اصفاد العشق الهوس (الفصل السابع والثلاثون)

حبيبتي…
مهما ابتعدتِ عن نبضي،
ومهما أوغلتِ في التجاهل أو الغياب،
ستظلين خيطًا خفيًّا منسوجًا في قلبٍ لا يعرف سواكِ،
ستبقين القصيدة التي لم تُكتب،
والأنشودة التي لا يُغنيها سواي.
لا حاجة لكلمةٍ من شفتيكِ،
فعيناي تنطق بالشوق،
وعيناكِ تقرآن بصمتٍ لا يجيده سوى العاشقين.
وإن مررتِ على حروفي المتناثرة،
فارفقي بقلبي، وألقي عليه السلام،
فكلمةٌ صادقة منكِ…
تعادل ألف لقاء،
وتُعيد لروحي اتزانها المفقود.
صرخ حسام بصوت مكتوم لكنه رغم الألم حاول أن يتماسك ..وعيناه تلمعان بمكر خفي وغمغم : فاكر إنك كسرتني؟ انت مش عارف أنا مخطط لإيه ؟؟
كاد جلال يرد لكنه فجأة سمع صوت طقطقة خافته وكأن شيئا ما تم تفعيله.. في لحظة واحدة لم يعد هناك وقت للتفكير… انفجار مدو هز المكان.. ودفع بالجميع إلى فوضى الموت ..وارتفع الدخان في الأجواء وتحول المكان إلى ساحة حرب فجأة …
شعر جلال بجسده يلقى للخلف بقوة عاصفة ..
ورأسه ارتطم بالحائط.. ورنين في أذنيه حجب عنه الأصوات للحظات.. ضغط ع رأسه وهو يحاول أن يستعيد تركيزه ….
سقط جسد حسام بجانب باب الفيلا.. ورفع رأسه وهو يشعر بطنين ف أذنيه.. وزحف الي الخارج بصعوبه …
رفع جلال رأسه بصعوبه ..وهو يبحث عن حسام ..
لكنه اختفى وسط الدخان والهرج والمرج …
خرج حسام وهو يركض بخطوات مضطربه …
ف نفس اللحظه دلفت زاد بالسياره الي الحديقه…
شهقت برعب عندما وجدت الفيلا مدمره بالكامل ..
انهمرت دموعها بقهر وصرخت وهي تترجل من السياره وتصبح بهستريه: جلال!! جلاااااااااال ….
لكن قبل أن تخطو خطوة أخرى.. صرخت بالم عندما قبض حسام علي شعرها بعنف… هدر وجذبها نحوه بعنف : مش قلتلك اغبي واحده شوفتها ف حياتي !!
سحبها إلى السيارة، غير عابئ بصرخاتها.. وضرباتها التي حاولت أن تبعده بها …
فتح باب السيارة الخلفي ودفعها إلى الداخل بقوة ..ثم أغلق الباب بقوة جعلت الزجاج يهتز …
دون أن يضيع لحظة قفز إلى المقعد الأمامي أدار المحرك، وضغط على دواسة البنزين بجنون،
لتنطلق السيارة بسرعة جنونية بعيدا عن الفيلا التي تحولت إلى ساحة قتال ..صاح أحد الرجال وهو يطلق النار علي سياره حسام : حسام خطف زاد !!
كان هذا آخر ما سمعه جلال عبر اللاسلكي ..قبل أن يندفع خارج الفيلا كالمجنون.. وهو يبحث علي السياره وقفز بها…
وانطلق وراءهم بسرعه وصوت المحرك يزمجر ف الهواء بجنون …
صرخ جلال عبر اللاسلكي: سامح ومراد انتو فين ؟؟
ورايا بسرعه !!
لحظات وانسحب مراد وسامح من وسط الرصاص المتطاير بشراسه… وكانت سيارتان اخريان تلاحقانهم واضواؤهما تلمع ف الظلام كالعيون المفترسة…
ضرب جلال المقود بغضب ساحق : ليه؟! ليه يا زاد.. مفيش فايده فيكي !!
هدر مراد بغضب : جلال اهدي وركز.. احنا مش هنسببه لو لآخر الدنيا !!
صاح سامح بغضب: جلال مراتك هترجع لو علي جتتنا يا صاحبي!!
كانت المطاردة جنونية .. والمحركات تزمجر بعنف والعجلات تحتك بالأسفلت بقوة، وأصوات المكابح تشق الصمت …
قاد حسام السياره بجنون وهو يحاول أن يتفادى الطرق الرئيسية ..ويتجه إلى الجبال حيث الطرق الوعرة قد تمنحه فرصة للهروب…
وزاد تضربه وتخدشه بكل قوتها وتصيح بهستريه: نزلني يا مجنون ..يا مريض يا بن الكلب !!
قبض حسام علي راسها من الخلف.. وضربها بقوه ف مقدمة السياره أكثر من مره حتي سكنت حركته قليلا ..
وقاد السياره بجنون يحاول الهرب والنجاه من جلال ورفاقه !!
لكن جلال ورفاقه لم يكونوا أقل منه جنونا .. بل كانوا يطاردونه كصيادين متعطشين للدماء …
صرخ جلال بغضب : مش هتهرب مني يا *!! وضغط بقوة على دواسة الوقود ليقترب أكثر فأكثر من سيارة حسام…
لكن فجأة وجدت السيارات نفسها في نهاية طريق جبلية لا يوجد أمام حسام سوى جرف شاهق…
فرمل سامح ومراد سياراتهما بسرعة، محاصرين حسام من الخلف بينما جلال أوقف سيارته أمامه مباشرة تاركا مسافة بسيطة بينهما…
الطريق انتهى لا يوجد مفر… الموت أمامه وخلفه أيضا ..
قبض حسام علي المقود وهو يلهث .. بينما زاد بجانبه تحاول رفع رأسها وهي تشعر بدوار يجتاح راسها …
ترجل جلال من السياره وصرخ بصوت صارم مدويا شق الهواء : حسام استسلم الطريق انتهاء !!
تشنجت أصابع حسام على عجلة القيادة ..وعينيه كانت تشتعل بجنون محموم ..وجهه متعرق.. أنفاسه متقطعة،
لكن رغم كل ذلك ابتسامة مهووسة شقت وجهه ..وهو ينظر عبر المرآة إلى جلال الذي كان يقترب يكاد يقتله بنظراته ..رفع سلاحه و قبل أن يقتله بيديه..
وصاح : فاكر إنك حاصرتني! فاكر إنك مسكتني ؟؟
همس بجنون بينما قدمه تضغط إلى دواسة البنزين : لا يا جلال.. أنا اللي هحرق قلبك بجد !واموتك بحسرتك…
شهقت زاد وصرخت بزعر وهي تحاول منعه : حسام لاااااااااا…
لكن بلا جدوى في ثانية واحدة ضغط حسام بكل قوته على دواسة الوقود ..واندفعت السيارة بجنون نحو حافة الجرف…
صرخت زاد.. وجحظت عينيها برعب قاتل… وهي تشعر بجسدها يندفع للامام بعنف… والأرض تختفي أسفل السياره ..وقلبها يكاد ينفجر داخل صدرها وصرختها تجمدت ف حلقها…
تجمد جلال برعب وكان الزمن توقف… وجحظت عينيه بفزع ..وكأن روحه تسحب من جسده ..وهي يري السياره تسقط ..وكأن أحدهم نزع قلبه من صدره وتركه ينزف حيا ….
اختفي الدم من وجهه ..وصدره ارتفع بعنف كأن الهواء.. رفض دخول رئتيه .. وصرخ كوحش حبيس ..صرخه كطعنه .. كنحيب ..كعذاب نقي :زاااااااااااااااد!!!!!!…..
سقطت السياره وتدحرجت بسرعة مهولة.. وتحطمت على الصخور ..وزجاجها تناثر في الهواء كالشظايا.. وكل شيء اختفى وسط الظلام والدخان…..
لم يشعر جلال بجسده وهو يركض ويلقي نفسي وسط الهلاك …
لم يشعر بأي شيء سوى أن قلبه يسقط مع السيارة…
يحترق معها ..ينفجر مع كل قطعة تتحطم منها…
لم ينتظر… لم يلتفت… لم يفكر…
في اللحظة التي اختفت فيها السيارة بين الصخور، لم يكن هناك شيء يمكن أن يوقفه …
صرخ وكأن روحه تنتزع منه بالقوه وكأن دمارا ينفجر ف عروقه : زاااااااااااااااااد!!!!
كان يتدحرج بين الصخور بلا تفكير …يندفع بجنون على المنحدر الصخري …
وقدماه تنزلق فوق الحصى، ويديه تمزقان الهواء بحثا عن توازن لا يريده… كل ما يريده هو الوصول إليها…
صرخ سامح بغضب : جلال استنى يا مجنون!!
لكنهم أيضا لم يتوقفا ..لم يترددا للحظة…
بل اتبعوه باندفاع علي المنحدر … كأن حياتهم لا تساوي شيئا أمام أن يتركوه يواجه هذا الجحيم وحده….
كان الهواء مشبعا برائحة الزيت المحترق… شظايا الزجاج متناثرة في كل مكان… والدخان يتصاعد من مقدمة السيارة
التي كانت مقلوبة على جانبها بين الصخور…
وكأنها جثة تنهار ببطء قبل أن تتلاشى بالكامل….
اندفع جلال نحو الباب وضرب الزجاج المحطم حتي نزف كفيه لكنه لا يشعر بأي ألم وهو يريها بين فك الموت …
صاح بجنون : افتحي عينيكي يا زاد… ردي عليا يا روحي !!
حطم الباب وهو يرها ممددة في المقعد المجاور لحسام، وجهها شاحب كالموتى… وشعرها ملتصق بوجنتيها بفعل الدماء ..وجسدها الصغير منكمش بطريقة جعلت جلال يشعر أن روحه تتمزق وهو يراها بهذا الشكل …
صرخ مراد وهو يضرب الزجاج بقوه : جلال! العربية هتنفجر بسرعه ! بسرعه …
هدر سامح وهو يركل الباب بعنف شديد: هنطلعها يا جلال هنطلعها !!
لكنه لم يسمع… لم يهتم… لم يعبأ بأي شيء سوى أن يخرجها …
ضرب بقبضته الدامية وأمسك بالمقبض وجذبه بكل قوته ..حتى انتزع الباب انتزاعا …
ومع أول لمسة منه تأوهت زاد بأنين ضعيف بالكاد ارتعشت شفتيها ..لكنه سمعها، سمعها رغم كل الدمار من حوله… وكأنه يسمعها بقلبه …
ضمها بحنو بالغ وهمس : أنا هنا يا روحي أنا جيتلك، أنا مش هسيبك، سامعاني!!
مرر يده تحت جسدها ورفعها بين ذراعيه، وكأنها أثمن شيء امتلكه في حياته.. وركض بها.. ركض بكل ما يملك من قوة.. ركض وكأن الجحيم يطارد أنفاسه… وفي اللحظة التي ابتعدوا فيها عن السيارة انفجرت …
صرخ مراد وسامح وسط دوي الانفجار : جلال!!!
سقط أرضا وهو يشعر بحرارة النيران تقترب منه سقط وهو يحاوطها بجسده.. يحميها من النار كما يحمي روحه …
لحظات ودوي انفجار آخر.. دوى في المكان وسحابة دخان سودا غطت السماء… وأشلاء السيارة تناثرت في كل اتجاه …لكن جلال لم يتركها…
بقي فوقها وجسده يصد عنها كل شيء، ويضغطها علي صدره أكثر كأنه يحاول أن يعيد إليها روحها بلمسته، بحضنه، بقلبه الذي يكاد يتوقف…
أخيرا خمدت النيران ..لكن قلب جلال ظل يحترق!
ببطء رفع رأسه وصدره يعلو ويهبط بأنفاس ثقيلة، وجهه مغطى بالدماء والغبار، وعيناه تائهتان بين الواقع والكابوس…
نظر لها بذهول وهو لا يشعر بانفاسها الواهنه ولا ارتجاف شفتيها الضعيف …
بصوت مخنوق همس وكأنه يقطع وعدا أمام الله نفسه:مش هسيبك !! مش هسيبك أبدا يا زاد….
ضغط ع صدرها وجحظت عينيه وهو لا يشعر بانفاسها ولا نبضها وصاح صوت محطم متحشرج كأنه هو الذي يحتضر وليس هي : زاد ! زاد لا مش هتموتي .. مش كده، مش وانتي في حضني يا زاد !!
رفعها قليلا بين ذراعيه ضرب خدها برفق.. أصابعه تحيط بوجهها كأنه يحاول أن يجبرها على البقاء أو أن يمنع روحها من الرحيل…
لكن زاد لم تتحرك كان جسدها بلا مقاومة، بلا روح
ضمها وصرخ بجنون : لاااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ..
وضعها على الأرض ..وجسده يرتجف رعبا لم يشعر به من قبل وصاح : حرام عليكِ يا زاد، حرام عليكي…
افتحي عينيكي، اتكلمي، اشتميني، زعقي فيا، قولي أي حاجة… بس ما تسكتيش كده، ما تخليش قلبي يوقف جنب قلبك ..انتي حياتي وانتي عارفه !!
بجنون وضع كفه على صدرها وضغط بخفة يحاول أن يشعر بأي نبضة بأي حركه وصاح : سامح الإسعاف بسرعة!!
ضغط أكثر بقوه وهو يحاول تنشيط قلبها ضربها مرة أخرى وهدر : مراد زاد قطعت النفس في إيدي اعملوا حاجة !!
ضغط مره ثم مرة ثالثة ثم بكل قوته، كأنه يحاول أن يعيد تشغيل قلبها بيديه!
تحرك سامح ومراد وهم غارقين في طلب الدعم والضغط على الأجهزة اللاسلكية، أصواتهما مرتعشة على غير العادة ..حتى هما لم يعرفا كيف يتعاملا مع هذا الرعب …
لأول مرة يشعران بأنهما عاجزان أمام شيء يقتل جلال أمام أعينهما دون أن يلمسه …
لكنه لم يكن مستعدا للاستسلام لم يكن مستعدا لأن يخسرها…
ضغط بقوه ومال علي فمها التقط أنفاسها المختفية، وزفر في جوفها الهواء الذي رفضت أن تأخذه..
وهدر كوحش حبيس: هتسمعيني غصب عنك.. هترجعي لي يا زاد غصب.. عن الدنيا كلها!!
مرة…اثنتين…ثلاثة…لكنه لم يشعر بأي استجابة
رفع رأسه ونظر إلى وجهها للحظة ..ثم فقد السيطرة تماما .
وضرب صدرها بعنف مرة أخرى، وأخرى، وكأن قلبه هو الذي ينبض لها، وكأنه يرفض أن يسمح لموتها بأن يكون حقيقة وهدر : زااااااااااااد مش هتموتي زااااااااااد !!
ثم فجأة شهقت زاد كانت شهقة ضعيفة مكسورة لكنها كانت هنا.. وجلال لم يكن يحتاج أكثر من ذلك!!
امتلأت عينيه بالدموع رغما عنه والصق جبينه بجبينها ونفسه الساخن اختلط بأنفاسها البطيئة.. لكنها تتنفس وغمغم بشهقات متتاليه: الحمد لله… الحمد لله… الحمد لله ..
حملها بين أحضانه وتحرك بها الي سيارة الإسعاف التي تقترب وخلفه سامح ومراد وهمس : أنا جنبك مش هسيبك سامعاني يا حياتي !!
……………
صباحا ف المستشفى
دلف أيهم وهو يلتهم الممر بخطواته الحارقه.. ضرب باب المكتب بعنف ودلف… نهض كامل الصيرفي وهتف : ايه الهمجيه دي يا بني ادم انت؟! فاكر نفسك فين ف ذريبه !!
هز أيهم رأسه بتهكم واردف ببرود : أنا عارف نفسي فين كويس اوي ..بس انت عارف ؟!
ضحك بسخرية وقال : طبعا ف ملكي.. ف الاسهم بتوعي !!
أخرج أيهم شيك من جيب سترته وعقد تنازل وغمغم بحده : اه قصدك اللي هتتنازل عليهم دلوقتي !!
ضحك كامل بصخب وهتف: لا بجد ضحكتني ..طيب انا اشتريته ليه لما اتنازل عنهم ؟!
اقترب منه ايهم بغضب وقبض على ياقة سترته وهدر بفحيح: اشتريتهم عشان تحول المستشفى من مكان محترم لمكان مشبوه لكل العمليات اياه !!
نظر له بعبث وقال: فكرني مش عارف ؟!
بلع لعابه بصعوبه وتمتم بتلعثم : دي كلها اشاعات ولو تقدر تثبت ايه اللي مانعك ؟!
ضحك ايهم ضحكه بارده مشبعه بالسم وأخرج هاتفه وفتحه أمام وجه كامل وغمغم : بكام الف بس اقرب الناس خانوك وجابوا لي فيديوهات لعمليات مشبوهه توديك وراء الشمس باقي عمرك !!
تراجع كامل بوجه شاحب وعينيه تلمع بشرر وهدر بفحيح: مين اللي جبلك الفيديو ده !!
أصدر ايهم صوت نافيا وغمغم : تؤتؤتؤ عيب عليك هو أنا ناقص زيك !!
وضع العقد والشيك أمامه وغمغم بتحذير : امضي ولا أشير ؟واللي ميشتري يتفرج يا دكتور ؟!
هز رأسه بالنفي… ومسك القلم وخطي امضاءه بايد مرتعشه علي وشك الجنون ..وسحب ايهم العقد.. وهدر بفحيح: ودلوقتي بره! ولو فيك عقل متورنيش وشك تاني…
مسك الشيك فسحبه ايهم منه وهتف : ارجع للي شيلوك وخد فلوسك منهم !!
صاح كامل بجنون : يعني ايه؟! هتنصب عليا ؟!
هز أيهم رأسه بتهكم واردف: اه !! اصلا أنا نصاب انت متعرفش ؟!
صاح بجنون : هبلغ عندك !!
دفعه ايهم بغضب شديد وهتف : روح اثبت يا حلتها..
بره اطلع غور ف داهيه !!
خرج كامل وهو لا يري أمامه من الغضب وهو يتوعد الي حسين ابو الفضل باشد انتقام …
تراجعت وتين وهي تري هذا الحقير يخرج من المكتب بغضب عاصف ..وقطبت حاجبه بدهشه.. ودلفت الي ايهم وأغلقت الباب وقالت : ايه ده ماله ده يا ايهم ؟!
اقترب منها ايهم وحاوط خصرها ..وضمها بحضنه ورفعها بين ذراعيه.. ودار بها وسط المكتب وهو يصيح بفرحه : خلاص يا قلب إيهم وعمره !!
ضمته بلهفه ودموعها تنزل ببطئ وتمتمت: الحمد لله يا قلبي ..الحمد الله !!
انزلها برفق ومسح دموعها برفق وهمس: مش عايز اشوف دموعك حتي لو بفرحه مفهوم !!
اومات برأسها وقالت: مفهوم! طيب ممكن تيجي معايا عند ماما عشان قلقانه ولازم نطمنها …
اوما لها وقال: طيب بس مش هنتاخر عشان عندي شغل ..
مسكت يده وقالت: حاضر يلا !
……………
أمام منزل بدريه
ترجل ايهم من السياره وسحب يدها ودلف المنزل ثم الدرج ودق الباب لحظات وفتحت بدريه وهلل وجهه بالفرحه وهتفت : يا سلام يا ولا ..لسه فاكر خالتك بدريه ؟!
ضحك بمرح ودلف وخلفه وتين وقبلها ع راسها وغمغم : وحشتيني اوي يا خالتي !!
مسحت ع صدره وقالت: أن شاء الله متشفش وحش يا ضنايا.. كده يا ولا ..دانا بقول عليك ابن قلبي تعمل فينا كده ؟!
قبل يدها وهتف : يا خالتي مش انا قلتلك ف التلفون اني بربيها بس.. ومستحيل استغني عنها !!
جحظت عينين وتين وهتفت : انتو كنتوا بتكلموا بعض ؟!
ضحكت بدريه وهتفت: لما رجع مصر بالسلامه كلمني عشان يطمن عليكي يا خيبه ..
لكزته بقوه وصاحت: امال كنت بتعمل فيا كده ليه يا رخم انت ؟!
ضحك بمرح وقال: كنت بختبرك يا قلبي.. اشوفك تحاولي لحد امتي؟ وهتستحملي وتحلي مشكلتك ولا تهربي ؟!
هزت راسها بالنفي وغمغمت: يا سلام وانا اهو حليت المشكله ورجعتك غصب عنك ..
ضحك بمرح وغمز لبدريه بعبث وقال: ماشي.. نمشيها غصب عني!
مر الوقت ووضعت بدريه وجبه الافطار وضحكت بمرح وقالت: يعني الحمد لله مشكلة المستشفى اتحلت يا ولاد !!
اومات وتين وهتف ايهم : الحمد لله يا خالتي ..
نظر الي وتين وغمغم بفخر : كله بسبب وتين قلبي !!
ابتسمت برقه ومسكت كوب الشاي.. ولكنها شهقت بفزع عندما شعرت بنخزه قويه ف قلبها.. وسقط الكوب من يدها !!
صاح ايهم بغضب وسحبها بسرعه بعيد عن شظايا الكوب وهتف : حاسبي يا وتين !!
نهضت بدريه بسرعه وهتفت بقلق : مالك يا بنتي الكوبابه كانت ف ايدك ايه جري يا قلبي!!
نظرت لهم وتين بتشوش مخلوط بالفزع والم قلبها يزيد ونهضت بسرعه وتحركت الي باب الشقه وهتفت : أنا عايزه اشوف زاد !!
قطب ايهم حاجبه ونهض بخطوات سريعه وقبض على ذراعها وهتف : ف ايه يا وتين؟ زاد تلاقيها لسه ما راحت المستشفى لسه بدري !!
هزت راسها بالنفي وشحب وجهها بشده وغمغمت بدموع: لا يا ايهم ..زاد فيها حاجه !انا حاسه تعال معايا ارجوك …
انتقل احساس وتين الي بدريه وشعرت بقلبها يتفتت بالم وسحبت حجابها وغمغمت بدموع: أنا جايه معاكم !!
نظر لهم ايهم بذهول وسحب سترته وهتف : طيب يلا تعالوا …
………….
في سيارة الإسعاف…
كان كل شيء من حوله ضباب باهت لا شكل له. أصوات الأجهزة، صفارات التنبيه، أنفاس المسعفين ، حركة العجلات السريعة… كلها تفاصيل تحولت لصخب مشوش لا يساوي شيئًا أمام صمتها هي….
زاد، التي كانت دوما تشعل الكون بنظرتها، بضحكتها وعفويتها ،وصخبها .. ممددة أمامه كجثة ترفض الاعتراف بالموت….
انحنى فوقها، وجهه على بعد أنفاس من وجهها الشاحب، يده ترتجف فوق يدها الباردة، وصوته مبحوح بالكسر والذعر: ما تغمضيش عينيكي يا زاد… سامعاني؟ ما تناميش بالله عليكي، والله ما أقدر… ما أقدرش لو جرالك حاجة…
كانت جفونها ترف بخفة، كأنها تحاول أن تقاوم الغيبوبة، كأنها تسمعه من بعد سحيق، كأن صوت وجعه هو الحبل الأخير الذي يربطها بالحياة…
شد على يدها أكثر، كأنها إن أفلتت، لن تعود:ما تسبيش إيدي… دي حياتي فيكي، فاهمة؟ انتي اللي بيتنفس بيك صدري يا زاد ، ماعرفش أعيش من غيرك حتي لو انت وجعي ..
رفع عينيه إلى وجهها، بحثا عن أي ومضة، أي رفة رمش، أي إشارة أنها ما زالت هنا، معه. لكن سكونها كان قاتلًا.
ابتلع غصته، وانفجر فيه صوت لم يسمعه من قبل. صوت رجل اعتاد السيطرة والجبروت، لكنه الآن لا يملك إلا الرجاء:أنا آسف… على كل لحظة زعلتك فيها، على كل مرة عليت صوتي ، على كل مرة سبتك لوحدك… بس ارجعيلي، اسمعيني، اشتمي، اضربيني حتى، بس افتحي عنيكي، قوليلي إنك لسه معايا.
نظر للمسعف وهو يصرخ كالغريق:هي بتموت؟!! قوله بسرعه والله العظيم لو جرالها حاجة أنا اللي هموت!
نظر له المسعف بشفقه ولم يرد. وانشغل بضبط النبض، بمتابعة المؤشرات. أما جلال، فكان عالقا في دوامة، يحاول بث الحياة فيها بصوته، بعشقه، بنداءاته المجنونة.
عاد يهمس عند أذنها، بصوت منخفض متهالك، كأنه يسكب قلبه داخلها : فاكرة أول مرة خفت عليكي؟ فاكرة وأنا بجري عليكي وأنتي مرعوبة؟ نفس النظرة في عينيكي دلوقتي… بس المرادي أنا اللي مرعوب… انتي مش لوحدك يا زاد… أنا معاكي، في قلبك، في دمك، ما سبتكيش ولا هسيبك. انتي حياتي، وأنا ماينفعش أعيشها من غيرك.
جلال، الذي عرفه الجميع قويا، صلبا، لا يخشى شيئًا… كان الآن مخلوقا هشا، تائها، يحتضر في كل ثانية تمر دون أن تفتح عينيها.
مد يده المرتجفة يزيح خصلة شعر عن وجهها، وقبل جبينها المرتجف، ثم همس بشهقة مكسورة: لو خسرتك… أنا خلاص ضايع… والله ما هيكون من بعدك حياة يا حياتي
صوت صافرة الإسعاف ما زال يعلو… لكن داخله كان قد تجاوز الصراخ، وتجاوز الموت… كان يحترق في صمت عشق لا يشفي منه إلا بمعجزتها.
…………
ف المستشفى
دلفت سياره ايهم ف نفس لحظه وصول سياره الاسعاف
ترجل ايهم من السياره ..وخلفه وتين وصرخب برعب عندما وجدت جسد زاد ممدد علي سرير الإسعاف…
اندفع ايهم بجنون وقبض علي يد زاد وبدأ الكشف عليها وهو يركض مع المسعفون ف ممرات المستشفى…
لكن جلال لم يكن يركض بل كان يندفع بجنون ..
دوت صرخات الإنذار الطبي تمتزج مع صوت عجلات النقالة التي تسابق الزمن ..
تتجه بسرعة جنونية نحو غرفة الطوارئ .. بينما ايهم والاطباء يركضون بجانبها يحاولون تثبيت المحاليل وإيقاف النزيف.. والسيطرة على الوضع قبل أن تنزلق روح زاد من بين أيديهم …
ركضت وتين وبدريه وسامح ومراد خلفهم بإحساس بالعجز لا يوصف …
حدق بها وهو يركض بخطواته أثقل من أن توصف، كأنها تزلزل الأرض أسفلها عينيه لا تفارقان زاد الممددة على النقالة لم يكن يرى سوى شحوبها القاتل، عينيها المغلقتين، جسدها الذي لا يتحرك…
صرخ بصوت هادر : وسعولي الطريق !!
كأن أي شيء يقف بينه وبينها قد يدفعه لاقتراف جريمة
دخلوا بها غرفة الطوارئ ..وحاول الأطباء منع جلال من الاقتراب.. لكنه لم يهتم.. دفع أحد الأطباء بكتفه بعنف وتقدم حتى أمسك يد زاد بقوة..
كأن لمسته وحدها كافية لإبقائها هنا وصرخ كوحش: زاد متسبيش إيدي، فاهمة؟!! متسبيش إيدي يا زاد وانا مش هسيبك يا قلبي !!
حاول الأطباء دفعوا بعيد لكنه كان متشبث بها اكتر من الموت نفسه…
هتف أحد الأطباء بغضب : لازم تخرج بره إحنا لازم نلحقها !!
لكن جلال لم يتحرك نفرت عروقه حتي كادت تنفجر من شدة الضغط أظافره منغرزة في كف زاد باستماته
حتي شق صوت أيهم الجمهوري الهواء كحد السيف : سيبوه معها محدش يدخل !!
نظر إليه الطبيب بصدمة وفكر في الاعتراض لكن أيهم كانت عينيه السوداوين تبرقان بحسم مخيف..
ووجهه يقطر توترا ..
فهو يعرف جلال جيدا يعرف أنه لو لم يكن هنا فسيدمر المكان بمن فيه!!
اقترب ايهم وصرخ بحده : ضغطها بينزل، لازم نقل دم حالا !! فصيلة دمها O سالب! لازم كيس دم حالا ..
ركضت الممرضة بسرعة الي جهاز الكمبيوتر وهتفت :
هدور على متبرعين مطابقين…ف بنك دم المستشـ
قبل ما تكمل، دوى صوت جلال الرعدي وصرخ بانهيار:
خدوا مني! أنا… أنا فصيلتي زيها! خدوا دمي… كله! مدوروش علي حد مش هسمح نقطة دم غريبة تدخل جسمها! أنا جوزها… أنا اللي أنقذها!
نزع سترته ومد ذراعه المرتجف لهم ، وعيونه محمومه من القهر والخوف، وصاح بانهيار : محدش يلمسها… مفيش دم يدخلها غير دمي…
هتف ايهم بحنق : لازم نتاكيد قبلها انك معندكش مشكله صحيه تمنعك من التبرع يا جلال
تمسك به بجنون وانفجر بغضب : مش مهم أنا المهم زاد يا ايهم
دي مراتي! روحي بتتسحب مني … لو هموت، يبقى اموت وأنا بنزف عشانها!ايهم بالله عليك مفيش وقت
اوما أيهم بنهيار … اوجعه الهلع الساكن عينين جلال … والكسره اللي في صوته، والدموع التي تتزاحم على طرف جفونه وهو يتوسل لهم وهتف بحدة للممرضة:
خدوه على طول، أسحبوا منه دم حالًا! الوقت مش في صالحنا!
اندفع جلال بجنون الي الغرفه المجاوره ، وهو يهذي بدموع: خدوا دمي… خدوه كلو… بس ما تموتش… ما تسبنيش يا زاد… ما تسبنيش…
كان الهواء في الغرفة أثقل من أن يستنشق… وكأن الزمن نفسه توقف إجلالًا للدم الذي بدأ يتقاطر من ذراع جلال، يحمل داخله كل ما تبقى فيه من نبض… من أمل… من حياة.
جلس منتصبا، لا يتحرك، كأنه حجر نحت عليه وجع الكون….عينيه مثبتتان على الجدار الزجاجي المقابل… لا يراه أحد ، إنما يرى وجه زاد… شاحبه… غارقا في اللاشيء.
صوت سحب الدم كان كصفير خافت، لكنه بدا في أذنه أشبه بعزف ناي حزين يشيع قلبه مع كل قطرة تسحب منه.
تمتم بصوت مبحوح، كأن الحروف تنتزع من صدره:
خدوه كله… خدوه… وما تسيبوهاش تروح…
اقتربت الممرضة، تحاول أن تطفئ النار في عينيه:
هنحتاج كيس واحد بس يا فندم…
رفع عينيه نحوها، بنظرة تفطر القلب، وانفجر صوته المرتجف: كيس إيه؟! خدي كل الدم اللي محتاجه … فاهمة؟! خدوا اللي انتوا عايزينه… وارجعوا لي حياتي بين إيديكم عايشه!!
تراجعت الممرضه بزعر من انفجاره ف وجهها : إحنا أخدنا الكمية المطلوبة، وهندخل كيس الدم حالًا… وحضرتك تقدر تروح ترتاح
وفجأة… انفجر.
صرخ بصوت دوى في الممر كله:ارتاح إيه؟!! إنتي مجنونة؟! دي بين الحياة والموت! وأنا أروح أرتاح؟!
الممرضة تراجعت بفزع، وبدأت ترتبك: أنا بس… كنت بحاول أطمنك…
صرخ بجنون ، وعينيه تبرق كأنه خارج عن وعيه:
ما تطمنينيش!! طمنيني عليها! قولي لسه عايشة! بتنفس؟ قلبها بيدق ؟!!!
وفجأة… اقتحم سامح ومراد الغرفه بسرعة علي صوت جلال الرعدي
تمسك به مراد وسامح ف محاولة لتحكم بغضبه وجسده المرتجف وصاح مراد : جلال! اهدى يا أخي! كده مش هتعرف تساعدها!
حاول جلال دفعهم بعصبية مجنونه ، وهدر :سيبني يا مراد ! سبوني خلاص انا هرجع لزاد عايز اكون جنبها
توقف سامح امامه، ومد إيده على صدره يمنعه من الحركه وهتف : هما بدوا ف العمليه ومش هينفع يا جلال حرام عليك ارجع لعقلك يا صاحبي
غمغم جلال بقهر، وصوته اتحشر في حلقه، وهو بيضرب الحيطة بقبضته: أنا ماستحملش أشوفها بتموت… فاهم؟
أراد أن يتحرك… أن يذهب لها… لكن جسده ثقل عليه فجأة، كأن الدم المسحوب قد جر معه روحه…
تنفس بصعوبة… صوته يتهدج كمن ينازع: كنت بخش النار برجلي… وكنت بطلع منها وأنا واقف…
بس دلوقتي… أنا بترجاكم… رجعولي مراتي… رجعولي حياتي …
صمت لحظة… ثم نظر لهم وهمس وكأنه يعترف: أنا عمري ما خفت… غير دلوقتي …أنا… خايف اوي زاد تضيع مني !!
سكت، وتنفس بصعوبة، كأن الهوى اتقطّع من الدنيا.
نظر له مراد وقال بنبرة مكسورة: ومين قال إنها رايحة؟ ما لسه فيه أمل… دمك معاها… ويمكن ربنا كتبلك تكون أنت سبب
نجاتها.
نظر له جلال بعيون مجروحه وغمغم : أنا هموت من غيرها يا مراد… مش هقدري أعيش إلا وهي معايا.
اقترب سامح ، وضمه بحضنه وشدد عليه وقال بهدوء: يبقى خليك قوي… علشان لما تفتح عينيها… تلاقيك واقف زي الجبل مستنيها…
أخرجه من حضنه ومسح على صدره وقال بنبره متحشرجه : تعالي يا اخويا وقول يارب…
خرج معهم بخطوات ثقيله وكأنه يجر قلبه خلفه ..
لكنه لم يبتعد ظل أمام الباب كأن روحه نفسها عالقة بالداخل…
ركضت وتين فور رؤيتها لجلال وحدوحده دون زاد… وكأن ذلك أكد لها أسوأ مخاوفها .. تمسكت بقميصه بقوة..
وعيناها تمتلئان بالرعب وجسدها كله يرتجف وصاحت : قول لي إنها كويسة ..بالله عليك ارجوك يا جلال قول اي حاجه !!
نظر لها جلال بعينين ميته وكأنه لم يعد يملك حتى الكلمات…
انهارت وتين بالكامل ..وعدم جوابه كان أسوأ إجابة ممكنة…
وسقطت على ركبتيها وشهقتها تزلزل المكان وكأن روحها تنتزع من جسدها…
تحرك مراد وهو لا يستطع الوقوف متفرجا.. واقترب بسرعة ..وأمسك بها برفق .. ورفعها ليجلسها على الكرسي…
لكنها لم تتوقف عن البكاء بهستريه .. لم تتوقف عن الاهتزاز بجنون… ضمتها بدريه وهي تهتز وتنحب بجنون وتضرب علي ساقها بقوه …
جلس سامح على المقعد بأنفاس تتسارع و أصابعه تضغط على وجهه كأنه يمنع دموعه بالقوة لكنه لم يكن قادرا على إيقاف الارتعاش في صدره….
ظل جلال واقف أمام الباب عقله يعمل بسرعة جنونية … قلبه لا يزال يضرب في ضلوعه بعنف.. وكأن كل لحظة تمر تسرق منه عمره…
لم يكن يدري كم مر من الوقت لكن كل ثانية كانت جحيم بحق !!
أحيانا لا يكون العذاب هو الجرح نفسه.. بل الانتظار لمعرفة ..إن كان الجرح سيكون النهاية أم لا أشد عذاب !!
نفذ صبره ونفذ الهواء من صدره من شده الاختناق وصاح : كل ده ليه ؟ عد وقت طويل اوي؟ ليه يا مراد؟!
طيب حد يطلع يطمني !! أنا هموت ولا يارتني موت قبل اليوم ده !!
تمسك به مراد واقترب سامح وتمسك به وهتف : اهدي يا جلال قول يارب.. قول يارب !!
هتف سامح : جلال ربك مش هيحرق قلبك اكيد!!
بس اهدي اللي يباركلك.. أنت كده ممكن تحصلك حاجه !!
سقط جلال بعنف علي الأرض وخر ساجدا …
وصرخ من بين طيات قلبه المكلوم بنار حارقه: يارب ياااااااااااارب …مش عايز غيرها يارب. من الدنيا دي!! ياااااااااااارب أتوسل اليك يااااارب !!
وكأن الله استجاب له ف الحال.. وفتح باب غرفة العمليات ..وخرج إيهم وخلفه الأطباء ..
ونهض جلال بصعوبه بقلة حيلة .. بمساعدت مراد وسامح .. ونهضت بدريه وهي لا تستطيع فتح فمها..
وفقط تنظر إلي ايهم بلهفه ودموعها تنهمر على وجنتيها…
نهضت وتين واندفعت الي ايهم الذي ضمها إليه وصاح جلال : ابوس ايدك.. يا ايهم اوع !!
هز أيهم رأسه وتمتم: الحمد الله حالتها كانت صعبه اوي!! بس ربك كبير وسمعك يا صاحبي !
انهار جلال ببكاء مكتوم وضمه مراد وربت علي ظهره وهمسة: الحمد لله يا صاحبي !!
غمغم جلال بضعف : مش قادر اصدق يا مراد !
ربت سامح علي ضهره وضمه بالحضن وغمغم: لا صدق يا جلال ..صدق واهدي عشان خاطر زاد !!
هز رأسه وتمتم: اطمن عليها ومش عايز حتي اتنفس ..
هتف ايهم : هنحطها ف العنايه المركزه لحد ما نطمن عليها وربنا يستر أن شاء الله !!
………………………………………..
صباحا اليوم التالي…
مر الوقت بصعوبه قاتله لم يشبه اي وقت مضي دقائق طويلة خانقة… وكأنها تسحب أنفاسهم معها ببطء…
كانت العناية المركزة أشبه بزنزانة، تفصلهم عن زاد… بأسوار زجاجية ..وأجهزة طبية تملأ المكان بضوضاء رتيبة،
وحده صوت جهاز ضربات القلب كان يمنحهم يقينا واحدا ..هي لا تزال هنا….
لم تتوقف عنايات عن قراءة القرآن كانت تتمت بشفتيها بلا توقف، كأنها تحاول أن تبقى علي تواصل مع الله، تتضرع بقلب ام مكلوم لا تريد اي شيء سوء ابنتها….
كانت بدرية تجلس بجانبها تمسك بيدها بقوة، لم تكن دموعها تهدأ،
كلما مرت عينها على باب العناية، كانت تنهار أكثر، صوتها يرتجف وهي تهتف كل حين: كانت بتضحك… كانت قدامي من يومين بتضحك يا عنايات… ازاي فجأة تبقى جوه هناك كده؟
غرام لم تكن تتكلم.. بل كانت جالسة على الأرض، تسند رأسها علي الحائط وتضغط بيده على صدرها بقوة، كأنها تحاول أن تمنع قلبها من الانفجار…
وصلت وتين على حافة الانهيار حرفيا… وجهها باهت، وعينيها منتفخه من كثرة البكاء…
لم تستطع الجلوس ولا الوقوف ..كانت تتحرك بعشوائية أمام باب العناية تصلي وتتمتم بأدعية…
تحاول استجماع القوة لكنها في النهاية لم تحتمل وسقطت أرضا تبكي بانهيار…
لم يتحمل ايهم رؤيتها بهذا الشكل فجلس بجانبها واحتواها بين ذراعيه،تمتم بصوت خافت حزين : هتفوق يا وتين! زاد قوية مستحيل تسيبنا كده !!
صاحت ودموعها تنفجر بقوه: قلبي وجعني اوي يا ايهم أنا مش قادره اتحمل الانتظار هيموتني!! هي ليه مفقتش لحد دلوقتي ؟!
ضمها بقوه وغمغم بدموع عالقه علي جفنيه : لالاا بلاش تقولي كده ربنا هينجيها خلي عندك ثقه ف ربنا .. أن شاء الله هتستجيب وتفوق في اي وقت !!
انهارت بين أحضانه وهي تنحب وتشهق وجسدها يرتجف حتي فقدت الوعي بين ذراعيه …
رفعها بين يديه وتحرك بها بخفه ..دون لفت انتباههم يكفي ما يعانوه من الم …
دلف بها أحد الغرفه ..ووضعها علي الفراش ..ورن الجرس ودلفت أحدي الممرضات نظر لها وهتف بقلق : ابره مهدي بسرعه !!
اومات الممرضه وذهبت دقائق.. وعادت بأبره مهدي اخذها منها ..وحقن وتين ف ذراعها.. واشاره الي الممرضه أن ترحل ..تحركت الي الخارج …
وسحب الغطاء علي جسدها وقبلها بنعومه علي جبهتها وهمس : نامي احسن ما يجيلك انهيار عصبي يا عمري …
ف الخارج ……
وقف حمزه أمام زجاج العنايه المركزه ونظراته تحترق بالغضب.. والحقد بالقهر… وغمغم بنار تحرق أوردته : عاش معانا طول عمرنا وهو كل همه يدمرنا ويحرق قلوبنا بنار …طيب ليه؟ ليه عمل كده؟! وفي مين !!
أبوه ..وبعده زاد !!
غمغم جلال بصوت منخفض لكن مميت وعينيه تعصف بلهيب قاتل : كان نفسي يكون عايش ..واقتله بالبطىء الف مره ف اليوم.. ومش كفايه حارقة قلبي عليها !!
نظر جلال الي زاد وكأن روحه سحبت منه ووضعت هناك معها وكأن ميت واقفا علي قدميه وهمس : أنا هنا يا زاد… بس اصحي فوقي يا حياتي متوجعيش قلبي عليكي!!
سامح ومراد كانا يراقبنه عن كثب… يعلمان أن أي محاولة لتهدئته الان لن تجدي نفعا
فيوم يفقد جلال أعصابه، لن يبقى شيء قائما في وجهه…
بعد لحظات من الصمت الخانق اقترب مراد من جلال وضع يده على منكبه وقال بصوت ثابت رغم التوتر: جلال رباب فاقت!!
تجمد جلال مكانه للحظة واستدار له ببطء عيناه تشعان بجنون قاتل وتحرك الي غرفته …
………………………………..
ف غرفه رباب …
ضرب جلال باب الغرفه بعنف وهدر: هي دي المسئوليه يا رباب؟! ولا عشان انتي بتكرهيها وبتغيري منها سبتيه ترجع ..وانتي عارفه انها راجعه للموت ؟!
صاحت رباب بالم ودموع : انت اتجننت يا جلال ؟!
أنا هعمل كده ليه؟ ولو علي الغيره ده لعب عيال!!
لكن وقت الشغل شغل …وانت عارف…
واحنا اللي بينا مكنش يستاهل اضيع روح بني ادمه عشانه !!
صاح بجنون وغضب عارم: امال سبتيها ترجع ليه؟ ممنعتهاش ليه؟!
قطبت حاجبيها بدهشة وردت بغضب : جلال أنت واعي لنفسك!! امال أنا مين ضربني بالنار.. أنا منعتها لحد ما ضربتني بالنار !!
اهتز جلال بعنف وكأنه الآن فقد انتبه الي إصابة رباب وقال بصوت منخفض خطيرا : يعني ايه؟! زاد ضربتك بالنار !!
اومات برأسها وشردت تحكي تفاصيل ما حدث
………………..فلاش باك ……………….
ف سياره رباب …
استيقظت زاد ونظرت حولها بدهشه وذهول ثم نظرت إلي رباب بحنق وصاحت : ايه ده أنا بعمل ايه في عربيتك؟!
نظرت له رباب وهتفت : زاد اهدي.. وركزي ..
جلال كان لازم يعمل كده ..عشان يبعدك عن الفيلا عشان خطر عليكي !!
جحظت عينيها برعب.. وهزت رأسها بالنفي.. وتجمدت بجنون حارق.. وهي تشعر أن قلبها يقفز بجانب صدرها…
وكأن قفصها الصدري لم يعد يسعي قلبها بعنف دقاته…
نظر الي رباب وبحركه سريعه سحبت سلاحها وصاحت بجنون : وقفي العربيه بدل ما اضربك بالنار !!
جحظت عينين رباب وصاحت : انتي اتجننتي يا زاد هاتي المسدس ده !
لكن زاد كان يعميها الغضب واطلقت الرصاص علي رباب ف ذراعها وهدرت بعنف: هقتلك!! انفدي بعمرك ووقفي
العربيه …
صرخت رباب بالم حارق واقفت السياره لكزتها زاد بعنف وصاحت: انزلي بسرعه …
حاولت رباب سحب السلاح منها… لكنها صرخة بعنف واطلقت رصاصه مره اخري بشكل عشوائي…
مما دفع رباب لفتح الباب والنزول من السياره وأغلقت زاد الباب وانطلقت بسرعه ….
……………عوده …………
هتفت رباب بغضب: ده كل اللي حصل.. وانت عارف مراتك مجنونه.. ومفيش حد بيعرف يسيطر عليها غيرك !!
هز جلال رأسه وتحرك من الغرفه ودفع الباب بعنف دون كلام ….
…………………………………..
مساء ف المستشفى
كانت جدران المستشفى باهتة، بلا ملامح، كأنها شاخت من كثرة ما احتوت من آهات ودموع. الهواء بارد، كأنه يعلن الحداد، والرائحة… رائحة معقمة تخفي خلفها رائحة الموت الكامنة خلف كل باب موصد….
كان كل شيء يوحي بالغربة… إلا وجع جلال.
ذلك الوجع كان حقيقيا… حي… نابضا كقلبٍ يسحق تحت ثقل الفقد…
جلس على مقعد معدني، منكمشا على نفسه كطفل فقد حضن أمه… كتفاه متدليتان، رأسه بين كفيه، وأنفاسه تتصاعد كأنها تنوء بما لا يقال… فقد اخر ذره تحمل وانتهي الأمر ….
على بعد خطوات، وقف مراد وسامح، عيونهم عليه، وقلوبهم في الحلق. لم يجرؤا على الاقتراب… كانا يعرفان أنّ جلال حين ينكسر، لا يحتمل شهودا.
حتي جاء فريد الصياد ..
ركض في الرواق كمن يحركه القلق لا قدماه، وعيناه تبحثان عن صديقه كمن يبحث عن نبضه الأخير….
حتي أبصره، هدأت خطواته، كأنه يخشى أن يوقظ في جلال وجعا جديدا بمجرد اقترابه….
اقترب ببطء، ثم انحنى أمامه، وهمس بصوت مبحوح أنهكه الخوف: جلال…
للحظه لم يرد….لم يرفع عينيه….
لكن اللحظة التاليه اخترق فيها صوت فريد أذنه، كانت لحظه كافية… سقطت فيها كل الحواجز، وانهارت كل الأسوار التي شيدها بصبر مستنزف.
رفع جلال رأسه ببطء.نظرة واحدة فقط… كانت كافية لتروع فريد علي صديقه.. وأخيه.. ورفيق دربه…
نظرة فيها موت مؤجل، وخوف هائل، وانكسار لا ترفعه يد…
مد فريد يده إليه، فما كان من جلال إلا أن اندفع فجأة، كمن غرق في الفراغ طويلا …ووجد أخيرًا طوق نجاة….
ارتمى في حضنه بقوة، بعنف، برجفة، بدموع، بشهقات مكتومة في صدر صاحبه وصاح : أنا خسرتها يا فريد…خسرتها… كانت بين إيديا وبتموت… وأنا واقف عاجز… إيدها كانت ساقعة… عنيها مفتوحة ومابتشوفنيش… صوتي كان بيتكسر قدام سكوتها… زاد مش بتفوق !!
شدد فريد ذراعيه حوله، صدره يهتز من تأثره، لكنه تماسك، بصوت ثابت كجدار المتين وهتف :بس لسه عايشة… ولسه جوه… ولسه عندنا أمل نتمسك بيه، حتى لو بأطراف صوابِعنا. ماينفعش تسيب نفسك كده يا صاحبي
شهق جلال ، ودموعه أغرقت عنق فريد، وصوته خرج متقطع:أنا عمري ما حبيت حد زيها… كانت عيني، ونفسي، وروحي… كانت الحضن اللي بيطمني وأنا اللي المفروض أطمنها… بس أنا معرفتش احميها اكيد حست برعب اكيد كانت خايفه وانا مقدرش اطمنها يا فريد !!
رفع عينيه له، كأنه يستجديه وغمغم بنحيب :لو ماتت… هتدفن معاها كل حاجة جوايا، يا فريد… هعيش ليه بعدها؟! عشان أعذب نفسي؟!
ضمه فريد ضمه أقرب، وقال بخشونة تخفي وجعا مماثلًا:إوعى تقول كده… إوعى. ربنا كبير، وزاد قوية، وهتقوم وهتبقى كويسة، غصب عن اللي حصل…
أنا عارفك،يا جلال… مش أنت اللي كنت تقول: لو حبيت، هكسر الدنيا عشانها؟! طب قوم واقف على رجليك ، هي لسه مستنياك.
تمام جلال بصوت مذبوح:أنا بكره نفسي… على كل لحظة سبتها فيها، حاولت أبعدها حاولت اطلعها من الرعب بس مقدرتش
هي ما كانتش تستاهل الخوف… كانت تستاهل الامان
مد فريد يديه، أمسك وجهه بين راحتيه، نظر لعينيه نظرة أخ لا يعرف الرحمة حين يحب:بصلي… إنت ماشي دلوقتي على خيط رفيع بين إنك تفضل رجلها، أو تبقى ندمها الأخير. قوم… خليك واقف، حتى لو قلبك مكسور… عشان لما تصحى، أول حاجة هتدور عليها هي ضهرك.
سكت لحظة، ثم قال بنبرةٍ أكثر لينا:أنا جنبك… ولو غرقت، هغرق معاك. بس مش هسيبك تموت … فاهم؟
سقطت دمعة من جلال، خافتة… بلا صوت، لكنها حملت من الألم ما لا تطيقه قلوب الرجال.
فأسند رأسه على كتف فريد، كأنه استسلم… لا للهزيمة، بل للطمأنينة الوحيدة التي وجدها في حضن صديق يعرف متى يصمت، ومتى يكون هو السند.
وهناك… أمام بابٍ مغلق على أغلى ما يملك، جلس جلال يبكي، للمرة الأولى…علي ذراع صديقه كرجل عشق حتى الموت…
……………………………
ف اليوم التالي
الجو كان مشحون، ثقيل، وكأنهم جميعا محاصرون داخل دائرة من القلق والانتظار….
لا شيء يتحرك سوى عقارب الساعة التي تتباطأ عن قصد، تزيدهم توترا، تسرق أنفاسهم واحدة تلو الأخرى…
وفجأة…ارتفعت صفارات الإنذار داخل العناية المركزة!
صرخت وتين وهي تنتفض من مكانها وقلبها يكاد يتوقف من الرعب : إيه اللي بيحصل؟!
شعر جلال وكأن الرصاصة التي لم تقتله يوما قد استقرت في قلبه الآن….
بدون تفكير، حاول الاندفاع إلى الداخل، لكن يد قوية أمسكت به
وصاح فريد : جلال، مش هينفع تدخل!!
صرخ بجنون : سيبني! سيبني يا فريد …
وكاد يسدد له لكمة، لكن مراد وسامح تدخلي في شده للخلف…
اندفع الأطباء والممرضات بسرعة من كل الجهات، واقتحموا العناية المركزة بجنون وصاح أحد الأطباء بصوت عال ووووو
يتبع
ساحره القلم ساره احمد..