نار وهدنه

نار وهدنه (الفصل السابع )

نار وهدنه (الفصل السابع )

لا حدود واضحة بين الشوق والعداء، ولا خط فاصل بين الهيبة والاحتواء.
كل لقاء بينهما معركة، وكل انسحاب هدنة مؤقتة… ما تلبث أن تنفجر مجددًا.
فهل ينجو الحب حين يولد بين رماد الكبرياء ولهيب السيطرة؟
وهل تخضع النار طواعية لمن يجيد إشعالها؟

في شقة سلطان الهواري
مر الوقت سريعًا، وضي منكبة على كتابها، تجاهد لتستوعب ما تقرأه رغم الإرهاق الذي ينهش جسدها، ولهيب في عينيها يكاد يلتهم بصيرتها. إلا أنها أصرت على إنهاء مادة الليلة، كأنها تنتقم من الضعف الذي أرهقها طويلًا.

لكن صوت المفتاح في الباب، تلاه وقع خطوات سريعة تقتحم الشقة، فجر بداخلها ذعرًا خامدًا.
اتسعت عيناها، وانكمشت بجسدها المرتجف،وسقط الكتاب من يدها وزاحفة إلى خلف الأريكة كمن يهرب من عدوٍ لا يرى. وضعت يدها على فمها تمنع شهقتها، ودموعها تنهمر بلا هوادة. ارتجف قلبها بين ضلوعها، وهي تستشعر خطوات تقترب، ثقيلة ومخيفة… حتى سمعته أخيرًا، يهتف بصوت مضطرب يشوبه القلق: ضي؟ انتي فين يا بت؟

اندفعت من مخبئها، تصرخ بأنفاس لاهثة، تركض نحوه بكل ما تبقى فيها من طاقة، كأنها تهرب إليه من العالم كله.
ارتمت في حضنه، فرفعها بين ذراعيه دون أن يسأل، دون أن يفكر، فقط ضمها، كأن لاحتوائها أصبح فرضا لا يملك التراجع عنه. لفت ذراعيها حول عنقه وساقيها حول خصره، تنحب وتشهق كطفلة أفزعها الليل.

همس بصوت مبحوح، حنون، ومرتجف: اشش خلاص… اهدي يا بت… ليه الرعب ده؟

هزت رأسها، تشد ذراعيها حوله كأنها تتمسك بطوق نجاة، وهمسة بنحيب: خوفت… أنا مبقتش أحس بالأمان غير معاك.

مرر كفيه على ظهرها، يضمها بقوة وكأنه يحاول إدخالها في جسده، أن يخبئها داخله من العالم كله.
قال بصوت منخفض كأنما يحدث قلبه: اهدي يا ضي السلطان… أنا جيت. مقدرتش أستنى وأنا شايفك وشك أصفر وتعبانة كده.

مرغت وجهها في عنقه، تتنفسه كأن أنفاسها لا تعود إلا بين ذراعيه، وهمسة بأنفاس متقطعة: بجد… شكرًا أوي إنك جيت. كنت هموت من الخوف.

تحرك بها نحو الأريكة، جلس وهي ما تزال تلتف حول خصره بذراعيها وساقيها، كأنها ترفض أن تتركه لحظة.
رمقها بنظرة فاحصة وهتف: على الدغري كده… شكلك مكلتيش حاجة من امبارح!

أومأت برأسها بالنفي، وقالت بصوت خافت: لا… معدتي بتوجعني، مش قادرة آكل خالص.

قبض على خصرها فجأة، وهتف بغضبٍ يشوبه القلق:
ليه؟ القلق والتوتر اللي ماليكي ده مش هينفع كده يا ضي!

حاولت التملص منه، لكنه شدها إليه بقوة، حاصرها بذراعيه، وقال بحزم:ده مكانك من دلوقتي… متتحركيش.

توقفت عن الحركة، وبدت عليه نفحة من ضيق وهو يقول: وحياة عايدة… ولا حتى بطة، محدش طلع يسأل عليكي؟ ولا انتي نزلتي؟

همسة وهي تغمض عينيها: لا، طلعوا. وعايدة جابتلي أكل… وحياة جت ذاكرت معايا شوية. أنا اللي مش قادرة آكل، يا سلطان. في ألم في معدتي… اللي المفروض تأكل يعني! آكل إزاي؟

هز رأسه بغيظ خافت، وهدر: يبقى لازم نروح لدكتور… نشوف حكاية الألم دي.

وضعت يدها على صدره، وأصابعها تلهو بزر قميصه، وهمست بنعومة: بابا خدني لدكاترة كتير… وسافرت بره كمان. بس مفيش مرض عضوي. دي مشكلة نفسية… لما بخاف أو أتوتر، معدتي بتتعبني، ويحصللي غثيان ودوخة. ولما بهدى… الألم بيروح.

اقترب منها، ومرر يده على عنقها وسحبها إليه فجأة، ثم التهم شفتيها بقبلة عنيفة، فيها كل غضبه، وحرصه، وحنينه.
يداه تتنقلان على ظهرها برفق حارق، كأنهما يبحثان عن موطن ألمها ليشفيانه.
فلما تحررت من قبلته، وهمس : وهديتي دلوقتي؟ معدتك خفت؟

أومأت برأسها، وهمسة: أمم…

ضحك، ونهض بها بين ذراعيه، وقال : طيب… يلا ناكل بقى، يا جناب الحلو.

تمسكت بعنقه، وضحكت بمرح طاغي وقالت : أنا جعانة أوي!

قرص خصرها وقال بضحكة مرحة : تعالي أأكلك… يا آخرة صبري!
……………………………………..
في مكتب خلف الحناوي

بعد ساعات قليلة…حيث ما زالت رائحة الدخان والمكيدة تعبق في الأجواء

انفتح الباب فجأة على وقع خطوات مسرعة، ودلف صلاح متوترًا، وقد اختفى عنه انتشاؤه السابق، وملامحه يكسوها الارتباك.
رفع خلف عينيه ببطء، وتجمدت نظرته عليه كالسيف، وسأله بنبرة مشوبة بالريبة: في إيه يا صلاح؟ وشك مقلوب كده ليه؟

اقترب صلاح بخطوات حذرة وقال وهو يبلع لعابه بصعوبه: سلطان الهواري!!

جحظت عينا خلف، ونهض من مكانه بعنف حتى سقط الكرسي خلفه، وهدر: نعم؟!!! سلطان مين يا روح أمك؟

تراجع صلاح للخلف بسرعه وهتف بنزق: واحنا ف اول الحاره مستنين الوقت المناسب سلطان الهواري! رجع فجأة! كان داخل بعربيته واحنا شفناه من بعيد…

اقترب خلف منه حتى كاد أن يلكمه، وصاح بنبرة مجنونة: أوعى يكون شافكم؟!

لوح صلاح بيديه سريعًا مطمئنًا: لا يا باشا، اطمن… شفناه قبل ما يقرب، خدت الرجالة وهربنا ، محدش شافنا.

ظل خلف واقفًا لحظة، أنفاسه تتسارع، وعيناه تقدح شررًا. ثم ضرب بقبضته سطح المكتب بقوة وقال بغيظ مكتوم: الله يلعنك ويخرب بيتك يا سلطان! كل ما أقرب، تبوظ الخطة!

ثم لف حول المكتب، وأشار بيده وهو يزفر:خيرها ف غيرها… ماشي أنا نفسي طويل اوي ومش هسيبكم ف حالكم… لا إنت، ولا ولاد البدري !

ثم جلس ببطء، ومسح على وجهه، وغمغم: هنرجع للنظام القديم كملي زي ما اتفقنا

انكمش صلاح في مكانه، وهو يراقب خلف يتحول لوحش حقيقي، ينسج في صمت فكرة أكثر ظلمة من سواد الليل …
………………………………………………
في اليوم التالي شقة عاشور الهواري.

اجتمعت العائلة كعادتهم في يوم عائلي، حيث جاء الأبناء والبنات والأحفاد ليملأوا البيت دفئ وضجيج محبب..

كانت عليا قد حضرت بصحبة أولادها، وجلست إلى جوار جنات، التي ما إن استقرت مكانها حتى نزعت حجابها البسيط، وابتسمت قائلة بحرارة: عاملة إيه يا بت يا عليا؟ وحشتيني والله… وعز؟ عامل إيه معاكي؟

أومأت عليا برأسها، وتنهيدة صغيرة أفلتت منها وهي تهمس: الحمد لله… رضا، انتي عارفة أخوكي عصبي، بس والله قلبه أبيض.

ضحكت جنات بخفة وهتفت: ياختي! أمال ضي تعمل إيه مع سلطان؟!

ضحكت عليا بدورها، محاولة كتم ابتسامتها، وقالت بخجل:والله ضي دي صعبانة عليا… كتكوته، جوزوها لـي ديب!

قهقهت جنات بصوت مرتفع وقالت بغمزه عابثه :ده زمانه فصصها واتعشى بيها!

احمر وجه عليا خجلا ، وغمغمت وهي تنظر حولها بتوتر:
إيه اللي بتقولي ده يا جنات! اسكتي حد يسمعك!عيب كده !!

ضربت جنات كف بكف، مدهوشة وغمغمت : يابت! مش هتبطلي الكسوف الزياده ده ؟! على رأي المثل اللي اختشوا ماتوا يا حبيبتي!

لكزتها عليا في كتفها برقة، وهمسة: بس يا جنات… وسيبيني ف همي وغلبي وخيبتي اللي مش على حد.

اقتربت عايدة، وجلست إلى جانبها، وقالت بنبرة أم مشفقة:هم وغلب إيه يا بت؟! كفا الله الشر… عز كويس، عاملتي إيه في الواد؟

ضحكت جنات، بينما غمغمت عليا بنبرة مازحة متعبة:
سايق عليكي النبي يا مرات عمي… سبيني ف حالي، أنا مش ناقصة نئوزة.

جلست بطة على الأريكة، وهتفت بحماسة: نئوزة ليه يا بت؟! هو إحنا عايزين من الدنيا غير إن كل واحدة فيكم تعيش متهنية مع جوزها؟ هو إحنا ناقصين قلبة دماغ؟

حركت جنات شفاها بطريقة شعبية، وأطلقت تنهيدة طويلة وهي تقول: والنبي اسكتي… يا ما جيتي على الوجع يا حبيبتي! يعني راجل زي ياسر، فرشلي الأرض حنة لحد ما اتجوزته… دلوقتي بقينا أغراب تحت سقف واحد!

ارتشفت عايدة من كوب الشاي ببطء، ثم سألتها بهدوء:
يعني كده من غير سبب؟ اتجنن ف دماغه مرة واحدة؟ ده كلام يا بت؟

هزت جنات رأسها، ووضعت كوبها على الطاولة، ثم قالت بصوت مكسور: ورب الكعبة… بعمل اللي يطلع ف إيدي، وقيدة له صوابعي العشرة شمع… ومفيش فايدة.

ثم التفتت تبحث بعينيها وقالت: هي البت حياه فين؟

أشارت بطة نحو الغرفة وقالت : بتذاكر جوه.

أومأت جنات برأسها، ثم تمتمت بنبرة مكسورة خافتة:
ده حتى في النوم… معرفش جراله إيه! بقاله كام يوم وكل حاجة… تقضية واجب والسلام!

ضربت بطة صدرها بكفها وقالت متوجسة: ينيله الراجل ده! ده كان هيموت ع الجواز… يكون حد عمله عمل ولا حاجة يا بت!

صرخت عايدة فجأة، بانزعاج: عمل إيه وهبل إيه؟! العمل عمل ربنا يا أختي! وانتي يا بت، خليكي نغشة كده… كلي بعقله حلاوة يا هبلة، بلاش بوزك اللي أنا وانتي عارفينه ده!

وضعت جنات يدها على صدرها، وهتفت بمرارة: أنا والله أبداً! ده أنا ما سبتش حاجة إلا وعملتها… بس هو اللي جبله.

شهقت بطة، وقالت بحنقوحنون : بس يا بت! عيب يا ضنايا… اوعي تغلطي في جوزك، لا في حضوره ولا في غيابه. انتي سامعة؟

هزت رأسها في خضوع، وقالت بهمس:حاضر يا أما… ما هو اللي بيطلعني عن شعوري… الله!

……………………………………….

في قلب الصاغة، أمام محل عاشور الهواري…

تأرجحت اليافطات في الهواء الساخن، تزاحم الناس في السوق، وصوت دق الذهب يعلو ويخفت كنبض قلب متوتر.
كان عاشور الهواري جالسًا على كرسيه الخشبي العتيق، يدخن سيجارته بتأمل، بينما الشرر يطل من عينيه.

هتف عاشور، بنبرة تشي بالوجع لا الغضب:والله عيب يا رجالة… سبتوا إيه للعيال؟! لو إحنا كمان بنلعبها كده؟

غمغم العتال بغيظ مكتوم وهو يطوي ذراعيه: يا معلم عاشور، يومها انت اللي حكمت… وقلت المزاد ده عشاني!

أومأ عاشور رأسه بتثاقل، كمن يحمل الجبل بين كتفيه: حصل… ما أنكرتش.

وأشار ناحية خليفة، وقال بحدة: بس إيه لازمة اللف والدوران؟ المعلم خليفة يدخل يعلي السعر؟ كده يبقى اسمه إيه؟! ده مش شغل معلمين يا جدعان.

هتف خليفة، محتدًا وقد انفجر صوته:يا عم افهم! يومها مراتك كانت تعبانة… وخفنا المزاد يطير منك وانت لسه مجيتش!

ضحك العتال بسخرية مرة، وقال بنبرة لاذعة: أومال لما جيت، ليه منسحبتش؟! ولا المزاد كان على مزاجك؟

رفع كتفيه وتابع باستخفاف : يمكن علشان كان فـ آخره… وفات وقت الانسحاب.

عندها، فقد العتال أعصابه، ونهض بضيق مكتوم تحول إلى زئير مكتوم: اللي حصل حصل… واللي في القلب في القلب. وأنا؟ عمري ما هاصفي ليك تاني الكلام قلة أحسن!

واستدار ومضى بخطوات غاضبة، تاركًا خلفه دخان التبغ ووجع الصدور.

ظل عاشور يرمقه بنظرات منكسرة، ثم التفت إلى خليفة وغمغم بأسى: عنده حق الراجل… مابيبصش فـ وشك. أنا قلتلك بلاش، بس إنت مفيش فايدة!

وقف خليفة فجأة، وضرب الأرض بقدمه: يا عاشور! بقولك ساعتها كانت ساعة شيطان… وراحت لحالها، خلاص! غلطت… وربك عالم، وندمان!

سكت لحظة ثم أردف، صوته يتهدج بالمرارة:الغلطة بنت الحرام دي كانت كفيلة تبوظ كل حاجة!

وقف عاشور، كأن الكلام نزف من قلبه، وقال بيأس:
ـ هتفضل حمقي كده؟! مفيش حد يعرف يوقفك! خسرت صاحب عمرك… عايز تخسر مين تاني؟!

أومأ خليفة وهو ينصرف، وجهه يشع قهرًا وقلة حيلة:
خلاص… أنا عملت اللي عليا، وهو حر… كل واحد ينام ع الجنب اللي يريحه.

ظل عاشور واقفًا، يحدق في الفراغ، ثم زفر وغمغم وهو يدخل إلى محله: ربنا يهديك يا شقيقي…

……………………………………
ف مكتب خلف الحناوي .

في ذلك المكان الكائن في قلب المعركة الصامتة، حيث تنام الخطط بين الأوراق وتنسج المؤامرات في الظلال، جلس خلف الحناوي على مقعده كأنما يجلس على فوهة بركان على وشك الانفجار.
أصابعه تضغط على سطح المكتب بخشونة، وعيناه لا تكفان عن التوهج بشك دفين وغضبٍ متأهب.

دلف صلاح إلى الغرفة بخطى حذرة، يحمل في نبرته ما يشبه النبأ المشؤوم، وقال بنبرة ممزوجة بالحذر:فـي واحد اسمه المعلم حنفي الرشاش عايز يقابل حضرتك يا باشا…

لم ينظر له خلف في البداية، بل ظل مسبل العينين، غارقًا في أفكاره التي تشبه الأسلاك الشائكة، ثم تمتم بصوت خافت يقطر ضيقًا: دماغي مش رايقة أقابل حد دلوقتي… يا صلاح…

أومأ صلاح سريعًا، وكأنه خائف من تردد نفس زائد، ثم أضاف بنبرة ثقيلة:تحت أمرك يا باشا… نأجل المعاد… مع إن حنفي الرشاش لسه متعلم عليه من نفس الشخص…

هنا، التفت خلف إليه دفعة واحدة، كأن كلماته أشعلت فتيلًا كان ينتظر شرارة، عيناه تقدحان شررًا، وصاح بعنف: قصدك إيه يا حيوان إنت؟!

تراجع صلاح نصف خطوة، وكأن لسانه خان جسده، فابتلع لعابه بتوتر وسارع إلى تدارك نفسه: مش قصدي حاجه يا باشا… أصل حنفي الرشاش خسر منطقة الجمالية كلها… وميقدرش يوزع فيها ملي واحد… بسبب برضو سلطان الهواري… علم عليه هو ورجالته… فـ قلب منطقته! وخرجهم كأنهم ولاد مبارح! قفاهم يقمروا عيش… لا، ده مش يقمره، ده يحرقه بالنار… وعشان كده هو عايز يقابل حضرتك…

عاد خلف يسند ظهره إلى المقعد، يضغط على أنامله بقوة وكأن بها سر التوازن، ثم قال بصوت حاد كالسكاكين: وأنا أعمله إيه دلوقتي؟!

اقترب صلاح بخطوة واثقة هذه المرة، وجلس أمامه وهو يحاول تثبيت نبرته : يا باشا… حنفي الرشاش عامل يلطم زي النسوان من ساعة اللي حصل… واللي هيقتله إنه مش قادر يقف في وش الجنرال لوحده!
فعشان سمع إن في خلاف بينك وبين سلطان، قال يمكن تلاقوا مصلحة تحطوا إيدكم في إيدين بعض… علي سلطان الهواري!!

ساد الصمت للحظة، قبل أن يهزّ خلف رأسه ببطء، يتأمل الأمر من زوايا خفية، ثم تمتم بصوت محمل بالدهاء: خليه اشوفه … في أقرب وقت.”

انفرجت شفتا صلاح كأنه نجا من أمر ما، ثم قال وهو ينهض: تمام يا باشا… بس احنا هنعمل إيه بظبط؟

تحرك خلف على كرسيه ببطء، استدار نحو النافذة الضيقة خلفه، كأنما يحدق في المجهول، ثم تمتم بصوت يقطر حقدًا دفينًا: طول ما الورق ده مختفي… إحنا متكتفين…بس خليك فاكر… كلهم لازم يبقوا تحت عينك…
يمكن البدري يكون سايب لولاده حاجة توصلهم للورق.
إحنا لازم نوصل له قبلهم… بأي شكل.
ولو… هم… وصلوا قبلي؟
يبقى… يحصلوا أبوهم… قبل ما يلحقوا يتصرفوا.

لم ينطق صلاح بكلمة، بل فقط أومأ برأسه، وعيناه تحاولان أن تبقى ثابتة، رغم الاضطراب الذي زرعه خلف في الأجواء، ثم نهض بخطوات ثقيلة وغمغم بصوت منخفض: تحت أمرك يا باشا…”

خرج صلاح من المكتب، وأغلق الباب خلفه بهدوء، تاركًا خلف الحناوي داخل دوامة من الحقد والتخطيط، دوامة تدور بلا رحمة، لا تعرف توقفًا، ولا تؤمن بالهدنة.

………………………………………..

فوق سطح منزل خليفة الهواري…

صعدت تقى بخطى خفيفة تحمل فيها شيئًا من طفولتها القديمة… تلك التي لم تكبر أبدًا. كانت تحمل إناء الحبوب بين يديها، وعيناها تلمعان بحنين دافئ، كأنها تصعد إلى عالمها الخاص، عالم الحمام.

فتحت أبواب الغيات، فانطلق الحمام منها كزخات نور نثرت في السماء. رفرفت أجنحته بعنف، ثم تفرقت على هيئة قلوب طائرة، تسبح في الفضاء المفتوح.

وقفت تقى تراقبهم بابتسامة هادئة. قلبها خفيف، كأن جناحين قد نبتا له. وضعت الحبوب في أماكنها، وسكبت الماء في المساقي، ثم جلست تطالع مشهد السماء وكأنها تشاركه حريته.

وفجأة…

يد ثقيلة، خشنة، حجبت ضوء الشمس عن وجهها، وصوت أجش همس خلف أذنها: وحشتيني يا طعم

شهقت تقى، وتراجعت عن الحمام وكأنما صدمت بتيار كهربائي، وصاحت بفزع: راجح! يا نهارك اسود… شيل إيدك يا غبي! حد يشوفنا!

لكنه ضمها من الخلف، وتمسك بها بعناد رجل لا يفهم إلا التملك. وهمس بشيء من الغل والضعف معًا: أنا غبي؟ عشان حبيتك؟! اخس عليكي يا تقى…

دفعت ذراعه بأسنانها، وعضته بقوة حتى تأوه، ثم أفلتت منه وركضت نحو زاوية السطح وهي تصيح: الله يخرب بيتك! انت ناوي توديني ف داهية! ولا أجيب أجلك بضربة واحدة؟!

اقترب راجح منها بخطوات عنيدة، وعيناه مليئتان بالغضب والخذلان، وقال: بصي… أبوي وأبوك ما بينهم عداوة الدنيا كلها. بس أنا بحبك، وعارف إنك كمان بتحبيني. يلا نحطهم قدام الأمر الواقع ونتجوز.

تراجعت تقى، وجهها صار شاحبًا، وصوتها خرج مرعوبًا:
اللهي يجوزك ف السرايا الصفرا يا راجح… ورحمة أمي لو ما بعدتش عني لقول لأبويا يشيلك من على وش الأرض.

لكنه تجاهل تهديدها، وتقدم أكثر، وقبض على ذراعها بقوة حتى آلمها، وقال بنبرة متحدية: اعملي اللي انتي عايزاه! أنا هخليكي انتي وأبوك تجروا ورايا عشان تتجوزيني!

صرخت تقى، ودفعت صدره بكل قوتها، عيناها تقدحان نارًا:أوعي يا حيوان! يا ابن الكلب! كل حاجة عندك بالعافية؟! يا تور… أوعي!

لكنه لم يستمع، زاد ضغطه عليها، ثم همس وهو يشدها إليه: بوسة واحدة… وهاسيبك. بس بوسة!

كان ذلك كافيًا.

استجمعت تقى كل ما تبقى في جسدها من قوة وغل… وغرست أسنانها في منكبه بقسوة جعلته يصرخ:
آااه! يا بت العضاضة!

افلتها وهو يتألم، بينما هي تراجعت بعنف، تشهق وتشير له بإصبع مرتعشة: اتلم بقى! واحترم نفسك… بدل ما أبهدلك! انت اتجننت؟!

نزع راجح قميصه، وألقى به أرضًا، ناظرًا إلى آثار أسنانها الغائرة في جلده، ثم هدر بصوت حاد: احترام نفسي؟! طيب… أنا هوريكي الاحترام ع أصوله!

اقترب منها بخطى ثقيلة، مخيفة…
كأن الأرض تئن تحت قدميه.
تراجعت تقى حتى التصق ظهرها بسور السطح، وعيناها تبحثان يائستين عن مخرج، عن شيء تنجو به.

وفجأة، رأته… قالب طوب مهمل على السور، مغطى بغبار السنين.
مدت يدها المرتجفة، وقبضت عليه.

كان راجح يقترب… خطوتين… خطوة…

ثم هوت به على رأسه بكل ما تملك من يأس.

صدر صوت مكتوم… ثم ارتطام خافت، تبعه صمت ثقيل قاتل.

تراجع راجح خطوة، عيناه جاحظتان، ثم تهاوى أرضًا.

ظل جسده ساكنًا… كأنه لم يكن حيا قبل لحظات.

بقيت تقي مكانها، لا تتحرك، لا تتنفس.
تحدق فيه، في الدم الذي بدأ يتسلل من جبينه، وفي جسده المنهار.

همسة بصوت مخنوق، والبكاء يخنق صدرها:يا نهار اسود… روحت في داهية يا تقى…

ثم اندفعت هاربة نحو الدرج، تتعثر في خطواتها، تلهث، ووجهها شاحب كالأموات، حتى بلغت باب الشقة.
أغلقته خلفها، وانزلقت إلى الأرض… بلا حراك.

………………………………………

في فيلا ثروت البدري…

دلفت تهاني إلى الغرفة بهدوء، لتجد آية منكمشة على نفسها فوق الفراش، وجهها باهت شاحب، تغلفه ظلال الحزن والانكسار. جلست إلى جوار ابنتها، ونظرت إليها طويلاً قبل أن تقول بنبرة ممتزجة بالضيق والشفقة:يعني قوليلي استفدتي إيه؟ لما ركبتي دماغك وعاندتي أبوكي، عاجبك دلوقتي حبستك دي ؟؟

لم ترد آية، فقط اكتفت بالصمت، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاس متثاقلة، وكأنها تتنفس الحيرة والقهر.
هزت تهاني رأسها بيأس، وهتفت بلهجة من فقد الأمل:
هتعقلي إمتى يا بنت؟ إمتى؟

انزلقت دمعة ثقيلة على وجنة آية، وخرج صوتها مهزوزًا كأنها تلون كلماتها بالحزن:أنا عاقلة يا ماما… إنتو اللي اتغيرتوا. مش ده عمار اللي كنتم طايرين بيه من الفرحة يوم ما جه يطلبني؟ ولا عشان الظروف لفت بيه شوية بقي مش مناسب؟

اشتعل الغضب في وجه تهاني، ولكزتها بحدة وهي تهتف:
انتي اتجننتي؟ من إمتى بقيتي تردي عليا كده؟ نسيتي إن أنا أمك؟

رفعت آية جسدها الجالس، وصرخت بنشيج ممزوج باليأس:لا منسيتش، بس مش قادرة أفهم ليه وجعتوا قلبي… وانتو عارفين أنا وهو بنحب بعض من سنين!

سكتت تهاني للحظات، ثم غيرت نبرتها، محاولة التأثير عليها باللين المخادع، وقالت بصوت حنون ظاهريًا:
يا بنتي، أنا أمك، وعارفاك. انتي مش هتقدري تعيشي في مستواه، هتتعبوا، وهتنهاري، وانتي مش قدها يا آية.

رمقتها آية بنظرة دامعة وسألتها بمرارة:يعني لو كنت مراته دلوقتي، كنتوا هتطلبوا منه يطلقني؟

أومأت تهاني برأسها، وكأنها تسوق الإجابة كحكمة لا نقاش فيها، وقالت بثقة:وانتي لوحدك كنتي هتطلبي الطلاق. مكنتيش هتتحملي، يا بنتي العيشه دي مش ليكي ….

نظرت لها آية بصمت طويل، كأنها أدركت أخيرًا أن لا شيء يمكن أن يقنع هذه المرأة، ولا أمل في أن تلامس قلبها كلمات عن الحب أو الوفاء.

ربتت تهاني على يد ابنتها، وظنت لوهلة أنها انتزعت منها القناعة، فابتسمت وقالت برضا:قومي يا حبيبتي، تعالي كلي حاجة. أنا خليت الشيف يعمل كل اللي بتحبيه.

أومأت آية برأسها بلا نفس، وقلبها يئن ويضج بأصوات الغضب والخذلان، قبل أن تهمس بصوت واهن:هاخد دوش… وهاجي وراكي.

نهضت تهاني وخرجت، مطمئنة لما ظنت أن ابنتها انصاعت … بينما بقيت آية غارقة في دوامات من الأسى، تتلاعب بها رياح القهر، لا تدري إلى أي شط ستأخذها مشاعرها… لكنها كانت متأكدة من شيء واحد:
أن قلبها ما زال عند عمار… حتى لو سجِن خلف ألف باب.
……………………………………..

في شقة سلطان الهواري

جلس إلى جوار ضي، يقلب بين صفحات هاتفه كمن يبحث عن شيء يشتته عن الملل، بينما كانت هي غارقة وسط أوراقها، تذاكر لمادة ثقيلة تستعد لامتحانها في الغد.
وفجأة، وضعت الكتاب على الطاولة بأنفاس متقطعة، وأسندت جبهتها بكفها، تخفي زفرة متعبة.

التفت إليها سلطان بسرعة وقال باهتمام: مالك يا بت؟”

رفعت رأسها ببطء، وقالت بصوت خافت مشوب بالدموع:
عندي صداع…

اقترب منها وجلس قبالتها، مسح على جبهتها بكفه، ونظر في عينيها وقال ممازحًا :بجد؟ ولا بتلعبي عشان تهربي من المذاكرة؟

هزت رأسها نفيًا، وبدت على وشك البكاء وهي تهمس:
ـلا بجد… تعبانة.

وقف فورًا وقال :ماشي… هظبطلك كوباية نسكافيه تروق دماغك.

دخل المطبخ، وأعد كوبان من النسكافيه، ثم عاد وجلس إلى جوارها من جديد، ناولها الكوب وهو يقول: اشربي، وهيروح الصداع إن شاء الله.”

ابتسمت بامتنان وهمسة: شكراً.”

ثم مدت له الكتاب وقالت بصوت واهن: ممكن تشوف الحتة دي؟ مش قادرة أفهمها.”

أخذ منها الكتاب، نظر فيه متفحصًا، ثم قال متعجبًا: هي دي لغة إيه؟”

ضحكت بخفة وقالت: ألماني.

أعاد الكتاب إليها وهز رأسه يتصنع الاسف وقال: أنا ماليش في اللغات، حتى الإنجليزي مشيت فيه بالعافية.

علقت بلطف:يمكن عشان مش محتاجهم في شغلك…

رمقها بنظرة جانبية فيها مكر خافت وقال:اه، يمكن…

في اللحظة التالية، رن هاتفه، فتنهد، ونهض ببطء كأن المكالمة حملت ثقلًا اعتاد مواجهته، وخرج إلى الشرفة.

في الخارج،

وقف في زاوية شبه مظلمة، يتحدث بصوت خافت مشحون: هاا… إيه الأخبار؟

صمت لثوان، يستمع، ثم هز رأسه:حبيبي… ده كده هيجي على حجري.

سكت ثانية، ثم قال بنبرة حادة: خليك وراه، ميغيبش عن عينك… حتى لو هتموت.

اتسعت حدقته وهو يضيف:ماشي… هستناك هناك. تعالى بكرة.

أنهى المكالمة، زفر بعمق، ثم عاد إلى الداخل.

وعندما دخل،

أوقفه المشهد أمامه.
كانت ضي تغط في نوم عميق فوق كتابها، رأسها مائل، ونفسها هادئ، لكن ملامحها كانت مرهقة بوضوح.
اقترب منها بهدوء، وطأ الأرض بحذر، ثم تمتم وهو ينحني لحملها: تعالي يا بيضة… نامي على السرير أحسن.

مد ذراعيه تحتها، ورفعها بين كفيه كأنها شيء ثمين لا يحتمل الخدش.
وما إن احتواها بذراعيه حتى التفتت إليه بنصف وعي وهمسة: لسه مخلصتش يا سلطان…

ضحك وهم يقترب من غرفة النوم: خلصتي… كفاية كده.

دلف إلى الغرفة، ووضعها برفق على السرير، ونزع قميصه وانضم إليها وحين مد يده ليسحب الغطاء فوق جسدها، لاحظ تفصيلة صغيرة جدًا…

تفصيلة لم تكن لتفلت من عين رجل مثله.

أدرك، من خفة ملامح جسدها تحت القميص، ومن طريقة التفافها، أنها لم تكن ترتدي حماله صدر

توقف لوهلة، وابتسم بخبث وتمدد إلى جوارها، سحبها إليه بلطف، فاستقرت على ذراعه، وقبل أن تتكلم، مرر كفه برفق على نهديها وغمغم بصوت متحشرج :انتي مش لابسها ليه ؟

شهقت بخجل، ورفعت الغطاء بسرعة، أعطته ظهرها وهمسة بارتباك: كــ كنت نايمة… ومـ مبحبش ألبسها وأنا نايمة.

اقترب منها، التصق بجسدها، ودس وجهه في عنقها، تمتم بصوت أجش مشحون بالرغبه : حلوين اوي خليكي كده… طول ما انتي ف الشقة.

ارتعشت أنفاسها، وأغمضت عينيها، تتأمل تلك اللحظة بقلب مرتجف …كان دفء سلطان يحيط بها، يطمئنها ويشعلها في آن معًا…

مد يده أسفل القميص، مررها على خاصرتها، ثم ضغط على نهديها بجنون وفرك نهديها براحه يده ، وهمس في اذنها بانفاس ساخنه مثيره : ناعمين… وطري اوي … فاجرين يا بت…

شهقت، وامتلات عينيها بالدموع ، وهمسة بصوت خافت برجاء : لالالا …مينفعش كده عيب … شيل إيدك.

ضحك بصخب وتوقف وكأن قلبه سبق يده.
ونظر إلى وجهها، وجد دمعة صغيرة تهرب من عينيها، فمسحها برفق، وقبل جبينها، وهمس بحنان صادق:
خلاص، نامي يا ضي… عندك امتحان بكرة.

أومأت برأسها، وغطت جسدها بالخجل،
ضمها إليه من جديد، شد عليها ذراعيه كأنما يحرسها من العالم، وهمس في أذنها قبل أن تغفو: تصبحي على خير… يا ضي السلطان.

……………………………………..

في منزل ياسر الهواري…

خرجت جنات من المطبخ تمسح يديها في طرف فوطة صغيرة، بخطوات بطيئةمتعبة كأنها تحمل في قدميها أثقال الأيام. كانت رائحة الطبيخ لا تزال عالقة في ثيابها، ورنين الهاتف لا ينقطع.

التقطت الهاتف قبل أن يتوقف، وقالت بصوت خفيض مجهد: ألو…

جاءها صوت عليا قلقًا: فينك يا جنات؟ أنا بارنلك من بدري!

تنهدت جنات وجلست على طرف الأريكة، ثم قالت:
حقك عليا يا أختي… كنت في المطبخ.

ابتسمت عليا وقالت بحنو: كل سنة وانتي طيبة يا حبيبتي.

ارتجفت ابتسامة جنات، ومر في عينيها شيء من القهر القديم، ثم ردت: وانتي طيبة يا حبيبتي… ربنا يخليكي ليا، مفيش حد بيفتكرني غيرك يا عليا.

سادت لحظة صمت، ثم سألتها عليا بتردد: هو ياسر… مقلكيش كل سنة وانتي طيبة؟

هزت جنات رأسها بالنفي، وخرج صوتها متهدجًا بالدموع التي حاولت كتمها: لأ… لسه. ولو نسي زي السنة اللي فاتت… أنا مش هقدر أتحمل. والله يا عليا هتنقط…

صرخت عليا على الفور، وقد اغتاظت من حجم الألم في كلمات صديقتها وقالت :بس يا جنات! فال الله ولا فالك! ربنا يخليكي لولادك يا حبيبتي، متقوليش كده!

مسحت جنات دموعها بطرف الفوطة، وقالت بقهر مكتوم: والله الموت أهون من العيشة اللي عايشاها دي يا عليا…

شهقت عليا وصكت صدرها من هول ما تسمع، ثم قالت برجاء:في من بقك يا جنات! إن شاء الله يفتكر يا حبيبتي… وبلاش تنكدي على نفسك.

هزت جنات رأسها بصمت وقالت كمن استسلم: أدي احنا قاعدين يا عليا…

شردت عليا قليلًا، ثم قالت بنبرة خافتة : طيب… هسيبك تكملي العشا قبل ما ياسر يرجع.

ـ ماشي يا حبيبتي… سلام.

أغلقت جنات الخط، بينما ظلت عليا تحدق في شاشة هاتفها، وقد تملكها القلق، وأدركت أن على أحدهم أن ينقذ قلب صديتها من الانكسار.

رفعت الهاتف مرة أخرى واتصلت وقالت: عز؟

جاءها صوته وهو يتحرك على كرسيه: إي يا حبيبتي؟

سألته بهدوء:هو ياسر جنبك؟

اوما برأسه وقال: أيوه… في حاجة؟

ترددت قليلًا ثم قالت: لا أبدًا…بس أصله عيد ميلاد جنات بكرة، وكنت عايزة أنزل أجيبلها هدية.

قال عز فورًا: لا خلاص، أنا هجبلك كذا حاجة تختاري منهم.

هزت رأسها وقالت ماشي يا عز… مستنياك.

أنهت عليا المكالمة، بينما عز نظر إلى ياسر وقال بتهكم:
كنت ناسي… صح؟

أومأ ياسر برأسه وهو يتنهد: آه والله… الواحد مسحول سحلة سودا، بس الحمد لله إن عليا فكرتني قبل ما يتنكد عليا الشهر كله

رمقه عز بنظرة طويلة، ثم غمغم:وهي يعني لو نكدت، ما تبقاش عندها حق؟ انت بقت جبلة يا ياسر؟

نهض ياسر وقال وهو يلوح بيده بحنق: ولا جبلة ولا يحزنون! هي اللي بقت نكدية… كل يوم بوزها ٣ متر!

لكزه عز وهو يهتف: هي كانت كده قبل ما تتجوزها؟ انت اللي طلعت راجل مخك زنخ وعضمك طري صح …

توقف ياسر قليلًا، ثم قال بتنهيدة: لأ… دي كانت وردة مفتحة. امال خطفت قلبي ازاي دانا كنت بعشق ضحكتها وروحها الحلوه …

قال عز بصوت مملوء بالحزن: وأطفيت في بيتك. يعني أنت السبب ياسطا … قرب منها، شوف مالها، إيه اللي زعلها منك لدرجة إنها تبقى كده؟

أزاح ياسر نظراته عن عز ، وتمتم وهو يتحرك نحو الباب: أنت عارف… الواحد بيرجع مهدود، عايز لقمة حلوه يكلها كلمه حلوه ابتسامه تنسيه شقا اليوم مش وش مقلوب… والكلمه طالعه بالعافيه

نظر إليه عز نظرة طويلة، وقال: بس جنات مكانتش كده… وانت عارف. راجع نفسك يا صاحبي.

مط ياسر شفتيه وقال بابتسامة باهتة: انت بتقول كده عشان أختك.

لكزه عز مرة أخرى، وقال بحدة:وأنت أخويا… وعايزكم مرتاحين، مش كل واحد فيكم شايل من التاني ف قلبه لما هيطق اتكلم معها يا ياسر الكلام نص الحل

أومأ ياسر برأسه، وكأنه استشعر شيئًا من الحقيقة، ثم قال وهو يهم بالخروج: هنشوف… هروح أشوف هاجبلها إيه هدية.
…………………………………..

في شقة عاشور الهواري…

كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً حين دلفت عايدة إلى الغرفة تحمل كوبًا من القهوة في يديها. خطواتها كانت واثقة هادئة، كأنها تعرف تمامًا متى وكيف تقترب من زوجها حين تثقله الهموم.
مدت الكوب وقالت بحنو : القهوة يا معلم…

تناول عاشور الكوب وهو يبتسم ابتسامة باهتة، وقال:
من يد ما نعدمها يا أم عز.

جلست إلى جواره على الأريكة، وألقت عليه نظرة فاحصة، كانت تراقب عينيه، تلك العيون التي تحفظها عن ظهر قلب. ثم سألت بصوت خفيض لكنه حازم:
جرا إيه يا معلم؟ مالك شايل الهم كده؟

ارتشف رشفة طويلة من قهوته، وأطلق تنهيدة ثقيلة كأنها تحوي دخان الأيام كلها، ثم قال:خليفة والعتال شايطين على الآخرة… وكل ما أقول يهدوا، النار تشعلل أكتر.

ربتت عايدة على يده برفق، وقالت بابتسامة ساخرة:
يوووه ده فات يأمه على الموضوع ده! وآخرتها؟

هز رأسه في ضيق وقال:والله ما أنا عارف آخرتها! الواد راجح عايز البت، والبت وأبوها دماغهم أنشف من الحجر… وراجح أجن وألعن! وأنا بقيت مش عارف أعمل إيه.

وضعت عايدة يدها على فخذه تطمئنه، وقالت بحنان:
متقولش كده يا معلم… ده ربك حلال العقد. تبات نار، تصبح رماد… بس أهم حاجه، منقلبش فيها بالكلام.

نظر إليها لحظة، وكأن كلماتها بردت صدره، ثم تمتم بخشوع: معاكي حق يا حجة… ربنا المعين

…………………………………….

في صباح اليوم التالي،

استيقظت ضي بفزع مفاجئ، انتفض جسدها كمن أفلت من كابوس، وهتفت بأنفاس متقطعة:يا خبر… الامتحان!

خرج سلطان من المرحاض وهو يجفف شعره بمنشفة صغيرة وهتف : لسه بدري يا ضي… متخافيش، قومي البسي على رواق.

وضعت يدها على صدرها، كأنها تحاول تهدئة قلبها المرتجف، وهمسة: الحمد لله…

نهضت في هدوء مرتبك، ارتدت ملابسها على عجل، ثم خرجت معه.
غادرا الشقه استقلا المصعد ، حتى وصلا إلى السيارة.
فتح لها الباب فصعدت، وأغلق الباب خلفها برفق، ثم جلس خلف المقود، وأدار المحرك لينطلق سريعًا نحو المدرسة.

وأثناء الطريق، قال بلهجة جادة يختلط فيها الحنو بالحرص : ركزي في الأسئلة كويس… اقري السؤال مرتين قبل ما تكتبي، ماشي؟

أومأت برأسها وردت: حاضر.

رمقها بنظرة جانبية، وصوته يزداد صرامة: وخلي بالك من نفسك، متتكلميش مع حد، وخليكي ف حالك… فاهمة؟

نفخت بضيق وغمغمت : اف حاضر…
نظر لها برفعت حاجب وغمغم : وبعدين

وصلت السيارة أمام بوابة المدرسة، فتوقف سلطان، أدار رأسه نحوها وقال بحسم : أنا هستناكي هنا… ما تشيليش هم، ادخلي بالسلامة.

فتحت الباب، وترجلت ببطء وهي تومئ برأسها راقبها وهي تسير بخطى مترددة، تحاول تذكر ما قرأته في الساعات الأخيرة،

وفجأة… شق سكون الصباح صوت محرك غريب، أجش كهدير حيوان مفترس.
التفت سلطان بغريزة الذئب، وإذا بسيارتين سوداويتين تخرجان من زاوية الشارع ككابوس انبثق من العدم تجمد الزمن…كل شيء حوله بدا باهتا، باطئ، بلا معنى… إلا
ضي.

رآها واقفة في منتصف الطريق، لا تدرك الخطر الزاحف نحوها، انتفض جسده وكأن النار اشتعلت في دمه…تخبط قلبه بين أضلعه كطير مذعور، وكل عضلة فيه صرخت بالأمر ذاته: اركض!
نظر إلى السيارتين، ثم إلى جسدها الصغير الذي يعبر الطريق، والسيارات السوداء تزحف كأفعى ضخمة، تنوي التهامها في لحظة خاطفة…جف صوته في حلقه وصاح : ضي!!!
لكن الصوت لم يخرج ووو

يتبع

ساحره القلم ساره احمد

5 2 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments