتها أمامها !!
تقف أمامها، وجهها غارق في الدموع، شعرها اشعث، وملامحها تائهة باهته ..وكأنها خارجة من حرب لم تربح فيها شيئا …
نظرت لها ونس وغمغمت بصوت مرتجف : دمع؟!
رفعت دمع عينيها، ونظرت لها نظرة لم تعهدها منها من قبل… نظرة تحمل من القسوة والعتاب، والخذلان ما جعل قلب ونس يتفتت بالم سكن احشاءها ..
هزت دمع راسها وهي تنظر لها بدهشة وغمغمت بدموع وصوت مبحوح : ليه ؟! إزاي؟ ليه يا ونس ؟إزاي عملتي كده؟ هنت عليكي يا ونس هانت عليكي دمع ؟
كانت الكلمات كانها سكاكين تقطع في قلب ونس، لكنها اقتربت، تحاول أن تشرح، أن تدافع، أن تتمسك ببعض ما تبقى بين شقيقتان… كانت إحداهما ظهر الاخري طوال حياتها…
تراجعت دمع بحده وكأنها لا تطيق لمستها وهدرت بعنف: متلمسنيش!! اوعي تقربي يا ونس.. أنا جسمي بيفرز غضب.. لو طالك معرفش هيحصل ايه هنخسر بعض يا ونس !!
نظرت لها ونس بعيون جحظه وغمغمت بدموع: استني… اسمعيني بس، أنا ما كانش قصدي أوجعك، والله ما كان بإيدي.. انتي عارفه كويس اوي انتي ايه يا دمع… خدي عيني يا دمع بس بلاش النظره دي !!
رفعت يدها وإشارة لها بعيون مشتعله بالغضب: ماكانش بإيدك؟!اتجوزتي أبو جوزي يا ونس!!
إنتي فاهمة يعني إيه؟أبو سليم! إزاي قدرتي تعملي كده؟!فين عقلك؟!
فين أختي؟! فين اللي كنت بحكيلها عن كل حاجة؟!
مش معقول اكون عشت عمري كله موهومه فيكي ولا أنا كنت غبيه اوي!! ولا انتي شاطره ولا ايه ؟!
كانت كل كلمة تخرج من دمع تشعل نارا في صدر ونس لكنها حاولت التماسك…
نظرت لها ونس بدموع متحجرة بقهر وقالت : كنت مجبورة…
جبران هددني، قالي لو ما وفقتش عليه، هيبوظ جوازك من سليم، كان هيخليه يبعد عنك ..وصبحي مكنش هيرحمك .. أنا خفت عليكي يا دمع… خفت حياتك تضيع…
هتفت دمع بصوت يرتجف وجعا : طب وفي الآخر؟
أنا اللي ضعت برضو !جوزي سايبلي البيت، بيقولي يا تطلبي من أختك تسيب ابويا يا إما نخلص!
أنا بتصل بيه كل دقيقه وهو مش راضي يرد…
بروح له كل يوم الشركه وهو مش طايقني!!
أنا اللي خسرت كل حاجة!!
فتحت ونس فمها قطعتها دمع بجنون هستيري : خلاص يا ونس.. لو فعلا باقيه عليا ولو فعلا غصب عليكي ف الجواز دي !!خلاص انا وسليم اتجوزنا ومفيش مانع انك تسببه! سبيه يا ونس !!
شهقت ونس وكأنها تختنق من مجرد كلمات ..وهزت راسها بالنفي بغضب ..ودموعها تنهمر على وجنتيها كجمر ملتهب !!
اقتربت منه وقبضت علي ذراعيها وهزتها بعنف وصرخت دمع بغضب : اطلبي الطلاق يا ونس!! بيتي هيتخرب بسببك انتي.. هو في ام تخرب بيت بنتها يا ونس ؟!
ابعدي إنتي! سيبيه! هو مش حبيبك! أنهي عقل يقبل كده؟!
أنهي قلب مريض يحب بالشكل ده؟!
دفعتها ونس وانفجرت تصرخ باختناق : لالا مش حب جبران مش مرض …أنا بحب جبران… أنا… بحبه اوي …
مش قادرة أعيش من غيره يا دمع،أنا حاولت…
بس… دي أول مرة في حياتي أبص لنفسي، وأقول… نفسي… مش أنتي!… أنا عشقته من غير ما احس !!
عارفة يعني إيه أحب واعشق حد لأول مرة في عمري؟
أنا طول عمري بدي وبنسى نفسي، بس المرة دي…
قلبي مش قادر ينساكي، ولا هو قادر يسيب جبران!
أنا تعبت يا دمع… أنا مصدقت طعم المرار يروحوا من حياتي أنا حسيت الامان والحنان والسند ومش هقدر اعيش من غيرهم …بعد ما اتعودت عليهم..
ومقدرش اعيش من غير جبران!! جبران مش جوزي يا دمع ..ده ابويا ، واخويا ،حبيبي ،وأماني وسندي اسيب مين ولا مين ؟!
تراجعت وهي تنظر في أرجاء الشقه بذهول وهتفت بصياح حارق: ابعد عن مين يا دمع ؟؟ جوزي ولا ابويا.. عن حبيبي ولا سندي …ولا قدرت ابعد عن دول كلهم؟! ابعد عن روحي ازاي؟؟ من غير ما اموت ازاي ؟!
صرخت دمع بدموع لا تتوقف : كلنا تعبنا…
بس مفيش حد بيختار وجعه على وجع اللي بيحبهم!
انتي اخترتي، اخترتي نفسك، واخترتي أبو جوزي…
وسبتيني أنا أغرق… أنانية! انتي انانيه يا ونس ..
طول عمري شايفكي الملاك اللى شايلة وشقيانة ومضحية!
بس طلعتي أكتر واحدة بتفكر في نفسها!
أنا ما صدقت لقيت حب، لقيت سكينة،بس إنتي؟!
ضيعتي مني ده كله! أنا كنت فاكراكي حته مني…
بس طلعتي غريبة…غريبة اوي يا ونس…
مش قادره اشوفك اختي واضح كده أن صبحي كان عنده حق في كل حاجه عملها فيكي …
أغمضت ونس عينيها بقوة، كأنها تحاول أن تطرد الألم من رأسها، وقلبها ينهار، وأنفاسها تتقطع، لكنها فجأة… فتحت عينيها واستقرت الكلمة في قلبها قبل أن تخرج من لسانها، قاسية، قاطعة، مميتة. حاد كسيف :أنا ضحيت كتير…أمي ماتت، وكنت لسه طفلة، لبست الدور بالعافية،
أبويا كان بيضربني علشانك، اشتغلت وأنا عندي ١٤ سنة،
كنتي كل همي هتاكلي ايه؟ هتلبسي ايه ؟!
محلمتش بفرحي.. حلمت بيكي تفرحي…بس المرة دي…
أنا مش قادرة أسيبه.مش علشان أنانية يا دمع!!
علشان قلبي مش هيستحمل أكتر…المرة دي… عايزة أختار نفسي…
بعد كل ده شايفاني كده يا دمع؟!
نسيتي كل حاجه كده بسرعه!! وجرحي.. ووجعي وحارقة قلبي ..عادي عندك ؟!
أغمضت عينيها تفرغ عينيها من كمية الدموع المحشره بها وغمغمت ببرود حاد : امشي يادمع.. أنا اللي مش عايزة أعرفك تاني!!
ساد صمت خانق… صمت ثقيل، كأن العالم كله توقف.
سقطت دمع علي الأرض، تبكي كأن كل شيء فيها ينكسر،
وقفت ونس مشدوهة، لا تعرف إن كانت قد قتلت قلب أختها… أم قلبها هي؟!
البيت مازال كما هو…لكن الأرواح فيه، لم تعد كما كانت.
تحركت ونس بصعوبه ..وأغلقت الباب ودلفت المصعد وتركت دمع تنحب وتشهق بصوت مسموع وكأنها تناجي ربها بعويل نادم !!
…………………………………….
في المستشفى
دلفت جيلان وآدم الي المصعد ..كان المصعد يطلع ببطء، وكلما ارتفعت الطوابق، كانت جيلان تنهار أكثر..
امتلأت عينيها بالدموع، وكل خطوة كانت ثقيلة عليها كأنها تحمل هموم الدنيا….
نظر لها آدم وقلبه يعتصر من الألم وهو يراها تعاني هكذا
اقترب منها وربت على راسها وغمغم بصوت حنون دافيء: مفيش حاجة يا روحي … الباشا قوي، هتلاقيه بخير أن شاء الله!!
مسحت دموعها بسرعة، ونظرت له والحزن يرتسم علي ملامحها بشده ..وهي لا تستطيع اخفاء ما يموج بقلبه من قلق يفتك بقلبها ويفتته ..
نظر الي حزنها الشديد واقترب منها وحاوطها بذراعيه واحتضنها برقة وبشدة في آن واحد، كأنها طفل ضايع،
غمرها دفء أحضانه والأمان المطلق الذي يداهمها كلما ضمها لصدره.. وهمس بجانب أذنها: مش لوحدك، أنا هنا حبيبي !!
قبضت علي سترته وإحساس بالطمأنينة يغلف قلبها غير طبيعي ..فجاه رن الجرس وفتح باب المصعد بشكل سريع …
وقف سليم امام المصعد يعبث بهاتفه يحاول التواصل مع ونس.. حتي يخبرها أنه سيذهب لدمع.. وعليها المجيء حتي لا يترك والده بمفرده !
لكن تراجع آدم كان اسرع وسحب ذراعيه عنها.. بدت حركته سرعه جدا.. لكنه حافظ علي هدوئه …
رفع وجهه عن الهاتف ونظر لهم بدهشة وقال : إيه ده؟
أشار له آدم وقال بجديه : الباشا عامله ايه؟؟
من بدري برن عليك مش بترد عليه ليه ؟! وجيلان كانت قلقانه اوي فجبتها ..طول الطريق منهاره وبحاول اهديها !!
هز سليم رأسه وتمتم: معلش أنا كنت بقدم ورق الصفقه للباشا ..ومختش بالي من التلفون !
اوما بابتسامه خفيفه واكمل : طيب، ادخلوا، أنا عندي مشوار مهم وكنت برن علي ونس تيجي مكاني.. كويس أنكم جيتوا !!
نظرت له جيلان وبلعت لعابه بصعوبه وهمس بتوتر من كل شيء : ونس!! ونس تيجي ازاي ؟؟
نظر لها سليم بحنق وغمغم: كفايه يا جيلان.. أنا عرفت كل حاجه.. وعارف أن ونس والباشا متجوزين من فتره !!
رفع ادم حاجبه وصفر بإعجاب وهتف : ابوك ده لعيب والله.. مثلي الاعلي بعد القائد بتاعي ايام ما كنت في الخدمه !!
ضحك سليم بتهكم واردف: طيب ادخل يا اخويا ..ادخل !!
هز آدم رأسه ودفع جيلان المتخشبة بصدمه يعلوها الذهول التام ..وتحرك الي الغرفه ..
وسليم استقل المصعد ..
توقفت قبل الوصول إلي الغرفه ولكزته في صدره وهتفت من بين فكيها : عجبك كده!! لو سليم شافنه كانت هتبقي مصيبه !
حك جانب ذقنه الناميه وغمغم : مصيبه مره واحده؟ متخفيش يا جيلان أنا فتره صغيره كده برتب حاجه في دماغي وهتقدملك !حتي تكوني خلصتي من السنه دي ودخلتي الجامعه ..
رفعت اصبعه بتحذير وقالت: لحد ما ده يحصل متقربش مني تاني يا آدم ؟!
رفع حاجبه بدهشه وقبض علي إصبعه وغمغم بحسم : صباعك يا بنت الباشا ميترفعش في وش تاني!!
أنا أعمل اللي يجي علي مزاجي انت بتاعتي اصلا ..
حاولت سحب أصابعه وغمغمت : آدم بطل جنان الله سيب ..
اقترب منها وخطف شفتيها بقبله عميقه لكنها خاطفه ونظر لها بتحدي وغمغم : قدامي يا بيضا!!
رمشت بعينيها وغمغمت بغيظ : آدم ..
مرر إصبعه فوق شفتيها وغمغم: كلمه تاني هعتبرها دعوه غير مباشره عشان ابوسك !!
وضعت يدها على فمها وهرولت الي الغرفه وهي تضرب الأرض بحنق.. وهو يضحك عليها بعبث وقح !
دلفت جيلان الغرفه كالعاصفه وغمغمت بدموع وهي تلقي بنفسها بين أحضان والدها ..والذي ضمها بحنو وقبلها اعلي راسها: بابي سلمتك يا حبيبي.. ايه اللي حصل ؟!
ربت علي راسها بحنو وغمغم : متخفيش يا بابا أنا بخير
اقترب ادم وهتف : سلمتك يا باشا ..الف بعد الشر يا غالي !
ابتسم جبران وغمغم : الله يسلمك يا ادم !!
نظر الي جيلان وعاد خصله من شعرها خلف أذنها وقال: بلاش تجيبي سيره لعمتو يا جيلان.. بلاش تخضيها!!
هزت جيلان راسها بالنفي وردت: بس هتزعل مني يا بابي!!
ربت علي وجنتها وقال: لا متخفيش.. أنا كلها الليله دي وطالع !
هزت راسها وهمسة ؛ اللي تشوفه يا بابي ..
نظرت له بدهشة ممزوجه بالتوتر وقالت: بابي هو سليم عرف بجوازك من ونس؟!
هز رأسه وتمتم: ايوه من اسبوع.. اتعصب شويا وبعدها اتقبل الوضع واستوعب !!
رفع ادم حاجبه بدهشه وغمغم: اسبوع عشان يتقبل الوضع ليه ؟؟حضرتك اتجوزت علي سنة الله ورسوله مغلطش يا باشا !!
اوما جبران برأسه وقال: سليم معذور ..صعب عليه يتقبل فكره ست تانيه مكان أمه.. هو عاش معها! وحس حنيتها ..وداق حنانها !!
ووجعه فراقها وعلم فيه !! عشان كده كان صعب بالنسبه له.. بس المهم فاق قبل فوات الاوان !!
اوما ادم برأسه ورد : عندك حق يا باشا ..سليم كان تايه في الاسبوع اللي فات.. وحتي كلام مكنش بيتكلم ..بس انا كنت فاكره زعلان من مراته في حاجه.. ومحبتش اضغط عليه !!
نظر له جبران وقال : خليك جنبه يا آدم ..انت جدع وانا مطمن علي سليم وانت في ضهره !!
ضحك ادم بمرح وقال: انا في ضهره طبعا !!
نظر الي جيلان ورفع حاجبه وغمغم: وعايز ابقي قريبه كمان يا باشا !!
جحظت عينين جيلان بذهول واشاره الي ادم بتحذير وابتسم جبران وغمغم: لسه بدري يا آدم !
تراجعت جيلان بتوتر وخجل وقبضت على فستانها وابتسم ادم وغمغم : حاضر.. وامري لله !!
…………….
كانت الساعة تقترب علي منتصف الليل… والهدوء يخيم على شوارع القاهرة، إلا من ذلك الظلام الذي يزحف كالهلاك نحو فندق الصفوة..
الفندق الفخم الذي يملكه حازم صفوان… لا يعلم أن نهايته بدأت تكتب بالفعل، بأيد لا تعرف الرحمة…
في إحدى الزوايا الخلفية للفندق، توقفت سيارة سوداء، وترجل منها رجال بملابس داكنة، وجوههم لا ترى، فقط العيون، تلمع بقسوة الذئاب الجائعة….
في دقائق، كانت الأجهزة قد زرعت، والأوامر نفذت بدقة، وتمام العملية أُرسل إلى من ينتظر في الجهة الأخري في المستشفى …
داخل غرفة جبران الباشا ..
جلس جبران على السرير، ذراعه الأيمن مربوطة بجبيرة، آثار الجرح بادية على جبهته ، لكن عينيه؟ جمر مشتعل. اهتز هاتفه … نظر له ببرود، ثم أجاب..
هتف من الطرف الآخر : تم يا باشا… الفندق مفيهوش غير ربع ساعه ويبقي كوم تراب !!
ابتسم جبران ابتسامة خفيفة، وقلبه يغلي… ثم ضغط على رقم حازم صفوان …
في جناح حازم صفوان ..
جلس حازم علي مكتبه في جناحه الخاص، ينفخ دخان سيجاره بثقة، حتى رن هاتفه… نظر إلى الشاشة وتجمد بأرضه وغمغم : جبران الباشا!
رفع الهاتف وغمغم : خير يا باشا؟ اتصلت تطمن عليا بعد ما خسرتني ملايين ؟؟
أتاه صوت جبران هادئ… مرعب: قوم امشي من الفندق يا حازم !!
نهض حازم وهتف بحنق : نعم؟!
هز رأسه ببرود حاد : قدامك ربع ساعة، تخلي الفندق، بكل اللي فيه…
تحرك حازم الي الخارج بجنون وصرخ : إيه الهبل ده؟ إنت بتهددني؟
زفرا جبران دخان كثيف من فمه وغمغم ببرود قاتل: أنا ببلغك… عشان حاجتين..
أولهم… الناس اللي في الفندق ملهمش ذنب في وساختك!!
وتانيهم… إنت يا صفوان، موتك لازم تبقى بإيدي…
لازم أبص في وشك وانت بتتحول لتراب، مش هسيبك تموت بسهولة… حسابنا لسه مخلصش…
سكت لثانية… ثم همس بجليد:عدادك بدأ يا حازم… الساعة بتجري !!
وقبل أن يرد، أغلق جبران المكالمة.
ركض حازم فجأة، وقلبه يدق بجنون، وصرخ بأعلى صوته:كمال! كمال إلحقني! لازم نخلي الفندق حالا!! فيه قنبلة!!
سادت حالة من الجنون…والهرج ملأ الإرجاء ورن أنظار الحريق وركض الجميع برعب وفزع في كل اتجاه، أصوات صراخ ملأت الفندق والعمال يسحبون النزلاء، وكمال يصرخ في الأمن:فضوا المكان! بسرعة!!!!
وخلال دقائق… كان الفندق خاليا، الا من الصمت
لحظات وكمال وحازم ينظرون إلي الفندق بعدم تصديق حتي دوي صوت انفجار زلزل الأرض…
واشعر السماء بنار ولهيب وركام يتطاير،
سقط حازم على الأرض من الصدمة، وكمال يرتجف بجانبه
مر وقت وانتهي الانفجار لكن النار ظلت تعلوا وتعلوا حتي بلغت عنان السماء…
وقف حازم مذهول، جحظت عينيه وخرج صوته يرتجف :جبران… ده جبران إبليس… ده مش بني آدم… ده هيخلص علينا…
وفي المستشفى…
جلس جبران يغمض عينيه للحظة، ثم فتحها، وقال :
دي أول ورقة في البدايه يا حازم … الجحيم لسه جاي جاي ..
………………………………..
في فيلا سليم
جلست دمع والظلام يلف قلبها قبل جسدها ..
نظرت حولها بعيونها فارغة، مملوءة بالألم…
كان قلبها يئن، وعقلها يغرق في بحر من الندم….
كلما تذكرت صدمه ونس وكسرتها ،
تلك الونس التي كانت أكثر من أخت لها …
كانت ونسها وانيست وحدتها كانت كل غالي عليها
تذكرت كيف ضحت بعمرها من أجلها… كانت تحمل الأعباء، وكانت تخفي الجراح خلف ابتسامة،..
وتعمل ليل نهار من أجلها. كيف؟ كيف يمكن لها أن تجرح من أحبتها بهذه الطريقة؟ كيف تظن أنها قد تتحمل كل هذا الألم؟
كل كلمة قالتها لونس كانت كخنجر في قلبها…
كانت تدرك الآن أنها خذلتها، خذلت حبها، خذلت كل تضحية قدمتها من أجلها.. خذلت امها ومن ربتها وشقيقتها ..
لكن الآن…
كل شيء قد انتهى. شهقت وهي تشعر انها تحتضر من الندم، والكلمات التي قالتها كانت لا تغتفر ..
لم تشعر بنفسها وهي تقترب من المطبخ…
اقدامها تنهار ويدها ترتجف، وعقلها مليء بالظلام. اقتربت وقبضت على السكينه، كأنها تمسك بحياتها التي تتناثر بين يديها…
شعرت أن النهاية هي الحل الوحيد للراحة، للغفران، وللتوقف عن شعورها بالذنب…
لكن، قبل أن تتمكن من فعل أي شيء، شعرت بيد قويه تقبض على يدها….
نظر لها بذهول،وقلبه يكاد يخرج من صدره، عينيه تحمل خوفا لم يره من قبل.وغمغم بصوت مرتجف : دمع!
نظرت له وكأنها تلقت صفعه قويه علي وجهها وجسدها يرتجف بقوه.. لكنها دفعته بقوه وصرخت بالم: جاي ليه؟!
بعد ايه! خلاص كل حاجه ضاعت!! ونس ضاعت !!
وانا ضعت .. وانت كمان .. كل حاجه اتهدت فوق دماغي !!
كانت كلما تذكرت ونس.. صوتها .. نحيبها.. دموعها كسرتها .. وخذلانها … كان قلبها يصرخ بمراره لم تعرفها من قبل ،
ضمها سليم يحاول ايقاف هذا الجنون ، وتمسك بها، في محاوله أن يعيد لها الأمل، لكنه كان يدرك أن القلوب الجريحة لا تشفى بسهولة…
وهتف بحذر : دمع.. اهدي! واسمعيني …
تخبطت بين يديه وصاحت بغضب مكبوت ودموعها تنهمر بشده : أنا زااي قلت لها ده كله ؟!
إزاي قدرت أقول كل الكلام دي لونس؟! ازاي اقول لامي قبل ما تكون أختي…
ونس… اللي شالتني سنين، شالت همي، ودفنت شبابها عشان أعيش…
ونس اللي اشتغلت في كل حاجه!! ورضيت بالإهانة والذل عشان تصرف عليا…
ونس اللي لو خلفت في يوم مش هتفرق بيني وبين بنتها !!
أنا ازاي بقيت بالشكل ده؟
ازاي بقيت أنانية للدرجة اللي أشوف فيها فرحتها تهديد؟
طلعتها شيطانة وأنا عارفة إنها ضحية!!
أنا اللي جرحتها…أنا اللي خذلتها…أنا اللي كسرتها…
أنا اللي شيطانه يا سليم.. أنا مش ونس !!
ارتجف جسدها، وارتفعت شهقاتها المكتومة، حاول سليم الاقتراب منها وقال : اهدي كل حاجه هتتصلح يا دمع.. والله كله هيتصلح !! ونس بتحبك ومش هتزعل منك ..
صرخت بالم وانهيار وكان روحها تنازع بداخلها بعنف وصاحت : لا يا سليم أنا مش قادره اسامح نفسي!!
ازاي هي تسامحني؟؟ ازاي ابوس ايدك يا سليم !!
سيبني اموت …
يمكن… ده الحل يمكن ده التمن اللي لازم أدفعه…
يمكن الألم اللي هسيبه ورايا يبقى أقل من الندم اللي ساكن جويه !!
صرخ مقابل لها بجنون وهتف: ده اسمه جنان.. فوقي يا دمع !حرام عليكي.. بدل ما نصلح غلطنا نجرحهم بمتنا!! اكتر تفتكر ونس هتعيش ازاي بالذنب ده؟!
هزت راسها بهستري ودموعها تسيل بغزارة، حتى تلاشى كل شيء حولها…الا صوره ونس وغمغمت : أنا وحشة يا سليم… أنا شيطانة… أنا جرحت أختي اللي ضحت عشاني… كرهت نفسي… أنا مش قادرة أعيش وأنا السبب في كسرها… أنا خذلتها يا سليم خذلتها…
اقترب منها وقبض علي ذراعيها وهزها بقوه لعلها تفيق وهدر : اهدي… اهدي واسمعيني! إنتي مش وحشة، إنتي موجوعة، ومكسورة، وزعلانة من نفسك… بس ده مش حل! أنا روحت وصلحت كل حاجه واعتذرت لبابا وونس وكل حاجه هتتصلح و..
قطعته بذهول وصرخت وهي تضرب صدرها وصاحت : وأنا دفعت التمن غالي! خسرتها… وجرحتها… عشان مين؟! عشانك!!!
وفي الآخر؟ تروح وتصلحهم وتعتذر ؟ طب وأنا؟ أنا اللي خسرت كل حاجة!
بلع لعابه بصعوبه وقال: أنا… أنا غلطت… بس كنت خايف أخسره… أبوي كان هيموت يا دمع…
تراجعت بذهول وغمغمت بصوت مكسور : بس أنا مت خلاص… وانت اللي دفنتني بإيدك!!
نظر لها بصمت قاتل ووجع غير قابل للشرح هزت راسها بالنفي وركضت الي الباب وصرخت : أنا هسيب البيت ده!! مش طايقه مش قادرة أكمل …
نظر لها بذهول وركض خلفها وقبض على ذراعها وهدر بحزن ووجع : دمع استني! بقولك استني يا قلبي
مش هتمشي كده! مش بعد ما عرفتك، وفهمتك، وحبيتك!
أنا غلطت آه، بس مش هسمحلك تكسري قلبي وتمشي!
صرخت بالم: أنا اللي اتكسرت! أنا اللي اتقهرت! أنا اللي رجعت أختي لورا بسببك! وزي ما طلبت منها تهد حياتها وتطلق من جبران عشانك ههد حياتي عشانها !!
اقترب منها وتمسك بها وهتف بندم : لالاا متقليش كده أنا آسف… آسف يا دمع… والله آسف! بس ما تسيبينيش أنا مليش غيرك انتي كل حياتي !!
حاولت سحب ذراعها بعنف وهدرت : لا ميهمنيش يا سليم.. انت متهمنيش دلوقتي ..طلقني وسيبني في حالي !!
جحظت عينيه بصدمه وهمس : ايه!! انتي بتقولي ايه يا دمع ؟! بقلك هصلح كل حاجه ..هنروح وهنعتذر وانا متاكد هيسمحونا ؟!
فتحت دمع فمها وتوقفت علي صوت نظلي المغلف بالذهول : جبران… وونس متجوزين ازاي؟!
ووووووووو
……………………
ساحرة القلم ساره احمد