نار وهدنه (الفصل الرابع )

ليس الحب دومًا ابن الشَّبه…
بل قد يولد في فجوة التناقض، ويترعرع بين اختلافين لا يلتقيان في شيء سوى هذا الخفق الذي لا يُروَّض.
فبعض القلوب لا تبحث عمّن يُشبهها، بل عمّن يُكمل ما ينقصها…
عن صوتٍ لا يشبه صوتها، لكنه يطمئنها…
عن طبعٍ يناقضها، لكنه يهدّئها…
عن نارٍ تختلف عن جمرها، لكنها تمنحها دفئًا لا تعرفه وحدها.
وحين تُختصر المسافة بين اثنين لا يتشابهان في شيء سوى الوجع…
ينبت الحب، لا كشجرة منطق… بل كمعجزةٍ لا تُفسَّر.
اقترب بخطوات خبيثة وابتسامة مشبعة بالسم، ثم قال بنبرة ثقيلة محملة بالشر:أنا مش طالب غير حقي… مليون دولار… أو… أعتبرهم مهر لأختك.
توقف الزمن…وساد صمت قاتل في أرجاء الحارة، كأن الأرض نفسها ابتلعت صوت الحياة.
كلمات خلف نزلت كصاعقة مزقت السكون ومزقت معها ما تبقى من كرامة.
ارتج الهواء من حولهم، وتحجرت الملامح على الوجوه، وانكمشت الأرواح على وقع ما قيل.
شهقت ضي وهي تقف خلف حياة وعايدة وبطة في الشرفه
وتساقطت دموعها في صمت، ارتعش جسدها كأن البرق لامس قلبها، وغمرها خوف أعمى… ليس من خلف، بل من احتمال أن يترك لها القرار وحدها في وجه الجحيم.
وفجأة…
ساد هرج مفاجئ.
في لحظة خاطفة، التف حول رجال خلف رجال آخرون، ضخام البنية، مسلحون، يسيرون كالأشباح… كان الأرض انشقت عنهم صار كل رجل من رجال خلف يتلقى سن سلاح أبيض في ظهره. ارتفعت الأيدي
زمجر عز بنبرة لا تحتمل العصيان: انزل ع الأرض يابن المرة انت وهو !
انبطحت الرجال علي الأرض ف استسلام مخزي …
صرخ خلف بجنون، وهو يلوح بغضب يتخبطه كالممسوس: اللي بتعملوه ده مش قانوني! أنا هبلغ عنكم!
ثم التفت إلى عمار وصاح: وانت؟! شكلك عايز تتسجن… بدل ما تجيب الماذون وتحسب المليون دولار مهر أختك… وتيجوا تشتغلوا معايا!
شق السكون صوت يشبه الرعد حين يعلن الحرب، يشبه السيف حين يشهر للقصاص: بــــس!! مهرها اتدفع خلاص… يا خــلــف!
توقفت الأنفاس.
والتفتت الرؤوس دفعة واحدة كأنها مأمورة.
كان سلطان يقف علي رأس الحارة، جسده شامخ كصخره انشقت من جبل ، وعيناه تشتعل بنار لا ترحم.
قميصه الشعبي مفتوح على صدر متمرد، كأنه يقول للعالم كله: هنا يقف الخطر بعينه.
حتى ضي، رغم كل الألم والرعب…
رغم شهقاتها وبكائها… شعرت للحظة بأمان مبهم، مزيج من الرهبة والسكينة، كأن نار سلطان التي تحرق لتمنح الأمان… أهون من جنة خلف الزائفة.
تقدم سلطان…
خطوة بخطوة… كأنه يتلذذ بمشهد الرعب المرتسم على وجه خلف.
توقف أمامه، ثم هدر بصوت يحمل من السخرية قدر ما يحمل من التهديد: هو انت فاكر انك هتدخل مملكتي وتخرج بمزاجك دانا اللي جايبك…
نظر له خلف، وقد اشتعلت نيران الشك والغضب في عينيه وقال : قصدك ايه
رفع سلطان جانب فمه بابتسامة خبيثة، لا تشبه البسمات… بل تشبه الخطر حين يبتسم.
في تلك اللحظة، صدح رنين هاتف خلف في الأجواء المتوترة، كأن الشيطان ينبه بأن السقوط قد بدأ.
مد خلف يده إلى هاتفه، ضغط على الزر بضجر حاد، وهتف بنبرة قصيرة: في إيه؟
لم تمر سوى لحظات، حتى تبدلت ملامحه بالكامل…
جحظت عيناه بذهول ممزوج بغضب أسود، وجسده تجمد كما لو تسلل الجليد إلى عروقه…ثم انفجر صوته بفحيح مسموم: انت بتقول إيه يا حيوان؟!
وقبل أن يكتمل الصدى في المكان، شقت ضحكة سلطان ضحكة لا تحمل المرح ، بل تشبه اللهيب حين يضحك من وجع من يلسعه… وقال بعبث مسموم ونبرة خبيثة ترشق كالرصاص: حصل أيوه يا خلف…
بيقولك إن مكتبك… وشركتك… بيولعوا دلوقتي.
ساد الصمت…صمت ثقيل، كأن أحدا شد السماء فوقهم وربطها بأعناقهم.
تجمدت الوجوه، وانسكبت العيون نحو سلطان كمن يشاهد ملكا يبتسم بعد أن أعلن الحرب.
صرخ خلف ، وشرارات الهلع تتطاير من حنجرته: انت أكيد اتجننت!! أنت عايز إيه؟! مشكلتي مش معاك! بتدخل نفسك ليه؟!
اقترب سلطان، خطوة… فخطوة… حتى صار النفس بالنفس…. وهمس في أذن خلف بصوت كالدبابيس، يخز العظم من الداخل: هو انت فاكرني ما خدتش بالي من نظراتك الوسخه ليها؟
ولا ما فهمتش نيتك الاوسخ ورا كل حركة منك؟
انت بتلعب بوساخة يا خلف…
بس أنا اللي اختدعت الوساخة وعملتها تتكلم….
ارتجف خلف للحظة، لكن كبرياءه لم يسمح له بالسقوط، فتمتم: خلاص… يبقى الدفع! أنا عايز المليون دولار بتوعي ده حـقـي.
تحرك عمار في اندفاع غاضب، وهدر في وجهه:
بلح يا خلف… ملكش حاجة! واخبط دماغك في أقرب حيطة!
أمسك به سلطان من كتفه بقوة، وصوته حاد كالسيف:
الصبر… يا عمار!!
ثم أشار إلى عز، الذي تحرك فورًا إلى سيارة سوداء ، وأخرج منها حقيبة جلدية، فتحها أمام الجميع، وظهرت بداخلها رزم متراصة من الدولارات.
نظر خلف إليها… وكأن الأرض انكمشت تحت قدميه، والهواء بات ثقيلاً لا يحتمل.
أخذ سلطان الحقيبة من يد عز، وألقاها أمام قدمي خلف بقرف، وقال بنبرة هادئة… لكنها تحمل كل الإهانة:
مليون دولار يا خلف… تحت رجلك.
يعني تحت جزمة ضي.
انحنى أحد رجال خلف، وجمع الرزم من الأرض، وأعادها إلى الحقيبة بإذلال ظاهر، ثم صعد إلى السيارة دون كلمة.
نظر خلف إلى رجال البدري نظرة حقد مسمومة، وهدر وهو يصعد السيارة: خيرها في غيرها يا ولاد البدري!
نظر له سلطان ورفع ذقنه كمن يعلن عن فصل جديد من المعركة، وأضاف ببرود ناري: وعلى فكره… الحاجات المهمه اللي كانت ف مكتبك؟ متحرقتش… دلوقتي عندي…يعني لسه هنتقابل تاني، يا خلف.
توقف الزمن للحظة…لكن خلف لم يتكلم… فقط رمش بعينيه مرتين، كأن جسده لا يستوعب تلك المصيبة.
لكن سلطان لم يتركه يخرج آمنا، ليس بعد…
أشار إلى ياسر برأسه ، الذي تحرك ودفع بجسد غريب كان يقف بينهم دون أن يلاحظ أحد ، وقال باحتقار:
خد رممك معاك، يا خلف.
احنا ما بنحبش غربان في وسطنا.
أما سلطان، فدار ببطء وهو يرخي نظارته على وجهه، وابتسامته لم تغادر شفتيه، وكأنه ينتزع قطعة من قلب عدوه بكل كلمة.
وكأنه يقول الطريق لم ينته…بل بدأ الآن..
صعد الرجل إلى السيارة صامتًا، وانطلقت العربات سريعًا خارج الحارة، تجر خلفها سحب الغضب والخذلان،
الق خلف حقيبه الدولارت بغضب حارق وصاح بصوت يرتجف بقوه من شده القهر : ماشي يابن الهواري… كل ما اكون هحط يدي عليها يلحقها ابن الكلب !!
بس ماشي أنا وأنت والزمن طويل ..واللعبه لسه ف اولها… أن محرقتش قلبك مبقاش خلف الحناوي!!!
اشاره له صلاح وهتف: اهدي يا باشا كل واحد وليه وقته!!
……………………………………
ف الحاره
في مشهد يختلط فيه نبض الرجولة بأمان الرفقة، تقدم عمار وإبراهيم نحو سلطان بعد انصراف خلف ورجاله، والهدوء المريب قد غطى الحارة كأنه ما قبل العاصفة…
كان سلطان واقفا كالصقر، صدره يعلو ويهبط، ورائحة الغضب لم تزل تشتعل من حوله رغم انطفاء الموقف.
اقترب عمار منه وربت على منكبه، وصوته يحمل مزيجًا من الامتنان والافتخار، وقال: مش عارف أقولك إيه يا سلطان… بس انا عارف طول عمرك راجل، وضهري وسندي يا صاحبي.
أومأ سلطان برأسه، ورد ببساطة خالية من التفاخر، لكنها محملة بالصدق والعمق: بس عته يا عمار… إنت أخويا ياض ..
تدخل إبراهيم، مشيرًا بيده وكأن قلبه لازال ثقيلًا:
بس أنا مش عايز ضي تتجوز كده… مش هتتجوز تخليص حق…. ضي تستاهل فرحة مش خناقة.
واحنا ممكن نضغط علي خلف بالورق اللي بتقول جبته من مكتبه قبل ما تحرقوا؟!
تغيرت نظرات سلطان، وخفت صوته قليلًا وهو يغمغم بنبرة عميقة: أنا لو عايز أبيد خلف، كنت عملت كده في ثانية…والورق ده يوديه علي عشماوي مستريح بس لو مات دلوقتي، حقكم هيضيع… وهيغور وهو في إيديه كل حاجة… أنا اللي قلت ضي مراتي بمزاجي… لا حد غصبني، ولا كنت تحت ضغط.
جلس عمار على كرسي بجواره وقال وهو يرمقه بتفكر:
يعني إنت عايز ضي؟ يا سلطان؟
هز سلطان رأسه بنظرة حاسمة، وقال بجدية مفرطة:
لو مش عايزها، مكنتش قلت إني دفعت مهرها قدام كل الخلق … وإنت عارف يا عمار… أنا عمري ما عملت حاجة غصب عني… ومش عشان إنت صاحبي برضو.
ابتسم عمار رغم التوتر، وربت على ساقه قائلاً: أنا عارفك يا صاحبي… وعارف إنه مفيش حد يقدر يحمي ضي غيرك، ولا حد هيراعيها أكتر منك.
أومأ إبراهيم برأسه، وقال بتنهيدة صادقة: مش كل صاحب يبقى سلطان… ومش كل صاحب جدع كده… حقيقي مش عارف أشكرك إزاي.
أنا كمان متأكد إن مفيش راجل هيقدر يحمي ضي غيرك… لحد ما نعرف الدنيا ماشية إزاي.
نهض سلطان من مكانه، ومسح على لحيته وقال بنبرة ثابتة كالسيف: لازم نكتب الكتاب في أسرع وقت… خلف مش هيسكت، وهيفضل يحفر في مصيبة جديدة.
دايس معايا يا أسطى؟
أومأ عمار وهم بالتحرك وقال : دايس يا شقو …أنا هروح للمحامي وارجع أتكلم مع ضي.
نهض إبراهيم وقال: استنى يا عمار، جاي معاك.
وبينما انصرفا، اقترب عز من سلطان، وجهه يحمل لمحة إعجاب واضحة رغم كل ما حدث، وقال بلهجة خفيفة الظل: كل تمام يا جنرال … حاجة فاخر من الآخر… الراجل كان هيتنقط فيها !!
أشعل سلطان سيجارته ببطء، وأطلق زفيره طويلًا، وصوته هادئ… لكن هدوءه يشبه الموت البطيء: ولسه…
ده أنا هصفي دمه نقطة… نقطة ابن المـ* !!
واختنقت الحارة بصمت ثقيل… كأنها تنتظر الجولة القادمة من الحرب.
……………………………………..
في شقة عاشور الهواري
كانت ضي تنهار كغصن هش بين ذراعي عايدة، وجسدها يرتجف كأنما السكينة لفظتها، وعيناها تنزفان وجعا لا يحتمل.
ربتت عايدة على ظهرها بحنو أمومي دافئ، وغمغمت بصوت يقطر حنانًا: اهدي يا بنتي، الحمد لله ربنا ستر. اهو غار ف داهية، الهي لا يرجع ولا يوعى.
شهقت ضي شهقة كسهم مسموم اخترق صدرها، وانهمرت دموعها فوق وجنتيها الحائرتين، وهمسة بصوت متهدج: أنا مش عايزه اتجوز يا طنط…
مدت عايدة يدها تمسح خصلات شعر ضي بأنامل خبره في وجع البنات، وقالت: ليه يا ضي؟ كل بنت مسيرها للجواز يا بنتي. وسلطان… راجل، ولا كل الرجال…
هزت ضي رأسها نفيا، كأنها تفر من حكم بالإعدام، وأنفاسها تتعثر في حلقها من فرط البكاء: لا يا طنط… ده بيكرهني، وأنا بكرهه… وبخاف منه. أنا مقدرش أعيش معاه…
نظرت لها عايدة بعين تعرف الأسرار المخبوءة في الظلال، ومسحت دموعها مجددًا وهي تهمس بحنان لم يخل من اليقين: ضي، يا بنتي، انتي لسه متعرفيش سلطان… بكره الأيام هتوريكي إنه أحسن راجل ف الدنيا. ميغركيش صوته، ولا شكله، ولا تصرفاته. احنا وسط غابة، ولو هو مش كده… هيكلونا حاف….
بس أنا اللي مربيه سلطان، وعارفة إنه أطيب قلب ف الدنيا. متخافيش، ده حتى الغول يا بنتي مش بياكل اللي ليه ويخصه…
ارتجف قلب ضي بين الضلوع، وعقلها يرفض التصديق، لكن كلمات عايدة كانت تنفذ إليها كهمس مصير لا مهرب منه. ربتت عايدة على يدها ثم تنهدت وقالت: أنا هقوم أصلي ركعتين شكر إن ربنا عدى الليلة دي على خير…
غادرت عايدة بخطى ثقيلة، بينما بقيت ضي مصلوبة في مكانها، دموعها تتأرجح كأنها ترفض السقوط أو تبتلعها كرامتها المقهورة.
وفجأة، انفتح باب الغرفة لتدخل بطة، شهقت ما إن أبصرت ملامح ضي ، ثم أردفت بدهشة مشوبة بالشفقة:
إيه يا بت؟ انتي لسه بتعيطي؟! ما هو ربنا سترها وعدت على خير!
نهضت ضي كمن يتكئ على رماد قلبه، وقالت بصوت متهدج: ازاي ده؟! وأنا هتجوز سلطان…
شهقت بطة وصكت صدرها في نزق وقالت: وماله سلطان يا بت؟ وهو ف زي سلطان يا أختي؟!
هزت ضي رأسها بقهر صامت، وانسكبت دموعها كأنها تفرغها من حشاياها لا من عينيها.
شعرت بطة بوخزة ألم من هذا الانكسار، فاقتربت وجلست بجوارها، وربتت على منكبها، وهمسة بشفقة صادقة: أنا قلبي ده ابن ستين كلب… بس يا بت، كلت عينيكي يا حبيبتي من العياط…
جذبتها لصدرها ومررت يدها على ظهرها ببطء، كأنها تحاول طرد الشبح من روحها، ثم همسة:يا بت، سلطان راجل… وهيصونك. وقلبه حنين. سيبك من صوته والجعجعة بتاعته. بس والله، مش هتلاقي راجل يصونك ويحافظ عليكي زيه…
همسة ضي بقهر غائر في القلب: يا طنط… أنا بخاف منه. أعيش معاه إزاي وأنا بترعب من كل حاجة فيه؟ طيب، مش المفروض الجواز ده على الأقل يبقى على تفاهم… أو حتى إحساس بالأمان؟
ربتت بطة على ساقها وقالت بصوت يحمل حكمة السنين : يا عبيطة، سلطان دلوقتي حاجة، ولما يبقى جوزك حاجة تانية خالص. ربنا بيحط المودة والرحمة ف القلوب… ويولفها. بس يربطهم الحلال يا بنتي. بصي، أنا هقوم أعملك كوباية لمون تروق دمك… وكله خير يا بنتي قولي يارب …
غادرت بطة، وبقيت ضي تسبح في محيط من الحزن الغائر والكسرة الثقيلة، ثم هوت بجسدها فوق الفراش كأنها ترتمي في حضن الهلاك، ودفنت وجهها في الوسادة تبكي بصمت، وجسدها كله يرتعش برعبٍ مما هو آت..
وفي الخارج
دلف سلطان إلى الشقة… بخطوات واثقة مر بجانب الغرفة، فتسلل إليه صوت النحيب، هز رأسه بيأس، وتمتم بازدراء: بطلة العالم ف النكد…
تحرك مبتعدًا، لكن شيئا مجهولا كبله، فأعادته قدماه تلقائيا إلى الباب. فتحه ببطء، فاستقبلته رائحة الحزن الساخن، اقترب منها وهو يتمتم بجفاف ظاهر: بت…
رفعت وجهها من الوسادة، ودموعها لم تجف بعد، عيناها تبرقان كأنما تغزلان نداء نجدة، فتوقف الزمن لثانية بين رمشها المبتل ووجعه الكتوم…
غرق في شرود لم يفهمه، حتى قطعه صوتها المرتجف:
في إيه؟! انت اتجننت؟! بتدخل كده من غير ما تخبط؟!
نظر لها بنظره جامدة وأردف بجدية : انتي بتعيطي ليه دلوقتي؟ الموضوع مات خلاص…
اعتدلت ضي في جلستها، وربعت ذراعيها حول صدرها كمن يحتمي من قنبلة، ثم قالت بنبرة مشروخة: أنا مش بعيط…
ابتسم سلطان بكسل، ثم جلس بجوارها وغمغم بنبرة باردة: بصي… أنا مش بحب النكد، ومش بحب أسأل كتير. فعشان كده… أما أسأل، تجاوبيني على طول. مليش أنا ف جو مالك؟ مليش؟… مبحبش المحن.
نظرت له بدهشة وردت بنزق: يعني إيه محن دي؟
ابتسم بعبث وقال: اللي انتي بتعمليه ده…
نظرت له بعينين دامعتين وهمسة: هو العياط والحزن يبقى محن؟
هز رأسه وأجاب ببرود: آه… لما يبقى من غير سبب.
فركت ضي يدها بتوتر، وقالت: أنا مش عايزة اتجوزك… انت بلطجي، وقتال قتلة…
رفع حاجبه بدهشة، وصوته ينخفض لكنه يقطع كسكين:
ولا أنا عايز اتجوزك. أنا بعمل كده عشان أحميكي… بس، عشان عمار زي أخويا…
نهض بغضب وهدر: بس عارفة؟… انتي حلال فيكي خلف، هو اللي هيكسر مناخيرك اللي رفعها ف السما دي!
تحرك خطوتين… لكنه توقف فجأة، حين قبضت يدها الصغيرة الباردة على يده الخشنة، وهمسة برجاء باكي:
لا… لا بليز، خلف لأ… ده حيوان وقح… وأنا بخاف منه أوي…
قطب سلطان جبينه، ورفعها بيده بحدة وسأله بعينين مشتعلة:يعني إيه؟! عمل إيه؟! قرب منك؟! لمسك؟!
شهقت بخفوت، وأنفاسها تضطرب من ألم قبضته، ثم همسة:لا لا، مقربش مني أبدًا… بس نظراته وقحة، وبحس طريقته قذرة… وكنت بكره اروح لبابا الشركة بسببه ، كنت بتخنق لما يبصلي…
نكست رأسها، ثم همسة بنحيب يقطع الحلق:خلاص… أتجوزك… انت أحسن من خلف. أيوه… بخاف منك، بس…
اقترب منها، ورفع وجهها بلطف، ونظر إلى ملامحها كأنها صورة بريئة تمزق قلبه، ثم ابتسم بخفة وقال: بس إيه يا ضي؟
نظرت له بدهشة، وردت همساً: أول مرة تناديني باسمي… مش بت…
قطب جبينه وقال:مختش بالي… المهم، أنا عايزك تحطي ف دماغك حاجة واحدة إنك في حماية سلطان الهواري. ومفيش جنس دكر يعرف يبصلك، مش الـ**** خلف، حتى لو متجوزناش… انتي هتفضلي ف حمايتي.
رمشت بعينيها، تستوعب كلماته كما لو كانت تترجم من لغة لا تعرفها، ثم همسة: لما بتتكلم بالراحة… مش بخاف منك…
ابتسم بعبث، وتحرك إلى خارج الغرفة، وضعت ضي يدها على قلبها، وهمسة كأنها تعترف لنفسها: أنا ليه حاسة قلبي هيوقف؟ بيدق ليه كده؟
…………………………………….
في شقة عمار البدري
غمر التوتر وتعبق جدرانها برائحة الصراع، دوى صوت علي غاضبًا، كأنما يقتلع من صدره بركان: انت اتجننت يا عمار؟! هترمي أختك لبلطجي وجاهل؟!
عقد عمار حاجبه بغضب كاسح، وهدر بصوت أشبه بزئير مفترس: مين ده اللي جاهل؟! انت عارف إن سلطان كان معايا في الكلية؟!
ضحك علي بسخرية ممزوجة بالخذلان، ثم أردف بحدة:
هو كل اللي خد شهادة اتعلم يا عمار؟! وسيبك من التعليم! ضي اللي زي الملاك تاخد الشيطان ده؟! بلطجي وهمجي، وماشي يقول للشر أشطر! ويشتري عداوة الكل!
تدخل إبراهيم بضيق نافذ، كمن يخشى اشتعال الحريق:
علي! انت مكنتش موجود ومشفتش اللي حصل! ولولا سلطان كان حاجة من اتنين، لكان عمار هيتحبس، أو ضي تتجوز خلف، والاتنين يكسروا الضهر! على الأقل سلطان أحسن من الحقير خلف!
نهض علي دفعة واحدة، كمن لا يحتمل البقاء لحظة أخرى، وصاح بنبرة حادة تمزج الغضب بالقرار:
ولا ده ولا ده! أنا كام يوم هظبط أموري وهاخد أختي من المكان ده خالص!
قفز عمار واقف.. وقبض على ذراع علي بعنف مجنون، وهتف بلهيب من الحنق: أختي مش هتخرج من هنا! ومش هتتبهدل بعد أبوك يا علي!
نزع علي ذراعه بقوة، وصاح بوجع ومرارة:وجوازها من البلطجي ده مش بهدلة؟! ولا عشان صاحبك مش شايف عيوبه لدرجة ترميله أختك؟!
في لحظة خاطفة، أمسك عمار بياقة قميصه، وهدر من قاع روحه: أرميله أختي ليه؟! شايفني جبان يا علي؟! انت ناسي إني أخوك الكبير؟! وأنا أدرى واحد بمصلحة ضي!!
صرخ إبراهيم محاولًا الفصل بينهما، وقد خاف أن ينفجر الغضب إلى ما لا يحمد عقباه: الله! في إيه؟! انتو هتمسكوا في بعض يا ولاد البدري ولا إيه؟!
وفي اللحظة ذاتها، دلفت ضي إلى الشقة…
وجحظت عيناها بزعر، إذ وجدت إخوتها يكادون يتقاتلون .. ركضت إليهم وكأنها تسابق الانهيار، وتمسكت بهما وصاحت بدموع تتفجر: إيه؟! فيه إيه؟! انت ماسكه كده ليه يا عمار؟! سيبه!
تركه عمار بلهاث غاضب، ثم أشار إليها بعينين محتقنتين، وهتف: أنا مش هعيد كلامي! وأختك اهي عندك! وشوف هتحميها إزاي يا علي من كل البلاوي والديابه اللي عايزة تنهش فينا بعد ابوك !!
تمسك علي بذراع ضي، وهتف بحسم لا يقبل نقاشًا:
ضي! أنا مش عايزك تشيلي هم! إحنا هنمشي من هنا! ومش هسيبك تتجوزي غصب عنك! لا سلطان ولا غيره! إنتي لسه صغيرة يا حبيبتي!
هزت ضي رأسها بارتباك، وهمسة بحيرة ممزوجة بالرعب:
هنروح فين يا علي؟! وهنتفرق من بعض؟! وإحنا ملناش في الدنيا حد؟! هنسيب إخواتك ونروح فين؟! أنا مقدرش أعيش من غير واحد فيكم!
هزها علي بعصبية، وهتف وهو يرتجف: هتتجوزي سلطان يا ضي؟!
أغمضت عينيها كمن تذوق السم، وغمغمت بدموع لا تجد مأوى: مفيش حل تاني! سلطان أحسن من خلف! نار سلطان ولا جنة خلف يا علي!
حدق بها مذهولًا، ثم صاح: وليه تختاري النار يا ضي؟!
تشبثت بذراعه، وهتفت بنحيبٍ يكاد يخلخل الأرض تحتها: عشان معنديش حل تاني! ويمكن دي النار دي تنورلي الطريق!
ضحك علي بسخرية حزينة، وغمغم بكلمات تقطر وجعًا:
ويمكن تحرقك يا ضي… وأنا مش هشارك في الجريمة دي.
ثم التفت وغادر بعاصفة من الغضب، وحرائق داخله تلسعه دون رحمة…ركضت ضي وراءه، وشهقت بفزع، وتشبثت ببصيص رجاء وقالت : ألحقه يا عمار! متسبهوش ينزل زعلان!
ضمها عمار بقوة، كمن يلم شتات أخته من الحافة، وهمس: اهدي يا ضي…
وهتف إبراهيم بعزم: أنا رايح وراه!
ثم انصرف في إثر علي، بينما بقي عمار يحتضن ضي المنهارة بين ذراعيه، يربت على ظهرها برفق يغلفه الوجع، وهتف بنبرة ثقيلة: اهدي يا ضي… أنا عارف الأيام دي تقيلة عليكي… بس كله هيعدي. وصدقيني يا حبيبتي، أنا لو مش متأكد إن سلطان هيصونك، عمري ما كنت وافقت على الجوازة دي.
أغمضت عينيها، ودفنت وجهها في صدره كمن يهرب من الكون، وهزت رأسها بالإيجاب، وهمسة بنشيج خانق:
عارفة يا عمار… عارفة.
……………………………………
ف شقه ياسر الهواري
في شقة يسكنها الصمت أكثر مما يسكنها الأُلفة،
كانت جنات تعد المائدة ببطء لم يخل من التوتر. وضعت الأطباق برتابة فوق السفرة، ثم هتفت بصوت عال تحاول أن تغلفه بالدفء: ياسر، الأكل عالسفرة.
خرج ياسر من الغرفة وهو يجفف شعره بمنشفة صغيرة، وابتسامة متعبة ترتسم على ثغره:بت حلال… دانا واقع من الجوع.
جلست أمامه وبدأت تضع له الطعام في صحنه بعناية، ثم قالت بنبرة خافتة أقرب إلى الاعتراف: حسيت يا حبيبي…
أومأ برأسه دون أن يتفوه بكلمة، وبدأ في تناول الطعام بنهم صامت، كأن الجوع فيه أقوى من أي شعور آخر. راقبته جنات بنظرات تائهة، تقلب الطعام في طبقها بشرود حزين، قبل أن تهمس بفتور يحمل خلفه ألف سؤال: أنا هروح بيت بابا بكرة.
رفع رأسه قليلًا، ثم هزها موافقًا دون أن يرفع عينيه عن الطبق، وقال بنبرةٍ عادية: عشان تباركي لسلطان.
ارتسمت الدهشة على ملامحها، وقطبت حاجبها مستنكرة: أبارك لسلطان على إيه؟! هو رجع من السفر أصلاً؟
بلع لقمة، ثم رد بهدوء لا يشبه وقع الخبر: آه… رجع النهارده من شوية… وهيتجوز.
تجمدت يدها فوق المائدة، واتسعت عيناها بذهول مباغت:هــــ إيه؟! هيتجوز؟! إزاي؟! ومين؟! وإمتى؟!
ضحك بخفة متهكمة، وقال وهو يقلب اللقمة في فمه:
عارفة عمار صاحبه اللي كان معاه في الجامعة؟ وكان بييجي معانا كتير هنا من زمان؟
أومأت برأسها ببطء: آه… اللي سلطان دايمًا يقول عليه ابن الأكابر…
أشار إليها بإصبعه: هو… أخته اسمها ضي.
رفعت حاجبها بدهشة متزايدة: هي لحقت توقعه؟! دي لسه جاية البيت من كام يوم!
نظر إليها باستغرابٍ وابتسم بنصف فم: إنتي عارفة أخوكي… ف واحدة توقعه؟! وبعدين دي عيلة صغيرة، وواحد ابن حرام حطها ف دماغه… وسلطان عمل كده عشان يحميها… يعني لا وقع ولا حاجة.
شهقت بغضب، وضربت الملعقة في الطبق: يعني بعد ده كله يتجوز بالطريقة دي؟!
نظر لها بدهشة، وتمتم بضيق: يعني إيه الطريقة دي؟! أمال انتي عايزاه يتجوز إزاي؟! بالطريقة بتاعة المسلسلات الهندي اللي لحست دماغك؟!
عادت تنظر إلى طبقها بشرود، تقلب الطعام بلا رغبة، وهمسة بوجع دفين: كنت عايزاه يتجوز عن حب… يمكن ربنا يهديه… بس يلا، كله محصل بعضه ف الآخر… والحب بيطير.
نظر إليها بامتعاض، وحدق فيها قليلًا وهتف بعصبية:
حد الله! وش نكد… نفسي أشوفك بتضحكي!
ضحكت بتهكم مرير، وقالت: وأنا نفسي أشوفك أصلاً يا ياسر!
قطب حاجبه باستغراب وغمغم :أمال خيالي اللي قدامك ده؟! مانا معاكي أهو!
رفعت وجهها نحوه، وعيناها تتلألآن بدموع محتبسة، وقالت بصوت مخنوق: معايا فين؟! أنا عايزة ياسر ابن عمي… اللي كان مغرقني حب واهتمام… ولا خلاص؟! اتجوزنا، وعدت السنين، والحب مات؟! والاهتمام قلب إهمال وملل وبرود؟!
نهض ياسر من مكانه وقد اشتعل وجهه بالغضب، ومسح فمه بمنديل في حركة حادة، وهتف: أنتي فايقة ورايقة ليه؟! أنا طول النهار في الشغل ودماغي وارمة! مش هيبقى هري في الشغل… وهري في البيت كمان! أنا لما بجى البيت، عايز أرتاح! عايز هدوء! مش حوارات وخالص… ولوكلك فاضي!
رفعت وجهها ونظرت له كأنها تتلقى لطمة جديدة، وهمسة بصوت مختنق: يعني هو ده اللي فهمته من كلامي… يا ياسر؟
هز رأسه بإصرار وصاح : آه… وشيلي المسلسلات الهندي من دماغك عشان نعرف نعيش. مفيش راجل بيفضل مسبل لمراته ليل ونهار! إحنا في الواقع… وحياتنا عشرة على عشرة يا جنات! متخربيش على نفسك يا بت عمي!
هزت رأسها في استسلامٍ موجع، وهمسة بيأس مشوب بالانكسار: عندك حق… إحنا في الواقع… ويمكن حرام نحلم.
تمتم غاضبًا وهو يدلف إلى غرفته: أنا داخل أتخمد أحسن.
رحل وتركها خلفه، تنظر إلى الفراغ بعينين لا تريان شيئًا، سوى ملامحه التي باتت أبعد من المسافة، وأقسى من الغربة. قلبها يرتجف من خوف لا تسميه، لكنها تعلم أنه الخوف من الفقد… من أن يتلاشى ياسر الذي أحبته، ويترك لها جسدًا يعيش… وقلبا لا يعود.
………………………………….
علي كرنيش النيل
حيث النسيم العليل يتراقص فوق صفحة الماء، وتتمايل أضواء المدينة في حضن النهر، جلس على وإبراهيم علي إحدى المقاعد الخشبية، يحمل هما يتقلب في صدره. وإبراهيم يطالع قسمات وجهه المكفهرة، ثم قال بصوت حنون يشوبه العتاب: انت غلطان يا علي… ناسي إن عمار أخونا الكبير؟ اللي ياما شال مع أبونا الله يرحمه!
نفخ علي من صدره بضيق، ورمى نظرة قلقة للنهر وهو يغمغم: عارف يا إبراهيم… بس برضه! مش عشان أخونا الكبير اللي ربانا، نسكتله وهو بيغلط! ده حتى هيبقى مطمرش فينا ربايته… لازم نحذره.
ضرب إبراهيم كفه على الآخر وقال:مين قالك إنه بيغلط؟! يمكن سلطان هو الراجل الوحيد اللي يقدر على أختك… على دلعها، وطريقة عيشتها اللي اتعودت عليها، وهو يقدر يوفر لها اللي هي عايزاه بسهولة.
أشار علي برأسه ورد بصوت حاسم: الجواز مش كده وبس يا إبراهيم… لازم يكون
فيه توافق! سلطان وضي بينهم فرق السما والأرض.
هز إبراهيم رأسه، وقال وهو يحاول تبديد الغيمة في صدر أخيه: والله يا علي مش دايما… متفكرش كتير، سيبها على الله.
تنهد علي، وهم بالرد، لكن صوته انقطع فجأة وهو يسمع صوت يعرفه جيدًا… صوت فتاة تصرخ بغضب مجنون:
يا باااااااااا! اشتري عمرك وابعد عني!
التفت الاثنان في اللحظة ذاتها، ووقعت أعينهما على نوسة، واقفة تزمجر بوجه رجل ضخم الجثة، يبتسم بتبجح وهو يرد: أبيع عمري واشتريك يا غزال الجمالية!
قهقهت نوسة بتهكم ونفضت يدها ثم نهضت فجأة وقالت: انت اللي قولت هتبيع عمرك… وأنا ماليش فيه!
اقترب منها الرجل أكثر، وقال بنظرة وقحة:أبيعه وأبيع أبوه كمان! يا مانجة على فراولة… يا طعم!
اشتعلت عينا علي بغضب، وهب واقفًا بسرعة، ولحق به إبراهيم، الذي هتف متوجسًا:رايح فين يا بني؟ استنى!
لكن الموقف لم يحتج لتدخلهما، لأن نوسة كانت أسرع، وأشرس… قبضت على ياقة قميص الرجل، ثم ضربته بجبهتها على أنفه بقوة، جعلت صوته يعلو وصرخت : يا راجل يا ابن العيبة!
صرخ الرجل من الألم، وارتبك المارة حولهما، بينما إبراهيم انفجر ضاحكًا وهتف :إيه الدماغ دي! دي بت حكاية!
تحلق الناس محاولين فض الاشتباك، وهتف أحدهم وهو يحاول إبعاد نوسة: خلاص يا ست نوسة… الراجل هيفطس في إيدك!
لكن نوسة لم تهدأ، بل زادت وصرخت : هو لسه شاف حاجة! دانا ههينه النهارده… الراجل العرة المقيح المزيت ده!
صاح الرجل يترجى: الحقوووني! حرمت! ورحمة أمي حرمت!
تدخل إبراهيم، وسحب الرجل بصعوبة، بينما وقف علي أمام نوسة يحاول تهدئتها: خلاص يا آنسة، سبيه… وبلاش شوشره ف الشارع، أنتي بنت برضو ومينفعش كده!
رفعت نوسة حاجبها، ونظرت إليه بشهقة غاضبة: جرى إيه يا جدع انت؟ اتكلم زي الناس… وانت إيه اللي حشرك أساسا؟!
قال علي بدهشة:أنا خايف عليكي! أنتي بنت… وليكي سمعتك وسط الناس!
لكزته بخفة على صدره، وهتفت: سمعتي أنضف من أجدعها بت ف الحارة والمنطقة يا عيني… واللي بييجي على سكتي بفلقه نصين!
قطب علي حاجبيه بدهشة، وقال: انتي بنت، مش راجل، عشان تتكلمي كده!
ضحكت بنزق، وقالت: تصدق؟ كنت لسه هقولك نفس البؤ ده! إنت ليه بتتكلم كده؟ استرجل يا با!
قبض على يدها بهدوء، وقال: هو أنا عشان بتكلم بهدوء وباحترام… أبقى مش راجل؟ هي الرجولة دلوقتي بالصوت العالي والجعير؟!
تألمت من قبضته على يدها، وسحبت يدها بعنف، وقالت:
طيب سيب يا جدع! انت… إزاي تمسكني كده؟!
تركها علي بهدوء، بينما كان إبراهيم قد تخلص من الرجل الذي قال بأنفاس متقطعة:تسلم يا كبير!
ثم ركض مبتعدًا، وصاح بصوت خائف: يخرب بيت أم البنات اللي زيك يا شيخة!
هتفت نوسة وهي تشير إليه: اهرب يا مره! بس لو شفتك تاني على سكتي… هلبسك طرحيتي!
ثم نظرت لعلي وإبراهيم بنزق، وهتفت: عالم ما تختشيش!
ثم استدارت، وانصرفت بخطوات واسعة غاضبة. أما علي، فظل متسمرا في مكانه، وعيناه تتبعانها في ذهول، حتى ضرب إبراهيم كفًّا على كف وقال: يا لهوي… يلا يا ابني نروح!
هز علي رأسه، وانصرف معه، بينما لا يزال في أذنه صدى صوت نوسة، وفي قلبه سؤال لم يفهمه بعد… هل كانت تلك الفتاة… تشبهه؟!
…………………………………………
في اليوم التالي
وفي شقة عاشور الهواري، كانت الشمس تغمر المكان بنورها المتسلل عبر النوافذ،
وقفت ضي خلف باب غرفة حياة ، تتلفت بعينين مذعورتين كأنها تسرق أنفاسها الأخيرة من هذا البيت.
تحسست مقبض الباب، وأغلقته بهدوء مرتعش، ثم سحبت هاتفها من بين يديها المرتجفتين، ورفعته إلى أذنها بصوت مخنوق بالبكاء: أيوه يا سامر… أنا عايزة أهرب…. هيجوزني للي اسمه سلطان… الهمجي ده، وأنا بكرهه… وبخاف منه أوي.
على الطرف الآخر، انتفض سامر واقفًا، صوته انفجر كالبركان:وعمار وعلي موافقين عالكلام الفارغ ده؟!
هزت ضي رأسها بألم، وكأن السؤال وحده جرح، وهمسة والدموع تسابق الكلمات:عمار موافق…وعلي لأ…
وأنا… أنا مش عارفة أعمل إيه…
أنا وافقت… بس كل ما أفكر إني هتجوزه النهارده… بحس إني… بتخنق…
وكأني هموت النهارده يا سامر…
أسند سامر جبهته إلى يده، وكأن الوجع اخترق جمجمته، ثم تمتم بحرقة عاجزة: لا يا ضي… بعد الشر عنك يا حبيبتي…بصي، تقدري تطلعي من البيت… والشارع بس…وابعتلي اللوكيشن، وأنا هاجي آخدك فورًا.
وهنسافر بره البلد… ولا تتجوزي التور اللي عندك ده…
ده صوته ف التليفون مرعب يا بنتي!
ابتلعت ضي لعابها بصعوبة، وكأن الغصة تسد حلقها، وهمسة بألم يشتد في أحشائها:طيب… وأخواتي يا سامر؟!
صاح سامر بانفجار الغضب: أخواتك رجالة يا ضي!
كان المفروض هما اللي يحموكي، مش تضحي بحياتك عشانهم!بصي…
لكن جملته انقطعت حين امتدت يد علام وسحبت الهاتف من قبضته…صوته كان مزيجًا من الغضب والحسم:
إيه اللي بتهببه ده؟! انت اتجننت؟! عايزها تهرب؟!
رد سامر بجنون مكبوت:أنا ؟!ولا عمار اللي عايز يرمي أخته الرامية دي؟!
أغمض علام عينيه بيأس ثقيل، ثم رفع الهاتف إلى أذنه بصوت مكسور: ضي… يا بنتي… أنا أنكل علام.
انهارت ضي من أول حرف في صوته، ففاضت دموعها، وهمست برجاء ملهوف :أيوه يا أونكل…الحقني والنبي…
عشان خاطري…عشان خاطر بابا!!
أغلق علام عينيه بقهر يذيب الحجارة، وتجمعت الدموع في عينيه وهو يقول:اهدي يا بنتي… هو انتي مش بتثقي ف أنكل علام… زي ما كنتي بتثقي ف بابا؟
هزت رأسها بضعف، وهمسة:أيوه… يا أونكل.
زفر علام بضيق يعتصر صدره، وقال بنبرة هادئة تمشي على حبل مشدود: ممكن تحسي إن كلامي غريب…
بس الحقيقة… إن المكان اللي انتي فيه دلوقتي هو أأمن مكان ليكي…وسلطان… أكتر شخص هيقدر يحميكي… ويحافظ عليكي.
تجمدت ضي، وشعرت كأن الأرض تنسحب من تحت قدميها، وهمسة وهي لا تكاد تصدق:إزاي يا أونكل؟!
طيب هو هيحميني من خلف؟!ومين هيحميني منه هو؟!
ده بيرعبني أوي!
جلس علام ورفع صوته بشيء من الثبات كمن يخاطب قلبها: ضي… يا بنتي…سلطان عمره ما هيأذيكي… مهما حصل….أنا متأكد…سلطان راجل… ابن بلد… وجدع…
اعتبريني مكان عثمان…
اللي لو كان لسه عايش… كان هيقولك كده برضو.
انفجرت الكلمات من ضي بحرقة:بابا…لو كان لسه عايش…مكنتش هحتاج سلطان ولا غيره يحميني!
مد علام يده ومسح على فخذه، وقال بصبر مؤلم:
ضي… يا حبيبتي…أنا عايزك تثقي فيا…ومش هتندمي.
أومأت برأسها بيأس، وقالت بصوت مبحوح: ما عنديش حل تاني… يا أونكل.
ثم أغلقت الهاتف…
وجلست على الأرض، كأنها سقطت من فوق عمرها.
انكمشت على نفسها، وبكت… بكت كل شيء في حياتها التي انقلب رأسا على عقب…
كأن الزمن ضاق عليها، وتركها تصارع الخوف وحدها.
مر وقت طويل
حتي دلفت حياة إلى الغرفة تترنح تحت وطأة أكياس كثيرة، وهي تهتف بصوت متأفف: ضي، خدي عني يا بت، هقع على وشي!
مسحت ضي دموعها ونهضت بسرعة، قطبت حاجبيها ، ومدت يدها تلتقط بعض الأكياس وهتفت بدهشة:
إيه ده؟! انتي نزلتي عملتي شوبنج لوحدك؟
ضحكت حياة بخفة، وضعت الأكياس جانبًا وقالت:
لا يا ستي، دي حاجات بعتها سلطان مخصوص ليكي… فستان وشوية حاجات كده عشان كتب الكتاب.
عقدت ضي ذراعيها بصدرها، وملأ وجهها الامتعاض وصاحت: يعني إيه؟! مش هختار فستاني؟ هو اللي يختارلي ألبس إيه دي ايه الدكتاتوري دي ؟!
اقتربت منها حياة بشفقة وربتت على كتفها، وهمسة:
اهدي يا حبيبتي، هو يمكن بس عمل كده علشان كتب كتابكم النهارده، ومفيش وقت. وبعدين بصراحة، سلطان ذوقه حلو، إن شاء الله يعجبك.
أخرجت ضي الفستان من الكيس، كان بلون الأوف وايت، أنيق وناعم في تفاصيله، منسدل بخفة، مزخرف بورود ناعمة على الأكمام، محتشم، مغلق من الصدر وينسدل باتساع بسيط.
لكنها عقدت حاجبيها وقالت ببرود: مش حلو… عادي جدًا ومقفل… بيخنق.
دخلت عايدة في تلك اللحظة، وعلى وجهها ابتسامة متوترة وقالت : يلا يا ضي، الناس بدأت تيجي، وانتي لسه ما لبستيش!
أجابت ضي بصوت خافت متحشرج بالدموع: الفستان مش عاجبني يا طنط…
أمسكت عايدة بالفستان، تفحصته بإعجاب وقالت:
ليه بس يا حبيبتي؟! ده حلو أوي وشيك كمان!
رمقت ضي الفستان بنظرة خاطفة، وأشاحت بوجهها وغمغمت بدموع : حاسه إني هتخنق منه… مقفول أوي.
رفعت عايدة يدها بحنو وربتت على كتفها وقالت : طب جربيه يا بنتي… يمكن يفرق عليكي لما تلبسيه.
أومأت ضي بضيق، وأخذت الفستان ودلفت إلى المرحاض لحظات، وخرجت ترتديه. بدا الفستان وكأنه خلق ليزينها، لكنه لم يلامس قلبها، همسة وهي تحدق بالأرض : اهو… مش عارفه… مش عاجبني… حاسه إني مخنوقة…
وما إن فتحت عايدة فمها لترد، حتى جاء صوته العميق من خلفها، يحمل ظلاً من التهكم والغضب: خانقك المقفول يا بت البدري؟
شهقت ضي وصرخت: آه! مش استايلي، وأنا مش بحب الخنقة دي!
اقتربت عايدة بسرعة تضغط على ذراع ضي وهتفت :
ده زي القمر عليكي يا حبيبتي، وبعدين الستر قيمه، يا بنتي.
اقترب سلطان، بخطواته الثقيلة، وهتف بصرامة:
سبينا يا عايدة.
تشبثت ضي بذراع عايدة كطفلة تخشى الغرق وهمسة بنحيب : لالا، طنط، خليكي معايا… متسبنيش لوحدي!
ربتت عايدة على يدها بحنو وهمسة: متخافيش، يا ضي…
ثم خرجت هي وحياة وأغلقتا الباب خلفهما.
لم تمضي لحظات حتى قبض سلطان على ذراع ضي بعنف وسحبها إليه، صوته منخفض لكن نبرته تحمل قسوة العالم: بقولك إيه… من أولها كده، أنا مبحبش اللت والعجن… كلمه وتقطمي أحسنلك. واللي أقوله يتنفذ، وتنسي اللبس العريان اللي كنتي بتلبسيه. أنا متجوزك لوحدي، مش شراكة من الخلق.
ارتجفت ضي، ووضعت يدها على صدره لتدفعه وغمغمت بدموع: اااف بقا دراعي! حرام عليك… إنت بتخوفني ليه؟ مش هتبطل الهمجية دي؟
هز رأسه ببرود، وعيناه تشتعلان بجنون هادئ:
لا مش هبطل. أنا كده ومش هتغير… وعاجبني كده. وانتي هيعجبك، برضاكي أو غصب عنك… انتي فاهمة؟
همسة ضي، وعيناها تلمعان بقهر دفين:خلاص… سيبني… بليز، إيدي بتوجعني أوي…
شدها إليه أكثر، وهمس بصوت أجش أمام شفتيها المرتجفتين: هو ده اللي أنا عايزه… ولسه يا بت البدري… أنا هربيكي من أول وجديد.
ثم تركها فجأة، كما لو ألقاها من قمة جبل.
سقطت ضي على الأريكة، وخرج من الغرفه واغلق الباب بعنف… مسحت دموعها وهي تدلك ذراعها بتنهيدة موجوعة، وهمسة بصوت مكسور: همجي… متوحش… أعمل إيه بس يا ربي؟!
مر الوقت سريعًا، وتبدلت الأجواء.
كانت ضي تجلس وسط النساء والأطفال، الموسيقى تدوي حولها، الأيادي ترتفع بالزغاريد، والأجساد تتمايل رقصًا.
لكنها… كانت كأنها في فراغ، تنظر حولها بدهشة باردة، وكأن الكون من حولها يدور وهي وحدها ساكنة، لا تملك القوة للحراك، ولا القلب للفرح.
كل ما تسمعه صار بعيدًا… كأن الأغاني تأتيها من كهف سحيق، وصوتها الداخلي يصرخ في صمت: هو ده الجواز؟ هو ده المصير؟!
لكنها ابتلعت دمعتها… علها لا تنفضح…
………………………………..
في الحاره
اشتعلت الأرض بالخطى الراقصة، كأن الرجال يضربون الأرض طربًا لا غضبا، تهتز أجسادهم على أنغام الأغاني الشعبية، تملأ الضحكات السماء، وتتراقص الزغاريد بين الشرفات.
كان الفرح في الحارة كالعيد الكبير، الزينة تتدلى من الشرفات، وأضواء ملونة ترقص على وجوه الناس، والدبائح تعلق على الأبواب كأعلام نصر وكرم. امتلأت الشوارع برائحة اللحم المشوي، واختلط دخان الطهي بدخان البخور، فصار للفرح رائحة لا تنسى.
الأطفال يركضون، والنساء يزغردن من الشرفات، والرجال يضحكون من القلب. لم يبقى بيت إلا ووصله نصيب من اللحم، ولم يمر وجه إلا وارتسمت عليه بسمة رضا.
كانت الدعوات لسلطان تخرج من القلوب وليس من الشفاء
لم يكن عرس سلطان مجرد زفاف…
كان ليلة محبة، تتويجا لرجل معطى، فحصد دعاء الناس قبل تهانيهم.
جاء المأذون، يحمل بين يديه عقدًا سيغير مصيرًا.
جلس بثبات، وحوله اجتمع الرجال، حتى تقدم سلطان وجلس إلى جوار عمار، يتشابك كفاهما في مصافحة الرجولة والمحبة، وعلى وجهيهما مسحة من الجد والهيبة.
بدأ المأذون في التلاوة: زوجتك موكلتي ضي عثمان البدري…
وصوت سلطان وعمار يردد خلفه بثقة ورخامة، كأنما يوقعان على ميثاق شرف لا مجرد عقد.
حتى إذا ما ختم المأذون بدعائه: بارك الله لهما، وبارك عليهما، وجمع بينهما في خير ..
انفجرت الزغاريد عالية، واختلطت بأصوات إطلاق النار، كأنما السماء تصفق معهم.
احتشد الرجال حول سلطان، يهنئونه، يصافحونه، يربتون على كتفيه، كأنه ابنهم العائد من الحرب ظافرًا لا عريس
ضمه عمار بقوة وهتف بصدق: ألف مبروك يا صاحبي… ضي أمانة في رقبتك!!
ربت سلطان على ظهره وأجابه بنبرة حاسمة: ورقبة سلطان الهواري سدادة يا صاحبي.
اقترب إبراهيم، صافحه بحرارة ثم جذبه إلى صدره بحضن رجولي صادق، وهمس بجدية: مبروك يا سلطان… ربنا يتمم لك على خير… خلي بالك من ضي.
أومأ سلطان برأسه بوقار، ورد بصوت خافت: ف عيني يا هيما… ف عيني.
في الأعلى، عند شرفة الشقة، وقف علي يتأمل المشهد، عيناه تغليان بالسخط، كأنه يشاهد العبث بعينه لا الفرح.
زم شفتيه بغيظ، ثم دلف إلى الداخل وأغلق الشرفة خلفه بعنف، كأنه يحبس الحقد بداخله.
وفي الأسفل، كان عز يشعل الجو، يطلق الرصاص عشوائيًا في السماء، يهتف بضحكة عالية: مبروك يا شقو! أخيرًا دخلت القفص يا راجل!
اقترب منه سلطان وضحك بعلو صوته، ثم جذبه لحضن رجولي عنيف وهتف: انت ليه شكلك كده فرحان فيا أوي!
ضحك عز وربت على ظهره : أوي يا جنرال… بس فرحان ليك أكتر، تستاهل الفرحة دي والله.
ثم جاء ياسر، ضمه هو الآخر وقال بمزاح: أنا اللي فرحان فيك يا جنرال … أهلاً بيك في عالم النكد والعكننة!
قهقه سلطان، وهتف بخبث: لا مش مع سلطان يا بن الـ… دي هتنسي العكننة، وهتروق معايا!
ثم جاء راجح، حاول أن يرفعه كما جرت العادة مع العرسان، لكن ما إن أمسكه حتى قال وهو يلهث:إيه يا جدع، بتاكل زلط؟! كده مش هنقدر نرفعك زي أي عريس!
انفجر الجمع بالضحك، حتى كادت الزغاريد تتوارى خجلًا من صوتهم.
صفق سلطان على كتفيهما بنزق مصطنع وهتف: ترفع مين يابن الـعـ…؟ انا أرفع، بس مترفعش!
واشتعل المكان بالضحك والتهاني، كأن الفرح انفجر من الأرض، لا من السماء.
اقترب علام بوقار وهتف : مبروك يا سلطان ربنا يتمملك بخير ضي امانتك امانتة عثمان البدري
اوما سلطان برأسه وقال: الله يبارك فيك يا مستشار تسلم يا كبير
ابتسم علام بهدوء وقال : ممكن اشوف ضي عشان اباركلها
أشار له سلطان وغمغم بصوت أجش: اتفضل يا مستشار
………………………………
في الداخل،
انفجرت الزغاريد من حناجر النساء، تتطاير بين جدران البيت كطيور فرح لا تعرف التعب، تملأ المكان دفئًا وبهجة.
الأنوار تتراقص على الجدران، والقلوب تخفق، بين من تعبر عنها عيناها، ومن تخفيها خلف ابتسامة مرتعشة.
اقتربت بطة، بعفويتها وطيبتها التي تشبه أمهات الحارة، وضمت ضي بقلبٍ لا يعرف الكره، وهمسة بفرحة صادقة: مبروك يا مرات ابني…
لم تستطع ضي إلا أن تهمس، ودموعها تتكسر في مقلتيها:ميرسي يا طنط…
ثم علت زغرودة من جنات، شقت قلب ضي أكثر مما فرحته، واقتربت منها وضمتها بحب، ثم قالت: مبروك يا ضي… ربنا يتمم لكم على خير يا قلبي.
هزت ضي رأسها بصمت، شفتيها تتحركان ببطء، تحاول ابتلاع لعابها بصعوبة…
الألم في معدتها يتلوى، كأنه شظايا من نار.
الغثيان يضغط على حلقها، والدوران يسحب الأرض من تحت قدميها، لكنها تحاول الثبات… تحاول ألا تنهار الآن.
اقتربت منها عايدة، بعينين فيهما قلق الأم وخوفها، وضمتها بحنان صادق ثم سألتها بلطف: مالك يا ضي؟ انتي تعبانة؟ وشك أصفر يا حبيبتي.
هزت ضي رأسها بخفة، وهمسة بصوت متعب: آه… معدتي بتوجعني أوي…
نظرت لها عايدة بشفقة، وقالت بنبرة حنونة: ليه يا بنتي؟!
أجابت ضي بصوت مبحوح، يشبه أنينًا محبوسًا:مش عارفة… عندي غثيان ودوخة… والم ف معدتي مش طبيعي.
ربتت عايدة على شعرها بحنان كأم تمسح عن طفلتها وجع الدنيا، وقالت: هعملك كوباية نعناع تروقك يا حبيبتي…ومتخفيش فكي كده !!
وقبل أن تنهض، كانت حياة قد جاءت، بعفويتها وضحكتها العالية، أمسكت بكف ضي وهتفت بحماس: قومي نرقص يا ضي! يلا بينا، الناس كلها بره!
لكن ضي انسحبت برفق، وهزت رأسها وهمسة: لأ… معرفش… اسكتي يا حياة، أنا تعبانة.
ولم تكد الكلمات تخرج حتى دوى المكان بدخول الرجال.
سلطان، وعلام ، عمار، عز، وإبراهيم… حضورهم مثل رعد مفاجئ، تهادى بينهم سلطان بخطى الواثق.
اقترب منها، وفي صمت مهيب، انحنى وقبل رأسها، ثم غمغم بصوت خفيض: مبروك يا عروسة…
أغمضت ضي عينيها، كأن رائحته قد اخترقتها بلا إذن.
رائحة رجولية صريحة، ممزوجة بعطر نافذ، ونفحات دخانية من تبغ ثقيل، لكن هذا الخليط لم يكن مزعجًا…
بل دخل قلبها كالسهم، ترك أثرا… طبع رائحته فيها، كأنها لن تنساها أبدًا.
جاء عمار، ضمها وقبل رأسها هو الآخر، وقال بلهفة: مبروك يا ضي… عين أبوكي.
هزت رأسها بصمت وهي لا تستطيع تحريك لسانها …
اقترب علام وضم ضي التي تعلقت به وكأنها تستنشق فيه انفاس والدها وغمغم علام وهو يربت علي شعرها بحنان ابوي : مبروك يا بنتي!!
اومات برأسها وهمسة بوهن : الله يبارك فيكي يا اونكل..
تنهد علام بيأس وقال : مش عايزك تشيلي هم كلنا ف ضهرك وأولنا جوزك !!
وكأنه يرسخ بداخل علقها أنه أصبحت زوجته وأصبح زوجها ولا مجال للرجوع …
ثم تقدم إبراهيم فجأة، رفعها عن الأرض، ودار بها وسط الجمع بصخب طفولي صاخب: مبروك يا ضي البدري!
شهقت ضي، وضعت يدها على صدره، وهمسة وهي تلهث: إبراهيم… نزلني… دايخة…
قبل أن يتركها، كان سلطان قد جذبه من ذراعه بحسم، وأنزلها برفق ثم قال: هيما… كده هنخسر بعض يا صاحبي… دي ضي السلطان خلاص.
ضحك عز وضرب كفه بكف سلطان وهو يهتف: مبروك يا ضي!
أومأت برأسها وهمسة بخجل متعب: ميرسي…
اقترب منها سلطان، أمسك يدها برفق وقال:
يلا بينا يا ضي كفايه كده ..
ارتجف جسدها تحت يده الخشنة، التي تحوي دفء الأرض، وصرامة وخشونه نادره
وتجمدت مكانها، كأن قدميها انغرستا في الأرض.
سأل عمار وهو يراقب المشهد: لسه بدري يا شقو؟
رفع سلطان حاجبه ببرود، وتمتم: هي مش مراتي دلوقتي؟
تردد عمار وقال:أيوه… بس…
ضحك سلطان، وبصوت لا يخلو من السخرية قال: ليه الشغل الضيقة ده يا شقو؟ خليك حلو… يابن الأكابر.
هز عمار رأسه بلا رد، بينما سحب سلطان ضي بهدوء…
خرج بها من الصالة وسط عيون النساء، وفتح باب المصعد، ودفعها إلى الداخل بلين، وأغلق الباب خلفهما.
داخل المصعد، كانت ضي تلتصق بالحائط، تتنفس بصعوبة.
هو يقف إلى جوارها، يشعر باهتزاز جسدها، يتنفس رائحتها…
رائحة تشبه الفراولة الطازجة… ناعمة، رقيقة، منعشة، لكنها مثله تمامًا… تترك أثرًا لا يمحى.
مرت لحظات ثقيلة، حتى وصل المصعد إلى الطابق الرابع، وفتح الباب…
وفي صدرها، كانت أنفاسها الأخيرة قبل أن تدخل عالما لا يشبه أي شيء آخر.
مد سلطان يده نحو ضي، وقبض على كفها المرتجف، ثم قادها بصمت عبر الردهة حتى وصلا إلى باب الشقة. فتحه ودلف للداخل، ثم التفت ونظر إليها بحدة ممزوجة بملامح رجل أنهكته الليلة بطولها.
قال بصوته الخفيض الخشن:ادخلي يلا.
ترددت على العتبة، وعيناها تتفحصان أرجاء المكان برهبة متأججة….
كل شيء حولها بدا غريبا، جديدا، كبيرا عليها، وكأنها اقتلعت من عالمها الصغير البسيط وزُرعت فجأة في عالم آخر لا تشبهه ولا يشبهها.
تلعثمت والدموع معلقة بطرف رمشيها وهمسة:إنت جيبني هنا ليه؟ أنا… أنا عايزة أدخل شقتنا.
لم يلتفت لها، فقط تابع خطواته داخل الشقة، وبدأ يفك أزرار قميصه واحدًا تلو الآخر، بصبر نافد وحركة آلية.
قال بضجر:ادخلي يابت، أنا مش ناقص لعب عيال.
اتسعت عيناها بذهول، وتراجع قلبها في صدرها كما لو أنه سقط من مرتفع .. ركضت نظراتها على صدره العاري، وازدادت ضربات قلبها حدة، كأن ألم معدتها اشتعل ألف مرة، والغثيان ارتفع حتى حلقها….
تراجعت خطوة، ثم هزت رأسها بعنف وهمسة بصوت منكسر: لالا… إيه ينهار اسود… البس بسرعه يا وقح!
توقف سلطان في مكانه، ونظر إليها بدهشة غير مصدق، ثم اقترب منها بخطوات بطيئة، لكن مهيبة كأنها خطوات الخطر نفسه وقال : هو الجنان اشتغل؟ تعالي يابت هنا!
ركضت نحو الدرج، ضامة فستانها بيديها كمن يهرب من الموت ذاته. أما هو، فركض خلفها بسرعة خاطفة، وقبل أن تهرب أكثر، قبض على ذراعها وسحبها نحوه، ثم رفعها على منكبه كما لو كانت ريشة، وهو يهتف ساخرًا: احنا هنقضيها شقلبة وفرهده من أولها؟!
ضربته بقبضتها الصغيرة، تائهة بين الغضب والخوف، وصرخت: لالا والنبي! يا عمار الحقني!
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة، ثم دخل بها الشقة وأغلق الباب خلفه بعنف. ألقى بها برفق على أقرب أريكة، ونظر في عينيها بنفاذ صبر وهو يهتف: إنتي وعمار ف ليلتك الطويله دي! بقولك إيه، الجنان ده ميكلش معايا بدل ما تهب مني… وأنا مش عايز كده.
تراجعت عنه برعب، وهي تطوي ساقيها تحتها كطفلة تبحث عن الأمان… وهمسة بنحيب مرتعش وهي تضع يدها علي فمها تحاول تكتم شهقتها :حاضر… حاضر اهو.
جلس بجانبها، وربت على ساقها وقال بلهجته الساخرة:
اهدي يا ضي… هو انتي عندك قناة السويس ف عينك؟! مش قناة دمعية زينا!
هزت رأسها بنفي خافت، وغمغمت:إنت بتخوفني…
رفع ساقه اليسرى على الأريكة، وانحنى قليلًا نحوها، صوته يملأ الفراغ المربك بينهما وقال : وأنا عملت إيه يخوفك؟ دلوقتي؟ مش قلنا مبحبش المحن؟
ابتلعت لعابها بصعوبة، وضغطت كفها على صدرها، وهمسة:البس… بجد شكلك مرعب!
ضحك بخفة واقترب منها، نظر في عينيها طويلًا ثم قال:
أنا بحب أقعد كده ف شقتي… براحتي.
رمشت بعينها المرتبكة وأشاحت وجهها وهمسة :لما تكون لوحدك…
أمال شفتيه في ابتسامة مائلة وهمس:ما أنا لوحدي… أنا وانتي واحد خلاص.
نظر إلى يدها الموضوعة على صدرها، ووضع كفه فوقها، يضغط برفق وسأل: هو إيه الحوار؟ في إيه هنا؟
شهقت بحدة وسحبت يده، وغمغمت:لا… شيل إيدك… أنا معدتي بتوجعني أوي.
اقترب منها حتى اختلطت أنفاسهما، وسأل بلين غير معتاد منه:طب ليه؟ في دوا بتاخديه؟ ولا مكلتيش؟ ولا إيه الحوار؟
وضعت يدها على صدره لتبعده، وصوتها خرج مبحوحًا:
لا… أنا لما بخاف وأتوتر… معدتي بتوجعني.
ضحك بعبث، وهمس بصوت أقرب للهمس:لالا… الكلام ده ميكلش… عايزك جامده كده. إحنا لسه قدامنا مشاوير… لو مجمتيش قلبك هتروحي فيها.
عقدت حاجبيها بدهشة وغمغمت :مشاوير؟ يعني إيه؟
غمز لها وقال بمكر: مش مهم… قومي دلوقتي حضري عشا، أنا جعان…
فتحت فمها بدهشة لم تكملها، فمرر إصبعه على شفتيها، واستنشق رائحة أحمر الشفاه وهمس:فراولة…
حاولت النهوض، وقالت بخجل:يعني إيه؟
ضحك وغمغم:خفيتي أهو… يلا على المطبخ.
تحركت ببطء، ما زالت تنظر في كل زاوية من الشقة الفخمة المنظمة، كأنها في حلم لم تفق منه بعد. دخلت المطبخ العصري الأنيق، حيث كل شيء يلمع بترتيب غريب عليها.
دارت حول نفسها، متوترة، خائفة، يفتك بها الغثيان. اخيرا جلست في النهاية على طاولة المطبخ، تمسح دموعها بكف يدها المرتجف…لم تعد قادرة على فهم نفسها… أو ما يحدث حولها.
مرت لحظات طويلة قبل أن يخرج سلطان من غرفته، وشعره المبلل ينقط على صدره العاري. ارتدى بنطالًا منزليا وخرج واتجه إلى المطبخ.
هااا… خلصتي الأكـــ
توقف فجأة وحدق الي المطبخ وقطب حاجبيه بغضب وتجمد بأرضه وووو
يتبع
ساحره القلم ساره احمد
🥰🥰🥰🥰🥰