نار وهدنه

نار وهدنه (الفصل الثاني )

نار وهدنه (الفصل الثاني )

الأنثى… في كل الأزمنة والوجوه، تظل وحدها القادرة على أن تحتمل الألم، وتبتلع مرارة الجرح، وتخبئ انكسار كبريائها خلف ابتسامة هادئة.
قلوب النساء مفاتيح نادرة، لا تُستنسخ. فإن أضعتها، فاعلم أنها لن تُفتح من جديد… إلى الأبد.

قد تبدو ساكنة، تتجاهل الكلمات العابرة، وتبدو للناظرين هادئة كنسيم الصباح.
لكن في أعماقها إعصار…
تعلمت أن تروّضه بالصمت، أن تسكته بحكمة، أن تُبقي عواصفها أسيرة خلف جفون متماسكة.

تتلقى الخيبات كما لو كانت دروسًا كتبت لها وحدها، وتنهض منها أكثر صلابة، أشد من الصخور، وأقوى من كل ما حاول كسرها.
ومهما بلغت من العمر، ومهما اشتدّ بأسها، تبقى في داخلها طفلة صغيرة، تفرحها لمسة حانية، ونظرة اهتمام.

لا تبحث عمن يسرق راحتها، ولا عن من يتفنن بإسقاط دمعتها…
هي فقط تحتاج من يُظهر ابتسامتها، من يعترف بأن خلف القوة التي تراها، قلبًا يتوق للاحتواء.

التفت سلطان إليها ببطء، كمن فاجأه وابل رصاص في ظهره، حاجبه مرفوع في ذهول، ونظراته لا تصدق. ثم وقف فجأة كمن نهض من قبره، وحدق فيها بنظرة نارية،

قبل أن ينفجر: يخرب بيت أبوكي يا بت البدري! انجري على البيت يا بت قبل ما أعلقك ف عمود النور!

كان الشارع لا يزال يغلي تحت أنفاس الناس، والعيون مشدودة إلى تلك الفاتنة التي تتحدى كل من فيها…
حتي توقفت أمام سلطان فخشعت جميع الوجوه …

وقفت ضي في مواجهة سلطان، وصرخت بعنف، والغضب يعصف بوجنتيها الملتهبه :أنا مش راجعة البيت…انا عايزة إخواتي يا همجي!

جحظت عيناه، وهو لا يصدق ما يسمعه منها…
وصعد الدم إلى رأسه فجأة، وشيء وحشي اشتعل في صدره…
وصاح بصوت أجش وهو يتقدم منها: قلتلك ادخلي البيت يا بت! قبل ما طلع جناني عليكي !!

لكنها صرخت بعلو صوتها، كأنها لا تهابةوقالت : مش هدخل! مش هسيب إخواتي لوحدهم! هروح لوحدي!

هنا … انفجر سلطان.
اندفع بسرعة خاطفة، وقبض علي ذراعها بعنف، وسحبها خلفه أمام الجميع، والغضب يتصبب من جبينه كعرق ساخن، وهو يسب ويلعن بصوت لا يرحم، وكأنه يشتم الشارع والحي باكمله: ماشي يا بت البدري ! هنقضيها ورك ورك قدام الناس دانا هطلع ميتن امك !!

لم تنطق ضي… فقط كانت تقاوم، تجذب ذراعها منه، لكنه كان كالجدار لا يلين….وصل بها إلى مدخل العمارة، وزجها بداخله بقوة، ثم صرخ بصوت جهوري ملأ البناية كلها:
اطلعي على شقتك دلوقتي! قبل ما أعمل فيكي مصيبة!

تجمدت في مكانها، ورفعت وجهها نحوه بعيون مشتعلة، وقالت ببطء عنيد : مش طالعه… مش هسيب إخواتي انت ملكش تحكم عليا انت مين اصلا عشان تتكلم معايا كده يا همجي !!

تجمد سلطان لثانية. كان يمكن أن ينهار كل ما فيه من غضب، لكن شيئًا آخر انفجر داخله… شيء غامض بين الحميمي والشرس.

اقترب منها فجأة، وقبل أن تفهم ما ينوي، سحبها من خصرها بجرأة وقحة، حتى التصقت بصدره،
ولفحت أنفاسه الملتهبه أذنها، وخرج صوته أشبه بتهديد همجي مميت :أنا سلطان الهواري يابت البدري..
واحسلك تطلعي عشان انا علي تك.. وممكن اقتلك وادفنك مكانك عادي اوي !!

تصلبت أطرافها للحظة… وارتجفت من توتر قربه، من نبرته، من النار التي كانت تخرج من عينيه، ومن إحساسها المربك بمدى سلطته.

دفعته بعنف، وانفلتت منه، ثم ركضت صاعدة الدرج بسرعة، وهي تلهث، وقلبها يدوي كطبول حرب.

صاح خلفها بجنون، يملأ الدرج بصوته الحارق:
لم نفسك يا بت احسنلك! عليا الحرام لهعلمك الأدب يا بت البدري!

ظل واقفًا في مكانه، لا يتحرك، قبضته مشدودة وكأنها تحمل وزر الكون كله.
أنفاسه تتصاعد من صدره كالجمر، وعيناه معلقتان بالدرج ، تتابعها وهي تفر إلى أعلى كمن تهرب من جريمة.
ثم… سمع صوت إغلاق الباب في الطابق العلوي، قويًا، حادًا، كأنه صفعة على وجه كبريائه.

لكن ما كان فيه لم يكن غضبًا عاديًا… بل كان الغضب في صورته الأكثر احتراقًا، أكثر اشتعالًا، كأن النار اشتعلت تحت جلده لا بداخله فحسب…

في الطابق الارضي ، خلف باب الشقة، كانت عايده وبطه وحياه واقفات كأن على رؤوسهن الطير.
عيونهن تراقب، آذانهن مشدودة، وأنفاسهن تكتم بصعوبة، كأن كل منهن تخشى أن تفضحها زفرة.

هتفت عايدة، بصوت حاد
ممتزج بالدهشة:مين البت دي؟! وإيه اللي بيحصل تحت؟!

رفعت بطة كتفيها في حيرة، وغمغمت بجهل:هو حد فاهم حاجه؟ المزغوده نزلت الشارع ووقفت قدام سلطان! قدام الناس كلها!
ده كويس إن ماقتلهاش ياختي !!

ضحكت حياة، ضحكة مرحة يملأه إعجاب، وقالت بنغمة مشاكسة: بس إيه! مزه جامده عجبتني البت دي، والله!
أول مره أشوف حد يقول لسلطان لأ !
يالهوي… عايزه أتعرف عليها وأصحبها والله العظيم!

نظرت بطة لها بحدة، ولكزتها في كتفها، وهتفت في امتعاض: شوفي البت فرحانة في أخوكي! يا ناقصه! يا بنت الجزمة!

انفجرت حياة في ضحكة خفيفة، وجرت إلى الداخل ، وهي تهتف بخفة دم: أعملكوا إيه؟! ما هو كاتم على نفسي!يلا بقى، شكلكوا مش واخدين بالكم إننا دخلين على أيام حلوة أوي!

خرج سلطان من البيت كأن النار تشتعل تحت جلده، لا يسير بل يضرب الأرض تحت قدميه بغضب متفجر،
كل خلية في جسده ترتجف، وكل شريان ينبض كطبول حرب لا تهدأ.
اقترب من عز الذي كان يقف إلى جوار والده وجده، فما إن رآه عاشور حتى هتف بصوت جهور ملأه الحنين:حمد الله عالسلامة يا سلطان… طولت الغيبة يا ابني.

اقترب سلطان من أبيه واحتضنه بسرعة، يحاول أن يخفي رجفة داخله لا تهدأ، وهتف متكلفا رباطة الجأش:
الله يسلمك يا با… الدنيا كانت لابش بس عدت على خير.

ربت الجد على ظهره بقوة الرجال العارفين، وقال بصوت واثق وهو يبتسم بفخر: راجل… من ضهر راجل يا جنرال الهواري.

انحنى سلطان يقبل كف جده بمحبة، ثم قال بصوت خافت: رباية إيدك يا كبير.

رمقهم عاشور بنظرة فاحصه وهتف بخفة:جرى إيه يا ولاد؟ حنفي الرشاش جاي يرمينا ببلاه ليه؟!

غمغم عز من بين أسنانه، والغضب يغلي في صوته المكتوم : ابن الحرام من كام يوم كان ديلر من عنده واقف ع الناصية، شديت معاه وعلمت عليه عشان يغور ف داهية.

أومأ عاشور برأسه، وعيناه تتوهجان بتفكير عميق، ثم قال بحدة: أحسن…لازم الكل يعرف أن الصاغة ليها كبير، ولو ماعملناش كده، هتبقى سوايقة لكل من هب ودب.

جلس الجد غانم على الكرسي الخشبي، وراح ينقر بالأرض بعكازه كمن يضرب على جرح،
ثم تمتم بصوت أجش ثقيل باللوم:والرجالة اللي اتشدت على القسم…؟

رد سلطان بثبات، وكأنه يحاول أن يطمئنهم جميعًا:
بعت لهم المحامي وياسر… وهيطلعوا.
أنا طالع أنام… ما نمتش من امبارح.

ساد صمت ثقيل، كأن الجميع شعر بوطأة الليلة الماضية، واكتفى بالصمت.
تركهم سلطان وتحرك بخطوات متعبة إلى الداخل، وصعد درجات الدرج ببطء حتى بلغ الطابق الرابع…

مر بجانب الشقة التي تمكث فيها ضي، وفجأة… ارتطم أذنه بصوت نحيب حاد،
واضح، موجع… يخرق الجدران كأن البكاء نفسه فقد خجله….

توقف لحظة، أدار رأسه نحو الباب المغلق، وهز رأسه بيأس كأنه يحدثها في سره: نواحي نواحي يا بت البدري… على أيامك السودة اللي جايه…

فتح باب شقته بعنف، ودلف بخطى باردة مشبعة بالإرهاق،

كأن جسده كله يئن تحت وطأة السهر والتعب والعراك.
توجه إلى المرحاض، أنهى حمامه سريعًا، ثم خرج وسحب منشفة يجفف بها رأسه ومكنبيه،
ارتدى بنطالًا بيتي أسود، وألقى بنفسه على الفراش كأن كل عضلة فيه تستغيث من شدة الإنهاك…

تقلب يمينًا ويسارًا، كأن فراشه تحول إلى صفيح ساخن،
بينما صدى بكاء ضي لا يبرح رأسه، يتردد في عقله كأغنية حزينة لا زر لإيقافها….

اعتدل فجأة، وفرك عينيه بغضب، وسحب سيجارة وأشعلها كأنها وسيلته الوحيدة لتهدئة البركان المشتعل في صدره…

خرج إلى الشرفة، وقف يتنفس ببطء ثقيل، ينفث دخانًا يائسا في سماء الليل…
ثم رفع عينيه… فجأة، وانحبست أنفاسه.

كانت هناك، عبر الشرفة المقابلة، جالسة، تسند ذراعيها على سور الشرفة،
وتسند رأسها فوقهما وتغمض عينيها، ودموعها قد تركت أثرا محمر على وجنتيها،

وشفتيها المتورمتين توحيان بإغواء لا يليق بحزن….

رفع حاجبيه بدهشة، وتقدم خطوة نحو السور،
حدق بها بعينين تقدح شررًا، كأن رؤيتها على هذا النحو كسر شيئا فيه،

هز رأسه سريعًا ليوقظ نفسه من فتنة صامتة،
ثم نظر حوله والتقط أحد مشابك الغسيل، وألقاه عليها دون رحمة.

فزعت ضي بفزع حاد، وتلفتت حولها بذهول ممتزج بالرعب،
لكن نظرتها تحولت إلى غضب وجنون، عندما رأته واقفًا هناك…
عاري الصدر، بجسده العريض،
نظراته تضرب كالسياط، لسان حالها يقول إنها تجمدت من صدمته…

هدر بعنف من بين شفتيه: انتي! مخك ده إيه؟ طق منك؟!إزاي تنامي كده ف البلكونة؟! انجري يابت ادخلي نامي ف السرير!

تراجعت خطوة، مرعوبة من انفعاله الذي انفجر في وجهها كالقنبلة، وصاحت:إنت غبي! وهمجي! وانت مالك؟!

عض شفته بغيظ، ورفع ساقه على سور الشرفة، كأنه يتوعد، وهدر بنبرة متوترة: أنا هوريكي الغبي والهمجي يا بنت البدري!

صرخت من الرعب، واندفعت إلى داخل الشقة، واغلقت باب الشرفة بقوة، وصرخت من خلفه: همجيييي!

ابتسم بجانب فمه، بخبث ساخر، وأنزل ساقه، وهمس :
يلعن أبو اللي دلعك يا بت البدري.

دلف إلى الداخل، التقط هاتفه، وضغط على رقم حياة
وبعد لحظات، ردت عليه بنعاسها المعتاد: ف إيه يا سلطان؟ عايز أحضرلك العشا؟

نفخ بنفور وقال: تؤه…
أنا عايزك تطلعي هنا فوق، اخت عمار بايته لوحدها…
ودي عيله طقه! باتي معاها.

فركت عينيها، وأومأت برأسها، وردت: حاضر يا أخويا… أنا طالعة.

أغلق الهاتف، ألقاه فوق الطاولة،
وألقى بنفسه على الفراش من جديد، زافرًا بضيق،
يغلق عينيه، يحاول استدعاء النوم الهارب…
لكن قلبه ظل في الخارج، واقفًا على شرفة، أمام دموع… أغوت حتى الغضب بداخله ..

…………

في الأسفل، داخل شقة عاشور الهواري…

نهضت حياة من فراشها، بدلت ملابسها بسرعة وخرجت متسللة بهدوء إلى الطابق الرابع، ثم وقفت أمام باب شقة ضي ودقت عليه بخفة.

انتفضت ضي من مكانها، وركضت نحو الباب بلهفة، ظنا أن إخوتها قد عادوا أخيرًا. فتحت الباب بسرعة، لكنها تجمدت في مكانها حين وقعت عيناها على فتاة فاتنة، يشع من وجهها المرح.

حدقت فيها ضي بتوجس وهمسة بانزعاج: إنتي مين؟

ابتسمت حياة بلطف وبشاشة وهي تقول: أنا حياة… أخت سلطان.

جحظت عينا ضي، وهتفت بصوت غاضب: إيه؟! إنتي أخت الهمجي ده؟!

عضت حياة على شفتيها بسرعة، واقتربت منها وهمسة:
ششش… اسكتي يا بنتي، ده هنا في الشقه دي ، ممكن يسمعنا! ادخلي بس وانا هفهمك.

دفعتها إلى الداخل بلطف وأغلقت الباب خلفها بسرعة. ثم نظرت إليها بابتسامة حانية وهتفت: اهدي يا حبيبتي، وتعالي… انتي اتعشيتي؟

هزت ضي رأسها بالنفي، وهمسة والدموع تلمع في عينيها: لا… أنا عايزة إخواتي، مش عايزة آكل حاجة.

ربتت حياة على كتفها بحنان، وقادتها إلى داخل الشقة قائلة:أنا سمعت سلطان بيقول إن ياسر ابن عمي خد المحامي وراح القسم… شوية وهيطلعوا إن شاء الله.

رمشت حياه بعينيها وهمسة: يعني ممكن نطلب بيتزا ونتعشى بقا؟

قطبت ضي حاجبيها بدهشة، وقالت باستغراب: انتي لسه ما اتعشيتي؟!

هزت حياة رأسها بحركات طفولية مرحة، وردت: لا، اتعشيت بس… مرتين بس والله العظيم!

ضحكت ضي برقة، وشاركتها حياة الضحك بمرح صادق.

جلسا معًا، واختارتا نوع البيتزا، ثم بدأتا الحديث… كانت حياة تحاول كسر الحاجز بينهما، وتخفف عن قلب ضي المتعب، حتى غلبهما النعاس، وسقطت كل منهما في نوم عميق، واحدة تلو الأخرى… في هدوء يشبه الهدنة بعد معركة طويلة.
………
في الصباح

أشرقت الشمس على الجمالية بنورها الدافئ، كأنها تحاول أن تمسح ما علق بالأرواح من ظلمة الليل وقسوته. في الطابق الرابع، ارتجف قلب ضي مع صوت الطرقات، لم تنتظر، هرولت ناحية الباب كأنها تجري نحو الحياة ذاتها، وحين فتحته، كان المشهد كافياً ليجعل دموعها تتسابق مع ضحكتها.

صاحت ضي بفرحة عارمة: عمااااار! علي! إبراهيم!

احتضنت إخوتها كما لو أنها تسترد أنفاسها التي سرقت منها بالأمس. كانت لحظة صدق نقية، لحظة تشبه حضن أم بعد غياب.

وفي الخلفية، ظهرت حياة تبتسم، تتابع المشهد بحنان. اقتربت من عمار وهي ترفع حاجبها بمزاح واضح:

هتفت حياة مازحة: كفارة يا زميلي… شكلك كان حلو اوي في البوكس!

التفت لها عمار وابتسم، لكنه لم يرد الابتسامة كاملة، فقط قال بنبرة ساخرة: لمي لماضتك يا حياة، يا شبر وقطع

ضحكت بخفة وقالت : عشان انت طويل يا خويا، ماشي الله يسامحك وانا اللي كنت نازله اقول لبطه تعملكم اكله حلوه بدل العيش والحلوه

ضحك الجميع، وضحكت ضي لأول مرة بصدق منذ الأمس وهتف ابراهيم بمرح : لالاا اخص عليك يا عمار دي شبر وقطع؟!

نظرت له حياه بفرحه اختفت من وجهها عندما اكمل : دي شبر ونص يا راجل …

صاحت بنزق وهتفت: وانت كمان.. دانت اول مره تشوفني! بس نقول ايه اخو عمار هيكون ايه؟!
يلا أنا زعلانه ومش جايه بيتكم تاني …

ابتسم علي وغمغم : متزعليش يا انسه هما بيهزور معاكي !!
رفعت حاجبها بدهشة وقالت: ايه الادب ده انت؟! اخوهم معقول!! لالا أنا مش واخده علي كده …

ضحكوا بمرح ..وهرولت حياه وخرجت… ولكن ما لبث أن انسحب الفرح من ملامحها، وتحولت ضحكتها إلى ارتباك، ثم إلى نظرة حائرة.

وما إن أغلقت حياة الباب خلفها، حتى انطفأ الجو، وظهر الثقل الذي كان معلقًا في صدر ضي منذ ليلة البارحة.

وغمغمت ضي بصوت متوتر: أنا مش قادرة اقعد هنا يا عمار .. أنا مش مرتاحة هنا خالص.

التفت لها الثلاثة بدهشة، فتابعت بانفعال، وصوتها مزيج بين الخوف والضعف: البيت ده مرعب…والناس كمان المكان غريب… وأنا مش حاسة بأي أمان! أنا عايزة أمشي من هنا.

اقترب إبراهيم منها، ووضع يده على كتفها برفق قال :
ضي، اهدي يا حبيبتي… إحنا بقينا سوا، ومش هنسيبك، المكان جديد علينا كلنا، وهنتعود.

لكن علي لم يحتمل، كان الغضب يشتعل في صدره، فانفجر: لا يا إبراهيم! دي مش حكاية تعود! المكان ده فعلا مش بتاعنا ولا شبهنا ، ولا حتى سلطان اللي ساكنين عنده زينا! ده راجل بلطجي ودماغه ناشفة وبتاع مصايب ، وإحنا مش ناقصين مشاكل، كل يوم مشكلة وحوار ! وإحنا هنستنى إيه؟ لما نروح في داهية بسببه؟!

نظر له عمار بصمت للحظات، لكن عينيه كانت مشتعلة، ليس بِنار الغضب، بل بنار الخذلان. ومع ذلك، قال بهدوء ثقيل: سلطان صاحبي من سنين… وعارف إنه مش ملاك، بس عمره ما خان صاحبه، وعمره ما هيسيبنا نحتاج لحد بعد أبوك، محدش وقف جنبنا غيره.

رد علي ساخر : وقف جنبنا؟! ولا وقعنا في دايرة ما بتخلصش! الجمالية مش بتاعتنا، ولا الهمجية اللي عايشين فيها دي تنفع لينا! وأنت مصمم تلبسنا في الحيط معاه، ليه؟ عشان صاحبك؟!

اوما برأسه بتأكيد : أيوه… عشان صاحبي.

ساد الصمت، وانكمشت ملامح ضي أكتر، بين خوفها وتشتتها، ووقفت في النصف ما بين أخين كل واحد بينهما يري نفسه يحميها بطريقته.

تنهد عمار بصوت مسموع، وازاح عينيه من على وجه علي، وكأنه فقط القدره علي أن يري ، ولا يسمع أكتر.

تحرك ناحيه غرفته بهدوء، دون رد أو دون كلمه

دلف الغرفة، وسحب الباب خلفه بصمت. كان الانكسار واضح عليه، وكأن كلمة بلطجي لم تكون يقصد بها سلطان، بل يقصده هو شخصيا

وخرجت ضي همس من صدرها، بصوت خافت:
أنا مش عايزة نخسر بعض… مش عايزة نتفرق تاني.

ربت إبراهيم علي راسها وغمغم : مش هنتفرق يا ضي… بس محتاجين نعدي الايام دي باي شكل … ونشوف هنمشيها إزاي…

بعد مرور وقت قصير
هدأ البيت شيئًا فشيئًا بعد أن خمدت نيران الجدال، وتفرقت الأرواح كل إلى عزلته. عمار في حجرته وسحب بابها كمن يسحب ستارا بينه وبين العالم. أما علي فتبع أخاه بعد دقائق وقد أكل الضيق منه، ونام دون كلمة.

بقيت ضي وحدها، تتقلب بين الصمت والخوف، تحاول أن تجد لنفسها موطئًا في هذا المكان الغريب الذي لا يمنحها أي إحساس بالأمان. وبينما كانت تغرق في أفكارها، انقطع السكون بصوت طرق خفيف على الباب.

تسمرت في مكانها، توترت. لكن الطرق كان خفيفًا، دافئًا، لا يحمل تهديدًا…. اقتربت بحذر، فتحت الباب نصف فتحة، ثم جحظت عيناها فور أن رأتها.

امرأة خمسينية، ملامحها فيها من الحنان ما يطمئن قلب طفلة، تحمل صينية عليها بعض الطعام الساخن، وابتسامة لا تشترى.

هتفت عابده بابتسامة دافئة : انتي ضي مش كده؟ أنا عايدة… مرات أبو سلطان.

اتسعت عينا ضي بدهشة: حضرتك… مرات أبو سلطان؟!

دلفت عايدة وقالت بحنو : أيوه يا حبيبتي، وأنا اللي مربياه كمان … تعالي بس كلي لقمتين، إنتي شكلك ما كلتيش من امبارح.

أفسحت لها ضي المجال، وهي تشعر بشيء غريب… هذا الوجه لا يمت بصلة إلى صورة سلطان كما رسمتها في ذهنها.

هتفت عابده بخجل : أنا آسفة يابنتي … والله ما كنت أعرف إنكم هنا من امبارح. عرفت بالليل متأخر ..

همسه ضي بتوتر : معلش يا طنط ولا يهمك ، اللي حصل حصل… حتي أنا كنتي تايهة ومخضوضة

جلست ضي مترددة أمامها، وكانت تنظر إليها بدهشة خفية، ثم نطقت بما يدور في رأسها دون تفكير:
حضرتك طيبة قوي… مش قادرة أتخيل إنك أم سلطان! أقصد يعني… هو… همجي شوية!

ضحكت عايدة من قلبها، ضحكة حقيقية فيها دفء أم وقالت :يووه يا ضي .. بس أنا مش أمه، أنا مراته أبوه، بس ربيته على إيدي، وبرغم شراسته وهمجيته دي… قلبه أبيض.

ثم مالت نحو ضي وهمسة بنبرة مشفقة: بس أنتي غلطتي يا ضي لما وقفتي له في الشارع قدام الرجالة… ده غلط ده سلطان مسك أعصابه، أنتي ما تعرفيش لما بيتنرفز بيبقى إيه!

رفعت ضي حواجبها بصدمة، وقالت بحدة ممزوجة بدهشة: إيه؟! ده كده كان ماسك أعصابه؟!امال لو ممسكش أعصابه كان عمل ايه ؟!

ضحكت عايدة بضحكة صافية وقالت : أيوه والله… سلطان لما بيولع، محدش يعرفش يطفي! ده ساكت لك وسايبك تتكلمي! ده إنجاز في حد ذاته.

صاحت ضي بجنون: يا سلام طب لو مكنش ماسك نفسه كان عمل إيه؟ خبطني في الحيطة مثلًا؟ ولا ضربني بمطوه ؟!

قهقهت عايدة بصوت خافت وهي تمد لها قطعة خبز:
لا يا حبيبتي، هو كان متضايق، بس عارف إنك مش فاهمة، وعشان كده كتم. بس لو حد غيرك كان قاله نص اللي قولتيه… كان زمانه الله يرحمه أو ف مستشفى المجانين !

ضحكت ضي رغما عنها، وهي تأكل على استحياء. بدأت تشعر أن المكان أقل رهبة، أو ربما تلك المرأة التي تشبه حضنًا دافئًا في وسط الزحام، خففت من وطأة المكان.
……….
في شقة ياسر الهواري…

دارت المفاتيح في الباب، وانفتح أخيرًا بعد ليلة طويلة، دلف ياسر بخطوات مرهقة، كأن كل عصب في جسده يصرخ من التعب. أغلق الباب خلفه بصوت ثقيل، ألقى مفاتيحه ومتعلقاته فوق الطاولة بلا اكتراث، كأنما يودع اليوم بكل ما فيه من ضجيج.

وقبل أن يلتقط أنفاسه، اندفعت جنات إليه، وكأن قلبها لم يهدأ لحظة طوال الليل، ارتمت بين ذراعيه بقوة، تتشبث به كمن يغرق، وتشهق بنحيبٍ موجوع: حرام عليك يا ياسر… كل ده؟!

رفع يده، وربت على ذراعيها بخفة باهتة، قبل أن يفك قبضتها عن عنقه ويهمهم بتعب واضح:محصلش حاجه يا جنات… سيبيني أريح جتتي بس.

تراجعت خطوة، تتأمل ملامحه المنهكة وعينيه الخالية من اللهفة القديمة. نظرت إليه بحزن ممتزج بخيبة أمل، تمتمت بنبرة مخنوقة: يعني إيه مفيش؟! طب واللي حصل طول الليل ده كان إيه؟! هفضل عايشة في القلق والخوف طول عمري كده؟

لم يلتفت. كان قد بدأ يتحرك ناحية الغرفة، يفك أزرار قميصه بفتور وروتين، ورد بصوت مبحوح من الملل:
وبعدين في الصوت العالي ده؟! قلتلك ألف مره… صوتك بيطلع عفريتي!!

ركضت خلفه وقد فقدت أعصابها تمامًا، وهتفت بعصبية تنضح بالخذلان : رد عليا زي البني آدمين! ما أنا لو لقيتك بني آدم مش هتعصب! أنت بتحرقلي دمي ومستنيني أضحك؟! إيه الغلب ده؟!

دلف إلى المرحاض وأغلق بابه بعنف، ثم دوى صوته من الداخل كالصاعقة: هو ده اللي فالحه فيه! أول ما تشوفي وشي لازم تنكدي عليا! دي عيشتك تقصف العمر!

انكمشت جنات فوق حافة السرير، تغالب عبراتها، لكنها لم تمنعها من الانهيار. كانت تبكي بصمت، كمن يخجل من ضعفه.
وبينما صوت المياه يحدث صخبه من الداخل، جاء صوته فجأة، عاليا حادًا: حضريلي الطفح… عايز آكل وأتخمد!

مسحت دموعها بطرف يدها، ونهضت بنفسية منهكة من بروده وجفاءه.
كم أحبته، كم تمنت هذا البيت، كم حلمت بهذه الحياة… لكنها ما عادت تشبه الحلم، بل صارت كابوس رتيب يكرر نفسه كل يوم ..

اتجهت إلى المطبخ، تجر خيبتها وراءها كظل ثقيل، تمتمت في وجع مكتوم: أنا تعبت من العيشة دي… يا رب، نفسي أفهم، أنا قصرت في إيه؟! ليه وصلنا للحالة دي؟!

أنهت إعداد الطعام، وضعت الصحون على السفرة، ثم نادت بصوت هادئ خال من الحياة: الأكل يا ياسر…

خرج من الغرفة، جلس على السفرة وبدأ يأكل في صمت مطبق. جلست أمامه، تحدق فيه بشوق، تفتش عن ملامح الرجل الذي أحبته، لكنّ البرود كان سميكًا، يخنق حتى الذكرى.

قالت بصوت خفيض: الأكل حلو؟

أومأ برأسه دون أن يرفع عينيه عن طبقه، وتمتم: آه… حلو، تسلم إيدك.

أغمضت عينيها وقالت بهمس: بالهنا.

بلع ما ف فمه وغمغم : العيال فين ؟!
إشارة بيدها وردت : عند حياه بيلعبوا !!

اوما برأسه وتناولا الطعام في صمت، صمت كان أبطأ من الموت، وأشد ضجيجًا من الكلام.
وحين أنهى طعامه، مسح يده وقال وهو ينهض: شوية قهوة… بس بسرعة، عشان مقتول نوم.

أومأت برأسها بصمت، وهمسة: بعد الشر…

مضى إلى الأريكة، ألقى بجسده المنهك فوقها، وراح يتقلب أمام التلفاز، بينما الوقت يمر.
دقائق… ثم دخلت جنات تحمل كوب القهوة، لكنها وجدته قد استغرق في نوم عميق، كأنه يهرب من كل شيء… منها… ومن نفسه.

وضعت الكوب على الطاولة بهدوء، ثم عادت ومعها غطاء، دثرته به بحنان صامت، وجلست على الأرض إلى جواره، تحدق في ملامحه الساكنة.

تذكرت عينيه حين كان يحبها، صوته حين كان يناديها بـ”يا قلب ياسر”، ضحكته التي كانت تشعل البيت فرحًا… وتساءلت:إلى أين ذهب كل ذلك؟ متى مات؟
وكيف استطاعت الأيام أن تسلبهم كل هذا الحب؟
………..
أمام بوابة المدرسة…

خرجت تقى بخطى مترددة، تمسك بحقيبتها التي وضعت بداخلها الملف الشخصي، وعيناها تبحثان عن طريق آمن تنسل منه بعيدًا. لكن خطواتها تجمدت فجأة، وصدرها انقبض في شهقة فزع حين وقع نظرها عليه… راجح، واقف أمامها وكأنه كان بانتظارها منذ دهر.

رفع حاجبًا ساخرًا، ومال نحوها بصوته الخشن:بتعملي إيه هنا يا بت؟

تلفتت تقى حولها في قلق، قبل أن ترد بنفاد صبر: بت أم تبتك! عايز إيه يا راجح؟ بطل بقا جنانك ده.

اقترب خطوة أخرى، ابتسامة عبثٍ ترتسم على وجهه، وقال بخفة:أبطل إيه طيب؟ بطلي إنتي الأول…

قطبت ملامحها بدهشة، وردت وهي تنفخ بتوتر:أبطل إيه؟ أنا اتجننت زيك مثلًا؟

أومأ برأسه بخفة، كأنما يعترف بجريمة لا يراها عيبًا، وقال هامسًا:آه… بطّلي تحلوي، وأنا أبطل أجري وراكي.”

نظرت إليه بنظرات مزيج من الحنق والغضب، وشهقت من شدة أعصابها:ابعد عن طريقي يا راجح… بدل ما أقول لسلطان، وانت عارف كويس سلطان ممكن يعمل فيك إيه.

تحركت بسرعة تحاول الإفلات، لكن راجح أمسك بذراعها بقوة، وصوته يجلجل كالرعد المكتوم: ولا سلطان ولا غيره هيوقفني، يا بت، لما أعوز حاجة.

انتفضت تقى، وسحبت ذراعها من قبضته وهي تصرخ:
إنت مش هتسكت غير لما تودينا ف داهية! أوعي بقا!

ثم أفلتت نفسها منه، وركضت بعيدًا كأن الأرض تطاردها، بينما ظل واقفًا في مكانه، ينظر خلفها بعينين يكسوهما العبث، ويتمتم بصوت منخفض: هتيجي… هتيجي يا تقى. الصبر حلو.
…………………………
في شقّة عاشور الهواري

دلف سلطان إلى داخل الشقه بخطى هادئة، والهاتف معلق بين يده وأذنه، صوته منخفض ونبرته حاسمة:
طلعوا؟! يعني لميت الحوار؟

صمت برهة يصغي، ثم أكمل: تمام يا متر… أنا هعدي عليك في أي وقت. بس هبعتلك نفحة وقتي… تشكر يا ريس.

أنهى المكالمة، وبدأ يعبث بهاتفه باهتمام، قبل أن تقترب منه عايدة بخطى متلهفة، وتحتضنه بكل قوتها كأنها استردت روحها من بين ضلوع الغياب.

قالت بحنان جارف، ووجهها غارق في صدره:اخص عليك يا واد… هان عليك تنام من غير ما تطمني عليك يا ضنايا؟

ربت سلطان على رأسها بلطف، وقبل جبينها، وابتسم وقال :حبيبتي يا ديدي… وحشتيني زي أمي. عاملة إيه يا قمر؟

ضحكت عايدة بمرح، وقبلت صدره كأنها تطبع دعاءها عليه وقالت: نفسي تريح قلبي عليك يا واد… نفسي أشوفك مبسوط مرة.

أغمض سلطان عينيه، كأن كلامها لامس وجعه العميق، وتمتم بصوت خافت:يعني بإيدي يا قلب الواد؟ أنا اتولدت لقيت نفسي مزروع في الهم ده… ومضطر أشيل شيلتي.

في تلك اللحظة، خرجت بطه من المطبخ وهي تهتف بسعادة غامرة: سلطان!يا ضنايا، حمد الله على السلامة يا ابني!

اقترب منها سلطان، وقبل رأسها بحنو وقال: وحشتيني ياما وستي الغالية… عاملة إيه يا حبيبتي؟

ربتت بطه على وجنته بحنان أصيل، وقالت: نحمده يا ضنايا، طول ما انت بخير… إحنا زي الفل.

أمسك يدها وقبلها، ثم غمز بخفة: جعان يا بطه… ليه يومين ما كلتش لقمة.

شهقت بطه وصكت صدرها وهتفت : يا ضنايا يقطعني، اقعد… الأكل هيجهز في ثواني!

أومأ برأسه، ودلف بطه على عجل تجهز الطعام، فخرجت عايدة وهي تحمل كوب لبن، وهتفت بلهجة رقيقة لكنها حاسمه : تعالى اشرب الكوباية دي يا ضنايا… تنضف بطنك من البلاوي اللي بتاكلها وانت مسافر.

ابتسم سلطان ابتسامة مشاغبة، وعض شفته قائلاً: عمرك ما تنسي يا أما ؟!

تناول الكوب من يدها، وارتشفه دفعة واحدة، ومسحت عايدة علي صدره وكأنها تطبع عليه بركة، وهمسة: اللهم صلي علي النبي ..مطرح ما يسري يمري… يا قلب أمك.

وضع الكوب جانبًا وقال: أبويا وجدي فين؟ والبت حياة فين؟ وحشتني أوي.

ردت عايدة برفق: أبوك وجدك نزلوا من بدري يا حبيبي.

وفي تلك اللحظة، فتح باب الشقة، وعلت ضحكة طفولية عذبة: سلطاااان! حبيبي!

ركضت حياة نحوه، ففتح ذراعيه، واحتضنها بقوة، دار بها في الهواء وهو يضحك من قلبه وغمغم : حياة بيت الهواري! وحشتيني يا بت!

ربتت حياة على منكبيه ، وقالت بنظرة حالمة: وحشتني يا أخويا… أنا عايزة أتجوز واحد زيك بالضبط يا سلطان، مليش دعوة.

قبض سلطان على أذنها بلعب، وقال بغيظ مصطنع:
جواز إيه يا مفعوصة؟! إنتي لسه طالعة من البيضة يا بت!

أمسكت حياة بيده تتوسل، وتمتمت بدموع مصطنعة:
آه آه خلاص… مش عايزة أتجوز خالص، حرام عليك يا سلطان ده غلط على حالتي النفسية…

ضحك سلطان، وقهقه وهو يغمغم: هو إنتي طلعلك نفسية عشان يبقى ليها حالة؟!

أجابت حياة بدهشة: أمال هتطلعلي حالة واتس؟!

ضحك، وضربها بخفة على عنقها وقال : استظراف أمك ده اللي هيجيبلك الضرب يا بت!

ضحكت حياة، وضمته بحب، وقالت: وحشتني أوي يا خويا…

ربت على منكبها بحنان، وقاطعهم صوت عايدة وهي تخرج بالطعام: يلا يا سلطان، الأكل هيبرد.

اقترب سلطان من السفرة، وجلس، ثم سأل: الهواري منزلش لسه؟

ردت بطه بابتسامة دافئة: دلوقتي ينزل يا ضنايا، عز راجع متأخر… سيبه يريح جتته، بيتعب يا قلبي.

أومأ سلطان برأسه، وجلس الجميع على الطاولة، تملأهم روح من الألفة والسكينة، كأن البيت، برغم كل شيء، لا يزال قلبه نابضا بدفء الأم، وهمس الحياة، وضلوع المحبة.

…….

خرج سلطان الهواري من بيته بخطوات واثقة، توحي بأن الأرض لا تفرش إلا لمروره، وأن الطرقات تنتظره كل صباح كطقس مقدس لا تكتمل الحاره دونه. كان طوله الفارع يفرض حضوره على كل ما حوله، رجل لا يحتاج أن يتكلم كثيرًا كي يسمع، ولا أن يعبس كي يخشى. عيونه، تلك التي تشبه عيون الصقر، لا تترك شيئًا يفلت من ملاحظته، ترصد وتراقب وتقدر الأمور بنظرة واحدة، وكأنها خلقت للسيطرة.

مر على محلات الذهب واحدًا تلو الآخر، كأنما يتفقد مملكته التي لا تغيب عنها شمس نفوذه. يدخل كل محل كالإعصار، لا يرفع صوته، ولا يحتاج إلى استعراض… الهيبة وحدها تتكفل بكل شيء. يراجع الحسابات بسرعة ودقة، يلتقط الأرقام بنظرة، ويصدر توجيهاته بهدوء من يعرف أنه لا يرد له أمر.

ينتفض العاملون ف المحلات بمجرد أن تطأ قدماه العتبة… فالجنرال لا يؤخذ على حين غرة، والخلل عنده جريمة. وبينما الشمس تعلو في كبد السماء، يكون انتهاء واستدار أخيرًا عائدًا إلى أقرب محل إلى بيته، وأكبرهم.

وقف أمامه برهة، ينظر إلى الواجهة الزجاجية كما لو كان يقرأ وجوه الذهب قبل الأرقام، ثم دلف إليه بخطوات ثابتة، كأنما عاد إلى عرشه… وقف سلطان يحمل تلك القطعه الجديده يتفقدها بدقه وهتف : راجح خد الحته دي رجعها الورشه فيها غلطه وخليهم يفتحوا عنيهم بدل ما اقلعها

اقترب منه راجح وأخذ القطعه الجديده وهتف : تمام يا جنرال

اخذ راجح القطعه بداخل العلبه وانصرف ف نفس اللحظه …دلف أحد رجال سلطان وغلفه السيده المسنه وهتف : معلم سلطان

التفت سلطان بنظرة كالسهم، وهتف بحدة: في إييييه ياض يابن الـ…؟!

أشار الرجل بيده إلى سيدة مسنه تقف بعيدًا، جلبابها يلتف على جسده الفقر،
وعينيها تناديه قبل أن يفعل لسانها، وهتف الرجل:
المعلم عز بيقولك…الحجة عايزاك من أسبوع… حفيت تسأل عنك!!

نظر سلطان للسيدة، ثم خفض صوته، واقترب منها بخطى ثابتة، وقال بهدوء فيه من الهيبة ما يكفي لإسكات الهواء : خير يا أما؟ أوامرك؟

اندفعت إليه تلك المرأة كالغريق نحو الحبل الأخير، وقبضت على كفه بشراسة يائسة، وهتفت بصوت مبحوح: سايق عليك النبي… تلحق بنتي، ولاد الحرام مش سايبينها ف حاله يا معلم سلطان!!

شد سلطان يدها فجأة، بنزق لم يستطع كبحه، وهتف:
بتعملي إيه يا اما ؟! بلاش كده … قوليلي مين دول؟ ومالهم بالبت؟

وضعت يدها على صدرها، تحاول أن تهدئ اللهيب الذي اشتعل داخله، ثم قالت والدموع تخنق الحروف:
حاطينها ف دماغهم يا ابني… وشيطانهم مصلطهم عليها… كل يوم يستنوها ويراظوا فيها …
واحد منهم اسمه شناوي، بيستنوها أول شارع المعز…
وبيهددها بصور مسكها عليها !!

نظر لها ولم يعلق.أخرج سيجارته، أشعلها، سحب منها نفسا عميقًا ثم زفره كمن ينفث الغضب ذاته،
وقال بهدوء يخيف أكثر من الصراخ: ايه اللي وده صور بنتك عنده

هزت راسها بنحيب حاد وردت بجهل : والله ما اعرف يا معلم ..احنا نمنا وصحيني لقيناه بيهددها بصور كانت علي تلفونها !!

نظر لها بنظره فاحصه كمن يقرأ أفكارها وقال : يعني بنتك مش هي اللي بعتت الصور ؟!

هزت راسها بشكل هستيري ونفت بتأكيد اعمي : لا يابني بنتي ملهاش ف الكلام ده!! حتي هي وقفه بره وخايفه تدخل ..

أشار له برأسه وغمغم بحسم : نادي عليها !!

هزت السيده راسها وهرولت الي الخارج وجهرت بالنداء علي ابنتها : زينه انتي يابت.. تعالي بسرعه كلمي المعلم!!

تحركت زينه بتوتر وخجل وهي تقبض علي ملابسها كأنها تحتمي بها ودلفت بخطوات ثقيله وهي لا ترفع عينيها وهمسة: تحت امرك يا معلم سلطان…

اقترب منها ونظر لها كما يحاول التوغل ف اعماق روحها .. تململت بتوتر وشحب وجهها من الرعب من عمق نظرته الفاحصه لها وهتف اخيرا : ازاي صورك وصلت للشناوي ؟!

اومات برأسها وهمسة بضعف وصوت بالكاد مسموع : معرفش!! هو كان بيراظي فيا كل يوم… وقبل ما يهددني بالصور بيوم بعتلي رساله علي الواتس فيها رابط من رقم غريب…وانا افتكرتها تبع الدرس عشان كده فتحت الرابط .. والله مكنتش اعرف انها منه .. لحد ما رن عليا ..ولما رضيت ولقيته هو قفلت ف وشه !!

اوما سلطان برأسه ولم يعلق وأشار لها وهتف : روحي إنتي يا ست الكل.. وخلي بالك من بنتك … مفيش دكر هيقدر يبصلها تاني ..

حاولت السيدة أن تقبل يده، لكنه سحبها فورًا وهو يقول: خلاص بقى يا وليه! أنا ناقص ذنوب؟ هاا عايزه حاجه تاني؟ ناقصك حاجه؟ ولا زينه عايزه حاجه؟!

ربتت على منكبه ودعت له من قلب أنهكته الحياة ،وغمغمت بدموع : لا يا حبيبي الشهريه بتوصل قبل معادها ومكفيانه وزياده … دانا حتي بجهز منهم زينه.. فوتك بعافيه يا ضنايا !

ظل واقف مكانه، يراقبها… حتي انصرفت
ثم أخرج هاتفه، وضغط زرا، رفعه لأذنه وهتف بصوت غليظ: بقولك… عندك طلعة…
عايز الواد شناوي، ساعة زمن ويكون قدامي… حي أو ميت ..

أغلق الهاتف، وأكمل ما تبقي من عمل حتي انتهاء …
ثم خرج من المحل بخطوات واسعه حتي دلف الي القهوه وجلس بجانب عز وياسر وسحب الاريجيل ..

نظر له عز وغمغم بحيره: كانت عايزه ايه الوليه دي ليها اسبوع رايحه جايه؟!

تمتم سلطان والدخان يتصاعد من أنفه وفمه: شناوي ابن المره مستقصد بنتها وبيحكها معها !!

ارتشف ياسر من كوب الشاي وغمغم بنزق :عيل نجس طول عمره ؟! طب هتعمل ايه !!

نظر سلطان الي السياره الاتي من اول الحاره وقال : اهو العريس وصل !!

توقفت سيارة سوداء أمام القهوة. وفتح راجح الباب ، ثم سحب من المقعد الخلفي رجلين، أحدهما يدعى شناوي، والآخر عزت. ودفعهم أرضا تحت أقدام سلطان كما تلقى الجيفه …

قال راجح بصوت كالرصاص: الوساخة حضرت يا جنرال!!
سحب نفس عميقًا من أرجيلته، وغمغم بصوت كالجليد، قال: فوقهم!!

تدحرج جسد شناوي أرضا، والدماء تسيل من أنفه، وعيناه جاحظتان من الرعب. وإلى جواره كان عزت يرتجف كريشة في مهب عاصفة.
هتف سلطان بهدوء : غير الحجر ياض….

ونهض…خطواته ليست فقط خطوات رجل، بل دك الأرض دك …تراجع الجميع للخلف وخيم الصمت علي الرؤوس…

اقترب ببطء، كأنما يطحن الهواء من حوله، حتى وصل إلى شناوي، وقبض على عنقه قبضة من حديد، ورفعه وقال بصوت عميق يهز القلوب:انت متعرفش إن المنطقة دي تحت حكم سلطان الهواري يا ابن ال**؟!
أراد الرجل أن يتكلم، لكن لسانه انعقد، وانحبس الصوت في صدره.

دفعه علي الأرض وأشار إلى ياسر دون أن يحول بصره وهدر : هات المنديل اللي في جيبك.

ناوله المنديل، فمسح به سكينا ناصعة اللمعان اخرجها لتوها من حزامه، كأنها لم تذق الدم بعد. ثم قال، بصوت أشبه بتوقيع قدر: أنا قايلها مليون مرة… اللي يمد إيده على بت في الصاغة، هقطعهلوا!!

وبلا تردد، غرس السكين في كف شناوي. صرخ شناوي صرخه مزقت الهواء، وجعلت الأرض تهتز تحت الأقدام.

اقترب سلطان من أذنه، وهمس بنبرة توغلت إلى العظم: الوجع ده بس أول سطر… انت فاكر نفسك فين؟ دي أرض الجنرال يا ابن المره…

شهق شناوي برعب، وحاول التملص، وصاح: عارف يا جنرال، والله عارف! هو ف حد هنا ميعرفش؟!

قبض على عنقه وهدر بعنف: ومتعرفش إن نسوان وبنات حارة الصاغه حتى لو عيله بترضع… تحت حماية الجنرال؟! يا ابن الاحـ…!

ارتجف شناوي بعينين زائغتين، فأكمل سلطان:التذكار ده علشان تفتكر… متبصش ف وش واحدة تاني من هنا ليوم ما تموت!

ثم ضغط بالسكين على وجنته، تاركًا خطًا داميًا محفورًا كالعار.
صرخ شناوي بألم يكاد يمزق حنجرته:حرامت! والله يا معلم، حرمت!

ضغط بالسكينه علي وجنته وهدر بفحيح حاد : تلفونك ..

أخرج شناوي هاتفه بيد مرتجفه وغمغم : اهو… اهو يا معلم!!

قبض سلطان علي الهاتف والقي به الي ياسر… وقبض علي عنقه وسحبه اليه ..وهدر بصوت منخفض لكنه يحمل صقيع حاد كنصل سكينه : الصور اللي علي تلفونك عند حد تاني يا ابن الحرام !!

هز شناوي رأسه بالنفي ..وهو يرتعد كأن شيطان تلبسه، والخوف اشتعل في عروقه كالنار : لا والله ما في جنس مخلوق شافهم !!

هز سلطان رأسه وابتسم ببرود قاتل أصاب جسد شناوي برعب نهش أطرافه وقال : لو طلع للصور دي ديل هقطع قصادها ديلك النجس!!

جحظت عينين بفزعا لا يحتمل، وارتجف جسده كمن صعق وغمغم بدموع : والله ابدا مفيش اي ديل !!

دفعه سلطان علي الأرض ببرود كاسح وتحرك بخطوات أشبه بوقع قنبله علي قلب عزت…
ارتجف جسده وفي لحظة جبن، حاول الهروب ولكنه اصطدم بصدر عز الصخري والتف حوله كسياج من النار.

اقترب سلطان منه كأنما يسير فوق روحه، ثم قبض على ياقة قميصه وهدر: ورحت معاه ليه يا ابن المت**؟!

دفعه أرضا، وقف فوقه وهتف بفحيح: رجليك اللي خدتك؟ طيب أنا هعلم عليها علشان تفتكر!

صرخ عزت بزعر : ابوس إيدك يا جنرال! مش هروح تاني ، مش هقرب منها، والله ما هاجي جنبها!والله يا معلم… أنا اتسحلت وراه، ما كنتش فاهم، ولا كنت هعمل حاجة…

نظر له ببرود مغلف بالنار ثم أمر:حد يجيب بنزين !!

أسرع أحد رجال راجح، وملأ زجاجة صغيرة، ناولها لسلطان في صمت مميت…سكب سلطان قطرات على قدم عزت، وانحنى إليه وهمس: ماشي ورا صاحبك؟ يبقى تشيل معاه النار !!

أشعل الولاعة، ورمى اللهب على القماش، فاشتعل في لحظة. صرخة عزت لم تكن صرخة… كانت نحيب ميت عاد للحياة كي يعاقب.

أطفأ سلطان النار بقدمه، وقال ببرود: طول ما رجلك بدوس أرض الجنرال عينك متترفعش لقلعهلك يا ** امك!!

ثم وقف، يحدق فيهما والدم يغمر الأرض تحتهما:
امشوا… على رجليكم… قبل ما أغير رأيي وأبعتكم بنص كفن.

تحامل الرجلان، يصرخان، يزحفون، بينما تراجع سلطان، ووقف يتأملهم بنظرة تشعل النار في الدم، ثم أدار رقبته يمينا ويسارا، وقال بنبرة هادئة كأنها لعنة: يلا… الله يحرقكم كلك!!
………………………………
في شرفة شقة عمار،

هوت ضي أرضا، وجسدها يرتجف، جحظت عينيها وهي لا تصدق ما شهدته لتوها… كانت عاجزة عن استيعاب المشهد، ذاهلة، بينما المارة في الشارع السفلي وقفوا صامتين، كأنهم تجمدوا من هول ما رأوا، لا صوت، لا حركة… فقط الرعب يلف المكان كما يلف الكفن الجسد الميت.

زحفت ضي على كفيها نحو الداخل، وصوتها المختنق يخرج بين شهقاتها: عمار! علي! ابراهيم ! إلحقوني…!

اندفع إبراهيم بخطي سريع حين اخترق سمعه ذاك النداء المبحوح، ركض إليها كالسهم، ملامحه شاحبة، شهقت عينيه قبل صدره حين رآها تزحف على الأرض والدموع تغمر وجهها.

جثا بجانبها، وطوقها بذراعيه، وهتف بفزع: ضي! ضي مالك؟ حصلك إيه؟ اتكعبلتي؟!

لم تكد الكلمات تخرج من فمه حتى لحق عمار، كأن الصوت وصل قلبه لا أذنه، وخلفه علي، كلاهما يلهث، والخوف يرتسم على وجهيهما كمن حضر مأتم دون عزاء.

ركع عمار بجانبها، وربت على رأسها بيد مرتجفة: في إيه؟ مالك يا حبيبتي؟ اهدي وقوليلي إيه اللي حصل؟

تشبثت به بذعر، كأنما تتعلق بخشبة إنقاذ وسط طوفان، وصرخت بانهيار: دم! دم كتير مالي الأرض! متوحش… متوحش يا عمار! ضرب الراجل بالسكينة… وحرق التاني قدام عينيا!

ضمها عمار بقوة وكأنما يطرد عنها الكوابيس بذراعيه، وهو يهمس بثبات زائف: اهدي يا حبيبتي… مفيش حاجة، انتي في أمان، ومحدش يقدر يقربلك طول ما احنا معاكي.

لكن جسدها ارتجف بعنف، عيناها تهيمان، وصوتها يعلو كمن يكاد يخرج من جلده: لأ! لأاا! الدم مالي الأرض! أنا عايزة أمشي من هنا! مش قادرة أتحمل! حتى الصوت كان مرعب يا عمار!

اندفع علي وأغلق باب الشرفة بعنف، كأنما يصد عنها العالم، فيما أسرع إبراهيم إلى المطبخ، عاد بكوب ماء، وسارع عمار بحملها بين ذراعيه كطفلة مكسورة ووضعها في الفراش، بينما أنينها يقطع الهواء، شهقاتها تملأ الغرفة.

ربت على رأسها، وهمس بشفقة: اهدي يا ضي… إحنا هنا يا حبيبتي.

اقترب إبراهيم، وقدم لها الماء، وهتف بقلق: اشربي يا ضي، حاولي تهدي يا قلبي… إحنا معاكي.

جلس علي إلى جوارها، أمسك يدها بحنو، وقبلها: اهدي يا حبيبتي… فترة صغيرة ونمشي، أنا مش هسيبك تعيشي في المكان ده، حتى لو هنسيب البلد كلها ونسافر. اهدي يا ضي.

غطاها عمار بلحاف ناعم، دثرها جيدًا وهو يمسح شعرها بكفه المحبة، وهمس بصوت متهدج: اهدي يا ضي عين أبوكي، هنشيلك في عيونا، يا حبيبتي.

ثم اقترب علي، ووضع يده على رأسها، وبدأ يتلو آيات من القرآن الحكيم ..بصوت خفيض دافئ، فبدأ جسدها يهدأ، شهقاتها تخفت، إلى أن انسلت ببطء في نوم مضطرب، كأنها تهرب من واقع أثقل من قدرتها على الاحتمال

…………………………………..
داخل مكتب خلف الحناوي

كان الليل قد أسدل ستاره، لكن الظلام الحقيقي لم يكن بالخارج… بل كان يتجسد في وجه خلف الحناوي، ذلك الوجه الذي تشققت فيه الخطوط كأرض قاحلة، تكشف عن باطن صدأه الحقد.

جلس على كرسيه الوثير، لا يتحرك سوى أصابعه التي تنقر نقرًا عصبيا على سطح المكتب… عينه تحدق في الفراغ، وكأنه في انتظـار صفارة حرب.

وفجأة…
انفتح الباب دون طرق، ودخل صلاح، أحد رجاله المقربين، وعلى وجهه نظرة لا تحمل بشارة.

غمغم صلاح بصوت خفيض: سلطان الهواري خدهم الجماليه ف قلب الصاغه وطبعا سعادتك عارف جنرال الصاغه

حدق خلف بغضب ، وسكن جسده ، لكن عروقه تضج كبركان على وشك الانفجار.
وهدر بصوت غليظ خافت : يعني بقوا فـ عرين الديب…

اوما صلاح برأسه وقال: بالظبط كده ، وفي وجود سلطان… ما نقدرش نوصل لهم، ولا حتى نقرب من حدود الحتة، ولا نشم ريحة الورق.

نهض خلف ببطء، كأن الأرض لا تحتمل ثقل غضبه، وتقدم نحو النافذة، يزيح الستارة بإصبعين ويراقب الليل الذي يشبه سواد صدره.
وهدر بغليان : الورق دي يا صلاح… لو طلع، تبقى كارثة… مش عليا لوحدي، على الكل!
البلد بحالها هيترج، وأنا أول رقبة هتتقطع…
فاهم يعني إيه؟ ده مش ورق… دي قنبله بتتنفس فـ وسطنا.

اقترب صلاح خطوة وقال بهدوء مدروس:
طب والعمل؟ ولاد البدري وسط الحارة… وسلطان هناك، ولو دخلنا واحنا عارفين إنه جوه، تبقى مش غلطة، تبقى جنازة…تبقي جنازتنا.

التفت خلف إليه، وشرارة في عينه لم تر منذ زمن.
وهتف بحزم مرعب : مفيش قدامنا غير نصبر.. لحد لما يسافر، لما يغيب، حتى لو يوم، هنهب عليهم هبة ما ينسوهاش…

سكت لحظة، ثم رفع صوته فجأة:احنا بس نحط ايدنا علي ضي! هي نقطة ضعفهم… وهتبقى بوابة دخولنا.

اوما صلاح بتردد: بس لو مدينا إيدنا عليها، سلطان هيفرمنا يا باشا…. هي يعتبر ف حمايته واللي وراء سلطان مش ساهلين ..
اوما خلف برود جزار وقال : لما تكون رقبتك مربوطه بشوية ورق… تعمل أي حاجه عشان تقطعها.

عاد إلى مكتبه، سحب درج صغيرا، وأخرج شيكا وعينيه تلمع كالسكين…نظر الي الشيك ثم دفعه إلى صلاح وهو يقول بنبرة ساخرة مملوءة بوعيد : ولما نشوف ولاد البدري… هيدفعوا ازاي تمن اللي فات، وتمن اللي جاي.

أمسك صلاح بالشيك، وحين نظر في عيني خلف، فهم شيئًا واحدًا…
أن دم عثمان البدري الذي اريق لن يكون الأخير قد يراق، الكثير فقط، في سبيل هذا الورق

ورق… لكنها حياة أو موت ووو

يتبع

ساحرة القلم ساره احمد

4.3 6 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
10 أيام

❤️❤️❤️❤️

Nedaa
Nedaa
10 أيام

يجنن

Rasha
Rasha
9 أيام

🌸💜

ام تسنيم
ام تسنيم
9 أيام

كل الدعم ياسرسوره 😘🥰🥰❤️