نار وهدنه

ناار وهدنه(الفصل الثاني عشر)

ناار وهدنه(الفصل الثاني عشر)

الفصل الثاني عشر

قالوا:
العينُ تعشق قبل القلب أحيانًا.
فابتسمتُ، وقلبي يهمس:
بل عشقُ القلوبِ دمٌ يسكنُ الشرايين، لا تراهُ العينُ، لكنّه يُحيي الجسد.

قالوا في دهشة:
أتُحبّين من الغيب؟ من لم ترِ؟
أتُفتنين بوهمٍ وتسكنين الحيرة؟
فأجبت، وقلبي ساكن كمن أدرك سرًّا لم يُكشف بعد:
ذاك عشقُ الأرواحِ إذا تلاقَت، ما عادت حائرة، بل سكنت فينا، وسكنّا فيها.

قالوا:
وكيف لقلبٍ أن يهيمَ بلا نظرة؟
أن يعشقَ ظلًّا؟ خيالًا يتلاعب به المنام؟
فقلتُ بثقة المُجرب:
ما أدراكم بسحرِ الطيف؟ بذلك الحضور الغائب،
الذي يلامسك دون أن تراه،
يجتاحك كنسمةٍ في تموز، يبعثرُك ويجمعك في آنٍ واحد.

قالوا:
أتمنحينَ قلبكِ لحلمٍ لا يسكن أرضًا؟
فهمستُ، كأنّي أنطقُ بنشيدٍ لا يسمعه إلا من أحبّ:
ما أروع اللقاء في عالمٍ لا يسكنه أحد،
سوى أنا… ومن أحببت…
نحيا فيه بروحين تعلّقتا،
لا يُطفئُهما الفقد، ولا تُقيّدهما الحواس.

ذاك هو الحب الذي لا يموت،
حبّ الأرواح باقٍ،
أما حبّ العيون…
فكثيرًا ما كان سرابًا.

زفر سلطان بعنف، وقد اشتعلت نيران الغيظ في صدره كبركان خامد انفجر فجأة. التقط الهاتف بيده المرتجفة من فرط الحنق، وهدر بصوته الذي يشبه قصف الرعد:في إيه؟! الدنيا اتهدت على دماغك يا عر*؟!

سقط الصمت للحظة كأنه حافة هاوية.
تشنج فكه، واسودت عيناه كأنما أطفئت فيهما الرحمة، ثم صرخ مجددًا بصوت خافت مشحون: جايلك حالا !!

أغلق الهاتف بعصبية، والتفت نحو ضي. نظر إليها لحظة طويلة، كأن قلبه معلق بها رغم كل ما يشتعل بداخله.

مد كفه ومسح على شعرها بحنان متناقض مع عينيه المشتعلتين، ثم سحبها إليه فجأة وقبلها على شفتيها قبلة عميقة، طويلة، مشحونة بالقلق والاشتياق، ثم همس بصوته الأجش:هغيب عنك ساعتين بس… وارجع… نكمل….أنا هخلص المشوار ده يعني هخلصه، مفهوم؟

أومأت برأسها، وخجلها يسبق صوتها: خلي بالك من نفسك يا سلطان!

ابتسم ابتسامة سريعة، كأنها وعد صامت، ثم خطف هاتفه، واتجه إلى الباب بخطى سريعة مجنونة كريح لا يلحق بها.

خرج المنزل ..وصعد السيارة، وأدار المحرك كمن أيقظ وحش، وانطلق بها كالسهم يشق الطرقات بسرعة برق غاضب. كانت المدينة تتلوى حوله، لكنه لم يكن يرى سوى وجهته…

حين بلغ أحد المباني السكنية، أوقف السيارة بجانب الرصيف دون حتى أن يطفئ المحرك، ثم ترجل منها بخطى تطرق الأرض كالمطارق.

سحب هاتفه مجددًا، وضغط الرقم، وقال بحدة:
إنتو فين؟

جاءه صوت ياسر الصوت من الطرف الآخر: علي السطح يا جنرال.

أغلق الهاتف، ودلف إلى البناية دون أن يلتفت، خطواته واثقة… لكن تحتها بركان يكاد ينفجر.
فتح باب السطح،

وسرعان ما أبصر الغرفة الوحيدة التي تتوسط المساحة الخاوية. دفع الباب، وداخل الغرفة، كان عرفه ملقى أرضًا، جسده ساكن، ودماؤه تلطخ الأرضية الإسمنتية.

تقدم سلطان نحوه، وجثا بجانبه، ووضع إصبعه على موضع النبض، ثم رفع رأسه ونظر إلى  ياسر ثم الرجال الثلاثة الذين وقفوا بجانب الباب في انتظار أمره، وقال بصوت قاطع: لسه عايش. على المستشفى حالًا، بسرعة!

هرع الرجال إليه، رفعوه بحذر، وانطلقوا إلى الخارج، وجسده يترنح بين أذرعهم.

أشار سلطان بيده، وأردف بأمر لا يقبل المساومة:
هتفضلوا معاه… تشوفوا هيعرفوا ينقذوه ولا هيموت… ويغور في داهية. بس فتحوا عنيكم كويس اوي لو شموا خبر أنه ليه عايش هيخلصوا منه !!

أومأ ياسر برأسه وهتف: تمام يا سلطان
ثم تبع الآخرين مسرعًا…بقي سلطان وحده في الغرفة.
وقف وسطها، يتأملها بعين لا تترك تفصيلة.
الجدران متشققة… الرائحة خانقة…
أثار الأقدام واضحة على الأرض، وشيء ما، شيء لا يرى، كان يخبره أن هذه الغرفة تخبئ أكثر مما تبوح.

بدأ يتفحص الأركان…خطوة خطوة…عيناه تلتهمان كل تفصيلة…يداه تلمسان الجدران كما يلمس العارف جسد مريض يبحث عن موضع الداء…وكأنه يملك كل الوقت في هذا العالم
……………………………………..
في شقه عاشور الهواري

جلست جنات متكورة على نفسها، تتكئ على حافة الأريكة كأنما تحمل جبالًا من الحزن فوق كتفيها.

دمعة خرساء فرت من عينها، تسللت على مهل كأنها ترفض أن ترى، لكنها انزلقت رغماً عنها…عذراً عزيزتي فالقهر لا يعرف خفاء حين يفيض.

دلفت بطة بهدوء، وبيدها كوب من الشاي، وجلست إلى جوارها، تراقب ابنتها كما لو كانت تتفقد قلبا مثقوب لا يتوقف عن النزيف.

قالت بدهشة ممزوجة بحنو: مالك يا بت؟ شايلة الهم كده ليه؟ اللي يشوفك يقول عندك ميت سنة!

تناولت جنات الكوب بيد مرتجفة، وغمغمت بصوت خافت: مالي يا أما… بس عندي صداع والعيال مطلعين عيني.

قهقهت بطة بتهكم لطيف وقالت: مش على أمك الكلام ده يا بت! أنا قلبي شافك قبل عيني… متعرفيش تكدبي عليا!

أغمضت جنات عينيها وعضت على شفتيها بحنق، ثم قالت باقتضاب: وأنا هكدب ليه يعني؟ مخنوقة شوية بس.

ربتت بطة على ساقها وقالت بحنان: انتي حابسة نفسك جوه نفسك، حتى هنا ما بتجيش غير لما ألح عليكي. ليه كده يا ضنايا؟

هزت جنات رأسها بفتور وقالت:انتي عارفة ياسر طلباته ما بتخلصش، ولو جيت كل يوم هقصر معاه… وأنا مش بحب أقصر.

صمتت لحظة، ثم همست كأنها تحادث نفسها :  بس هو يقصر عادي عنده…

ارتشفت بطة من كوب الشاي ثم قالت: بصي… حلك عندي… تعالي نروح نزور السيدة زينب، هتدعي هناك وتروقي، وهتبقي زي الفل.

همست جنات بضعف: شيلله يا أم العواجز… يلا يا أما، يمكن ربنا يهدي ياسر على إيدها.

نهضت بطة  بتلقائيتها المحببة وهتفت: هحط العباية عليا وارن علي ابوكي يبعت السواق وأجيلك يا ضنايا.

اومات جنات برأسها وقالت: وانا هبعت رساله لي ياسر اقوله!!

في تلك اللحظة، خرجت عايدة من المطبخ تمسح يديها في طرف مريولها، وسألت باستغراب:رايحين فين يا جنات؟

ردت جنات بخجل بسيط:رايحين نزور مقام الست، عايزة أدعي ربنا يهدي ياسر عليا.

ابتسمت عايدة وجلست إلى جوارها، أمسكت يدها برفق وقالت بود: زيارة أولياء الله حلوة يا حبيبتي، بس بلاش تخلي بينك وبين ربنا واسطة… هو أقرب من حبل الوريد، بيسمعنا من غير ما نروح له حتة.

نظرت لها جنات بتيه وقالت: لا إله إلا الله يا عايدة، أنا مش قصدي كده… أنا قصدي إن المكان طاهر، وبيهون عليا.

أومأت عايدة موافقة وقالت بابتسامة هادئة: طاهر طبعا، بس الأرض كلها طاهرة وربنا معاكي في كل مكان.

رجعت بطة مسرعة وقالت :  يلا يا بت! متقومي معانا يا عايدة.

هزت عايدة رأسها وقالت:أنا لسه ما خلصتش الغدا، روحوا انتوا… وأنا المرة الجاية معاكم.

هزت بطة رأسها، وخرجت تتبعها جنات، وحين وصلتا لباب البيت، وجدت السيارة تنتظرهما، ترجل السائق وفتح الباب بأدب وهو يقول: على فين يا ست الكل؟

صعدت بطة وخلفها جنات، وأمرته:اطلع على السيدة زينب يا ابني.

في الطريق، كانت جنات تحدق في الفراغ، ثم همسة لنفسها: يا رب… مش عارفة اللي بعمله ده صح ولا غلط، بس زيارة الست بتريح قلبي.

ترجلت بطه وجنات من السياره امام المسجد كان الهواء ساخن رغم اقتراب المغيب، يعج برائحة البخور الممزوجة بدخان الشموع المتناثر عند أبواب المقام….

يقف المسجد العريق شامخًا في قلب القاهرة، كأنه يحتضن الحزن الآتي من كل مكان، ويمنح زائريه بعض السكينة المؤقتة.

المكان فسيح فخم، تتخلله أعمدة عالية تتزين بزخارف إسلامية دقيقة، تعكس أصالة القرون الماضية. تتراقص الظلال تحت قبابه المرتفعة، فيما ينسدل الضوء من النوافذ الملونة على الوجوه المنهكة، كأنما يغسلها من تعب الدنيا.

رجال ونساء، شيوخ وشابات، أطفال في أعمار الزهور…
وجوه مختلفة، لكن الملامح واحدة:
هم ساكن في الأعين، ورجاء خافت في القلب….

كل جاء بقلبٍ مثقل، يبحث عن فرج أو نجاة، عن دعوة لا يردها الله…

بعضهم يبكي، وبعضهم يهمس، والبعض الآخر يكتفي بالصمت، متشبثا بشباك المقام، كأن الرجاء يسكن فيه لا يفارقه.

كانت جنات تقف هناك، في ركن هادئ بجوار المقام.
ترتجف أناملها على طرف شالها وهي تقرأ الفاتحة.
كانت تتلوها بشفاه مرتجفة وقلب دامي…

وحين انتهت، رفعت رأسها إلى الأعلى وهمسة كأنها تبوح بسر دفين:يا رب… أنا فتحت عيني عليه…
وحبه اتزرع جوا قلبي من أول لحظة…بس هو خلاص؟! راح؟ يا رب رجع حبي ف قلبه … أو ريح قلبي من حبه ..

مسحت دموعها بطرف كفها المرتجف، وحين التفتت تبحث عن والدتها، لم تجدها بجانبها.

راحت تتحرك في الزحام، تتلفت بعينيها وسط المئات، إلى أن لمحت والدتها تتحدث مع جارتهم، الخالة صفية. اقتربت منها بتنهيدة ثقيلة وابتسامة متعبة:
إزيك يا خالتي صفية؟

–يا ألف هلا وسهلا، إزيك يا أم جنة؟ والله وحشتيني يا بنتي.

– وإنتي كمان يا خالتي، عاملة إيه؟ والبت نها؟

– نحمده يا حبيبتي، زي الفل الحمد لله…

لكن حديثهن قطع برنين هاتف جنات.

نظرت إلى الشاشة، ثم همسة:هرد عليه بره شوية، يا ماما.

خرجت من ساحة المسجد، وقلبها لا يزال معلقا بجدار المقام، وردت بتردد: أيوه يا ياسر؟”

صوته جاء جافا كعادته، مشحونًا بنفاد الصبر:إيه الدوشة دي؟ إنتي فين؟”

– في السيدة زينب… مع ماما.

– لسه؟! إنتو هتباتوا هناك ولا إيه؟ خلصوا وارجعوا، كفاية كده.

عضت على شفتها لتكتم دمعتها وغمغمت :احنا لسه جايين.

– يعني هتباتوا؟! اسمعي، وكفاية دلع… واعملي اللي بقولك عليه.

– خلاص حاضر، كفاية زعيق بقا…

– ما انتي لو بتسمعي الكلام مش هزعق. سلام.

أغلقت الهاتف، وهي تحاول أن تحبس شهقة تسللت من صدرها.
رفعت رأسها ببطء، وقد بللت الدموع أهدابها الطويلة، فاستقرت عيناها على شاب يقف على الطرف المقابل من الساحة.

كان يراقبها منذ دقائق.عيناه فيهما شيء لا يشبه تطفل الغرباء،
بل فضول ممزوج بدهشة واهتمام، كأن شيئا فيها قد شده من أول لحظة.

اقترب منها بخطوة واحدة، وتحدث بصوت هادئ يشبه نسمة مغافلة:حضرتك محتاجة حاجة؟ بتعيطي ليه؟ ضاع منك حد؟

رفعت جنات أهداب بارتباك، ونظرت إليه نظرة خاطفة ثم أشاحت وجهها وغمغمت :لا… شكراً.

هز رأسه، ولم يلح، لكنه ظل واقفًا مكانه، يتابعها بعينيه دون كلمة…وحين تحركت إلى الداخل مجددًا، لم يزل نظره عنها، وغمغم بينه وبين نفسه وهو يحدق في أثرها:
شكل حكايتك كبيرة…بس قمر بنت الذينه.

…………………………………………..

في فيلا ثروت البدري

كانت آية تهبط السلم الرخامي بخطى هادئة، منشغلة بهاتفها، تتابع رسائلها بملامح مستغرقة. الهواء ساكن، والصمت يخيم على المكان…

حتى تمزق الهدوء صوت خافت، لكنه حاد، تسلل من غرفة المكتب، فتسمرت في مكانها، كأن الأرض ابتلعت خطواتها.
كان صوت ثروت مشحونًا بالغضب، لم تسمعه من قبل بتلك النبرة: أنا مليش دعوة… ومكنش ده اتفاقنا! المصنع ده… مليش فيه.

جاءه رد غاضب أكثر عبر الهاتف : ولاد أخوك هما اللي دخلوا سلطان الهواري على الخط!
ولولا كده، كنت زماني حطيت إيدي على ضي، ودوختهم، وخليتهم تحت جزمتي!

عند تلك الجملة، اتسعت عينا آية دهشة، ارتجفت يدها  دون وعي. والتصقت بالجدار، تصغي لأنفاس الخيانة تتسلل من فم والدها.

ضرب ثروت بيده علي سطح المكتب، فاهتزت الأوراق، واهتز قلبها في صدرها:دي مشكلتك إنت!
أنا عملت اللي عليا، ولسه ماخدتش تمنه! الورق اللي مستنيينه ماطلعش… مع إنه مايخصنيش أصلاً!

تشنج صوت خلف، وقال بتحذير ناعم لكنه سام: أنا هعرف الورق راح فين… بس لحد ما ده يحصل، إنت معايا في نفس المركب… غصب عنك يا ثروت!

صر ثروت على أسنانه، وخرج صوته يغلي:
أنا معاك… بس مش في الخسارة! المصنع اللي اتشمع ده… أنا مليش فيه من الأصل!

صرخ خلف بحده: افهم يا بني آدم! المصنع ده كان الأساس، هو اللي بيصرف على باقي المصانع!
ابن الهواري ضربنا في مقتل…

أطلق ثروت زفرة مرهقة، وقال بيأس:والحل؟ نشتغل نفس الشغل في مصنع تاني وخلاص…

– دلوقتي لأ!
كل العيون علينا، لازم نهدى شوية… بس خليك جاهز!

أنهى ثروت المكالمة بضيق، وألقى الهاتف على المكتب، ومرر يده بعصبية على وجهه. وفي تلك اللحظة… دوى صوت اصطدام قوي! فازة زجاجية سقطت أرضا وتحطمت شظاياها، كأنها كسرت معها حاجز الخداع.

خرج ثروت من المكتب، غاضبًا، عينيه تبحث في الأرجاء كالسهم…ثم رآها.

كانت آية تقف على بعد خطوات… عيناها مشتعلة، وجهها يشبه جدارًا تهاوى عليه كل ما بنته من ثقة، وصوتها ارتجف وهي تهمس:حضرتك… متفق مع خلف ده على عمار وأخواته؟! بجد؟!”

اقترب منها بخطى سريعة، قبض على ذراعها بعنف، وصاح من بين أسنانه:لو نفس من اللي سمعتيه طلع بره…هقطع لسانك يا آية!

اتسعت عيناها رعبًا، وصاحت بانهيار: مستحيل! أنا مش قادرة أصدق! إزاي يا بابا؟! إزاي تعمل كده في ولاد اخوك؟!
عمي اللي وقف جنبك لما أعلنت إفلاسك، وخلاك شريك في المصنع من غير ما تدفع جنيه؟ بعد كل ده… تخونه؟!

صرخ فيها بجنون، ودفعها بحدة حتى ارتد جسدها على الدرج :دي حاجه ما تخصكيش! انتي تنفذي وبس!
أبوكي اتظلم…عمك اللي بتبكي عليه ده… أكل حقي قدام عيني، يعني كان عارف إنه مديون ليا، وده التمن!

هزت رأسها بعنف، دموعها تنهار وهي تصرخ: لأ… لأ!
مستحيل انكل عثمان يعمل كده!ده أطيب حد في الدنيا!

رفع يده فجأة… وصفعها! صفعة أفقدتها التوازن، أطاحت وجهها، واحمر وجنتها  كجمرة.
تقدم منها كالوحش، وقبض على ذراعها، وهو يزمجر:
يعني أنا الكداب؟ أنا اللي كداب في عيني بنتي؟
هوريكي!

سحبها إلى الأعلى، وهي تصرخ وتبكي وتقاوم، لكنه كان أقوى…ودفعها داخل الغرفة بغل، وأغلق الباب خلفها، لكن جسدها اصطدم بحافة الشرفة الزجاجية… ارتطم رأسها بها، وشق جبينها بجرح غائر!

سقطت على الأرض… صامتة… مضرجة بالدم…
فاقدة للوعي.

وبقي هو خارج الغرفة… يتنفس بغل… بينما الباب المغلق خلفه صار شاهدًا على خيانة الأب، وجرح البنت، وانهيار بيت من رماد.

……………………………………..
في شقه سلطان الهواري

دلف سلطان إلى الشقة وهو ينادي بصوت أجش متوتر:ضي… انتي فين؟

جاءه صوتها من الداخل، دافئا مرهقا: هنا يا سلطان…

توجه نحوها، فوجدها جالسة على الأرض وسط أكوام من الكتب والمذكرات، وملامحها يغشاها الإرهاق. جلس إلى جوارها، ومسح على وجنتها بكفه العريض، وقال برقة: خلصتي ولا لسه؟

رفعت كتفيها بكسل، وغمغمت بعينين مرهقتين: هانت… آخر مادة بكرة، بس والله تعبت أوي…

ربت على رأسها بلطف، وهمس كأنه يزرع وردًا على جبينها: خلصي… وعقبال النجاح، وأنا أعملك ليلة تحكي بيها الجمالية كلها سنين قدام!

ابتسمت برقة، ثم هزت رأسها نفيا، وعيناها تلتمعان بشغف خجول: لأ… مش عايزة حفلة.

أطال النظر فيها بدهشة وقال : أمال عايزة إيه يا بت؟

ضمت يديها بتوسل كطفلة ترجو فسحة، وقالت برجاء طفولي:والنبي… نفسي أروح النادي… وأنزل البول… مفيش حاجة بتغير مودي غير السباحة…

ارتسمت على وجهه نظرة قاتمة، اشتعلت عيناه كأنما يتناقش مع الشيطان في طريقة دفن الجثة. نظر إليها ببرود قاتل، وقال بصوت مشحون بالكبت: علي الدغري كده… هتلبسي مايوه؟

رفعت حاجبيها ببراءة وقالت : أكيد! أمال هعوم إزاي؟

فزت بجزع حين انفجر صوته كالرعد: أحااا يا بت البدري! هو انتي مصممة ترفعيلي الأريل ليه ؟!
مين قالك إن سلطان الهواري عر؟ ولا خو؟!

قفزت واقفة، تراجعت للخلف والدموع تلمع في عينيها:
ليه؟! ليه بتقول كده؟! أنا قلتلك إني مخنوقة، وعايزة أغير مودي…أنا ماعملتش حاجة!

اقترب منها بخطى ثابتة غاضبة، قبض على يدها بقوة:
انتي امتى هتفهمي الفرق بين زمان ودلوقتي امتي ؟!
زمان كنتي بت البدري…
دلوقتي انتي مراتي… تخصيني… بتاعتي لوحدي!
قلتلك قبل كده مش شرك مع الخلق !!

ضرب كفا على كف بذهول وغضب، وصاح: ده انتي لسه ما لبستيش لي قميص نوم يوحد ربنا…تقومي عايزة تلبسي مايوه لكل الناس؟!طيب… ما أنا أولى!

عضت شفتها بخجل، وصوتها اختنق بالدموع:
سلطان… بلاش طريقتك دي… بطل تخوفني…

لم يرد، بل جذبها من يدها بعنف، وسار بها إلى غرفة النوم، ثم إلى خزانة الملابس. فتح الأبواب بعصبية، وراح يسحب الثياب قطعة تلو الأخرى، يتفحصها، ثم يلقي بها أرضًا كمن يبحث عن شيء ضائع في النار.

نظرت إليه بذهول، وهتفت بارتباك: ليه بترمي هدومي كده؟! انت اتجننت؟!

لم يرد، فقط استمر في رمي الثياب، هامسًا من بين أسنانه كالأفعى: مفيش ولا فستان ملموم… كله مفتوح للي ما يشتري يتفرج! مين قالك إن لحمك رخيص؟!

هزت رأسها وهي تبكي: لأ طبعًا! إيه لحمك رخيص ده… انت اتجننت؟!

اقترب منها، قبض على ذراعها بشراسة وصاح : من النهارده… مفيش اللبس ده تاني.هننزل نشتري لبس على كيفي…
ومفيش هدمه تلمس جتتك غير لما تعدي عليا الأول… مفهوم؟

هزت رأسها بالإيجاب، وصاحت باكية: فاهمة… سيب إيدي! حرام عليك…

دفعته وحاولت التراجع، لكنه سحبها من خصرها فجأة، رفعها بين يديه كمن يسرق أنفاسها، وهمس أمام شفتيها بنبرة مشتعلة: طالما عايزة تلبسي مايوه…البسيه…
وفرجيني…أنا أولى بيه…
وعلى الحرام… هخليكي تفتكري اللحظة دي العمر كله…

لكزته في كتفه بضعف، وهمسة بخوف مرتجف:سلطان… حرام عليك…كلامك بيخوفني…

ضغط على خصرها، وهمس أمام شفتيها بصوت متقد:
كلامي بيخوف؟ أمال الأداء يا بت ؟
ده أنا هطلع عليكي القديم والجديد يا بت البدري…

شهقت، وفتحت فمها لتصرخ، لكنه التهم شهقتها… قطم شفتيها بقبلة عنيفة، شفاهه تشتعل فوق شفتيها، ويده تمر على خصرها بشراسة، قرصها فارتج جسدها، ففتحت فمها بلا وعي، فدس لسانه فيه بشغف متوحش… يقبلها وكأنما يملكها بالنار لا بالحنان.

ما إن تراجعت ضي عن أنفاسه، حتى كانت شهقتها الأخيرة ما تزال عالقة بين فكيه، تتأرجح على أطراف لسانه كأنها تنهيدة محتجزة في جوف العاصفة.

أبعد وجهه عنها قليلًا، دون أن يتركها… كانت قبضته ما تزال تطوق خصرها، وقدمها لا تلمس الأرض ، وعيناه تشتعلان بنظرة لم تعرف لها اسمًا… مزيج من الشغف والجنون والتهديد.

همس لها بصوت خافت، كمن يتلو تعويذة لا مغفرة بعدها:أنا مش بس بحبك… أنا بعشقك، فاهمه؟ يعني لو فكرتي في غيري… أو حتى في نفسك بعيد عني، هتبقي بتلعبي بالنار… وساعتها، النار دي مش هتسيب فيكي حاجه من ضي… غير الرماد.

شهقت، لكنها لم تبتعد.
العتمة كانت تشتعل بينهما، والشوق يزداد وحشية.

تابع، وهو يزفر بأنفاسه المشتعلة عند أذنها: انتي ليا… بالجرم، بالنية، باللحظة… وكل نقطة دم بتجري فيكي، تحت أمري.

ثم انخفض ببطء إلى عنقها ومرر لسانه علي بشرتها ولعقها… كمن يختم وثيقة ملكيته الخاصة، وترك شفتيه تنزلان هناك ببطء ناري.

طبع قبلة طويلة، كأنما يختم بها جسدها بخاتمه الأبدي… ثم عاد يعضها برفق أولًا، ثم بشراسة مشتهاة.

تأوهت… رغبة أو ألما؟ لا تعرف… لكنها لم تبعده.

تمتمت بنبرة مرتجفة: سلطان… كده كتير…براحه!!

رفع رأسه ببطء، ونظر في عينيها وكأنما يقرأ حكم ملك على أرض مغتصبة واستعادها: أنا لسه ما بدأتش، يا ضي…

همسة بفزع ناعم وشهقت انعم : هتعمل فيا إيه؟

ابتسم، لكن ابتسامته لم تكن إلا قناعًا لنية لا تعرف الرحمة، وهمس: هأحط ناري في كل حته فيكي… لحد ما تبقي بتحلمي بيا حتى وانتي صاحيه…

ثم طبع قبلة نارية أخرى على رقبتها، أعمق… أشهى… أكثر لهيبًا.

وبين الشهيق والزفير… لم يبق من ضي شيء، سوى اسمها.

ظلت أنفاسها متلاحقة، وعنقها يشتعل من قبلة ما زالت تنبض كأنها ندبة من نار…
لم يكن سلطان قد انتهى… بل بالكاد بدأ.

رفع وجهه إليها ببطء، وهو يزفر فوق بشرتها أنفاسًا كأنها حريق من فحم مشتعل.
عيناه كانتا موصولة بنبض قلبها… يرصدان كل رعشة، كل شهقة، كل قطرة خوف وهمس : انتي حاسه؟
قالها وهم يده تتحسس بشرتها ببطء، كأنها أرضه الجديدة،

وتابع بصوت أجش لامس جدار عقلها وأذاب أعصابه: حاسه ناري؟ ده أنا لسه ما لمستش فيكي غير الوش، ولسه تحت الوش… فيه ألف شهقة مستنياها تطلع… وأنا؟ جاي أطلعهم كلهم.

رفت رموشها بخجل مهزوم… لكنها لم تتزحزح، كانت كأنها مسلمة للقدر.

أدخل يده أسفل قميصها ببطء، ببرود من يعرف أن لا شيء سينقذها من هذا المصير، وهمس عند أذنها: عارفه يعني إيه لما الراجل يبقى جعان؟ جعان ليكي… من سنين…كل مرة كنتي قدامي ومش باخدك؟
كنت بربي الجوع ده، أسيبه يكبر،
عشان أول مرة… تبقي نار …

عض على شحمة أذنها بنعومة قاتلة، جعلتها تئن بصوت خرج من صدرها رغمًا عنها…صرخت هامسة: سلطان… إهدا شويه…

ضحك… ضحكة هادئة، مخيفة، ساخرة، ثم هدر بصوت منخفض: ده أنا في أول النار… استني تشوفي لما أوصل للاخر وانفخر جواكي

انحنى حتى باتت أنفاسه تحرق صدرها، يداه تطوف ببطء على كل موضع يثير، يزرع ناره كما وعد.

همست برجاء دامع: سلطان… أنا… بتلخبط…

رفع رأسه ونظر في عينيها بعمق، وصوته ينفذ فيها كطلقة: هتتلخبطي…
وهتعيشي العمر كله تفتكري أول لمسة،
لما سلطان الهواري قرر…إنك خلاص…بقيتي مراته… مش على الورق..على الجسم… والروح… انا عارف انك لسه مش مستعده وانا مش مستعجل هعيشك لحظات تخليكي انتي اللي تتمني ااقرب واكمل …

ثم طبع قبلة نارية عند عظمة كتفها، سال بها جلدها ارتجاف…
قبلة من نار… في وسط هدنة،
هدنة تشبه الاشتعال… لا الهدوء.
……………………………………….
في شقه عز الهواري

خرجت عليا من المطبخ تحمل صينية صغيرة عليها كوبان من العصير، ووجهها يشبه نافذة مطفأة لم تطرقها شمس منذ زمن. وضعت الصينية على الطاولة بابتسامة باهتة، وهتفت: والله نورتيني يا مرات عمي

ابتسمت عايدة بود صاف وقالت: ده نورك يا لولو.

جلست عليا إلى جوارها، ومدت لها كوب العصير برقة:
اشربي يا حبيبتي، الجو حر.

أخذت عايدة الكوب ونظرت إليها نظرة طويلة، ثم قالت بنبرة خفيفة لكن حادة: تسلميلي… إنما قوليلي يا بت، هو عز ماله اليومين دول؟ وشه مهموم كده ليه؟ ده بقى عامل زي اللي شايل الدنيا فوق دماغه، وكأن العمر داس عليه فجأة.

خفضت عليا نظرها، وصمتت لحظة كأنها تبتلع الكلمات قبل أن تخرج، ثم تمتمت بصوت خافت: والله يا مرات عمي ي… مش عارفة أقولك إيه؟!

اقتربت منها عايدة قليلاً، ومدت يدها تتحسس كف  عليا، وقالت بصوت حنون: بصيلي… هو في إيه؟ من أول ما دخلت وأنا شايفة عنيكي مطفية، وكأنك مش هنا. قوليلي يا بنتي، إيه اللي مكدر عيشتكم؟ ليه وشك كده كأنك شايلة سر تقيل؟

لم تحتمل عليا أكثر… ارتجف صوتها، وسالت دمعة حارة على خدها، ثم همسة:أنا تعبت… ومش قادرة أفضفض لحد… بس حاسة إني بنهار من جوا.

وضعت عايدة الكوب جانبًا، وأمسكت بيديها قائلة:
قولي يا حبيبتي، مرات عمك هنا، وسامعة بقلبها قبل ودانها.

تنهدت عليا تنهيدة طويلة كأنها تزيح بها ثقل جاثم فوق صدرها منذ سنوات، وقالت بصوت مكسور: كل الحكاية… إني مش قادرة أكون الست اللي عز محتاجها… مش قادرة أقدمله اللي بيدور عليه… مش لأني مش بحبه، بالعكس، ده أنا بحبه من قلبي… بس في حاجه جوايا مقفولة… حاجه مش راضية تتفتح.

صمتت للحظة، ثم تابعت وعيناها لا تزال معلقة بالأرض:
من ساعة الجوازة، وأنا حاسة إني بردانة… مش قادرة أقرب، ولا أطلب، ولا حتى أفكر… كل ما يقرب مني، جسمي يتشنج، كأني بخاف… بخاف من حاجة معرفش أوصفها، بس بترعبني… وكل ده مش بايدي.

نظرت إليها عايدة بوجع، وضمتها برفق دون أن تقاطعها، فتابعت عليا بصوت أضعف: أنا… أنا متختنة يا مرات عمي ..

ارتجف وجه عايدة، لكنها تماسكت، وشدت على يدها دون أن تنطق بكلمة.

أكملت عليا بنحيب :  من يومها، وأنا اتسرق مني جزء كبير… ومع التربية اللي كنت فيها، اللي كل حاجه فيها عيب وحرام ومتسأليش، بقيت مش عارفة حتى أفهم نفسي. ماما عمرها ما قعدت معايا وفهمتني… كل اللي كانت بتقولهولي: اسكتي… عيب… البنات المحترمة ماينفعش تتكلم كده .. فكبرت على إن كل لمسة خوف، وكل نظرة ذنب، وكل إحساس عار.

تنهدت، ومسحت دموعها بطرف كمها وهي تهمس:
عز مش غلطان… راجل طبيعي… عايز حياة طبيعية… بس أنا جوايا برد، وكسوف، ورعب… ومش عارفة أخرج من دايرة السكون دي.

ظلت عايدة صامتة لحظات، كأنها تختزن وجع ابنتها قبل أن ترد، ثم قالت بنبرة تجمع بين الحنو والحزم:
يا بنتي، اللي انكسر فيكي مش ذنبك… واللي اتسرق منك، انتي مش مسؤولة عنه… إنما دلوقتي، انتي مسؤولة عن نفسك، وعن جوزك، وعن بيتك. اللي حصل زمان خلف وجع، بس الجرح مش لازم يفضل مفتوح. لازم تتعالجي، نفسك قبل جسمك … ولازم تفهمي إن اللي بتحسيه مش عيب، ده حقك وحق جوزك .

نظرت لها عليا بدموع متشبثة بالرجاء وإشارة بيدها كمن يتعلق بطوق نجاه ف وسط عاصفه وقالت : بس أبدأ منين يا مرات عمي؟! أروح لمين؟! ده أنا حتى مش بعرف أتكلم عن اللي جوايا!

ابتسمت عايدة، ومسحت دموعها، وقالت: تروحي لنفسك الاول وانا هكون معاكي خطوة بخطوة. في دكاترة ممكن يساعدوكي… وفي ناس فاهمة. والأهم من

ده كله… إنك تصدقي إنك تستحقي تتحبي، وتعيشي زي كل ست.

صمتت لحظة، ثم أضافت بنبرة أهدأ: وسيبلي أنا عز… وهتكلم معاه، عشان يفهم إنك مش بتعانديه… إنتي بتعاني… وإنه لو عايز بيته يعيش، يبقى واقف جنبك مش ضدك.

تأملت عليا وجه عايدة، كأنها ترى للمرة الأولى يدا
تمد من قلب الظلام…
هزت رأسها، وداخلها شعور خافت بالأمل… خافت لكنه موجود….

…………………………………………
في قلب الحارة

توقفت سيارة سلطان عند طرف الزقاق، وانفتح الباب بهدوء. دار سلطان حولها، وفي عينيه حذر صامت، ثم مد ذراعه ليسند راجح، الذي خرج مترنحًا، يتكئ  على جرحه بيد، وعلى سلطان بالأخرى.

قال سلطان وهو يثبت قبضته حوله: انزل يا راجح على مهلك، ياض…

تنهد راجح، وحاول أن يتماسك، بينما العتال الذي كان يتبعهم همس بقلق: براحة يا ابني، ده والله ما كان ليك خروج من المستشفى دلوقتي، جرحك لسه أخضر!

هتف سلطان وهو يفتح باب البيت: قولت والله يا عمي، بس نقول إيه؟ دماغه ولا حجر صوان.

تمتم راجح بصوت واهن وهو يخطو للداخل: يا جدعان… أنا ما بحبش ريحة المستشفيات… أنا هرتاح هنا في البيت، أحسن…

سار بهم سلطان إلى الغرفة الداخلية، وساعده على التمدد فوق الفراش، ثم جلس جواره، وابتسامة شاحبة ترتسم على ملامحه القاسية: أنا اتفقت مع الدكتور، هيعدي يبص على الجرح كل يوم، لحد ما تقوم بالسلامة… تراضيني بقا، يا سيدي!

ضحك راجح، وصوته يعلو رغم الألم: ربنا ما يحرمني منك، يا شقو!

أشعل سلطان سيجارته، وأطلق زفرة طويلة من الدخان قبل أن يقول: خلاص بقى يا نحنوح، خلينا فـي المهم.

سحب راجح السيجارة من فمه وغمغم بتنهيدة محملة بالشوق: وحشني الحشيش اللي في سيجارتك، أوووي يا جنرال…

ابتسم سلطان ابتسامة جانبية وقال: اطفح يا خويا، مش خسارة فيك.

زفر راجح سحابة دخان وهو يتلمس جرحه، وتنهد:  عشرة ع العشرة… كنت حاسس دماغي بتكلني والله!

أشعل سلطان سيجارة أخرى، وبدأ يحدثه بنبرة صارمة: الخـ** اللي ضربك طلع من صبيان الرشاش، وعلى ما وصلت كان صفوه !

تقلص وجه راجح بالغضب، وصرخ من بين أسنانه: يا ولاد الـمـ*

هز سلطان رأسه وقال: بس كان لسه فيه نفس… هو دلوقتي في المستشفى.

حاول راجح النهوض رغم الألم، وهتف بعزم متفجر:  طيب، يلا… مستني إيه؟

أجبره سلطان على الجلوس مجددًا، وهدر بنفاد صبر:  اقعد ياض، إنت مش هتبطل خفية؟ خد نايبك صبر، أنا بكلمهم… الرجالة قالوا إنه لسه ما فاقش، وأنا علمت عليهم، بس العر* ده شكله وراه حاجة مش سهله !

هز راجح رأسه، وعينيه تلمعان بعناد: ماشي، أنا عارف إنك مش هتسيبلي حقي يبات… بس أنا مغلوب، ولازم آخد حقي بإيدي… بدل ما أتنقط!

لكزه سلطان في كتفه وقال: وأنا وإنت إيه يا ابن الـعـ**

رفع راجح يده ورد بابتسامة متعبة: واحد يا شقو، وعشان كده… إنت حاسس بيا.

هز سلطان رأسه بتأكيد وقال: حاسس بيك، ياض… وهسيبك تشفي غليلك… لما تستكفه على الأبيض.

ضحك راجح وأشار له بحماس:أبيض علي الأبيض، يا جنرال!

نهض سلطان وهو يشد ياقة قميصه: هجيلك تاني، ياض.

غادر بخطوات سريعة، وأغلق الباب خلفه. أما راجح، فقد ظل وحده، وعيناه تتقلبان في السقف كأنما تستعرضان شريط من الغدر.

أخرج هاتفه، وفتح صورة كانت لتقى، التقطت دون علمها… من بعيد.

تنهد، وهمس بكلمات تحترق في صدره قبل أن تخرج: كده يا تقى؟… مكنش العشم، يا بنت عم خليفة. بس أنا اتأكدت… مفيش ليا مكان جواكي… بس برضه مش هعتقك. لازم أزرع فيكي نار… تاكلك من جوه، زي النار اللي بتاكل قلبي من تحت راسك يا تقى… لازم تتكوي بناري، زي ما اتحرقت فـي نارك.»
………………………………….
في اليوم التالي

توقفت سيارة سلطان ذات اللون الأسود الفاخر على جانب الطريق، وقد ارتكز بمرفقه فوق النافذة المفتوحة، وعيناه الزائغتان تتفحصان بوابة المدرسة كمن ينتظر خلاصه من سجن طويل.

النار في جوفه لم تكن من حر يونيو، بل من اشتياق يأكل أطراف روحه ويذيب جلده على مهل.

وأخيرًا… أطلت.

خرجت ضي بخطوات متثاقلة، حقيبتها المدرسية معلقة على كتفها، وعيناها نصف مغمضتين من إرهاق لم يرحمها منذ الفجر.

لمحته واقفًا بجوار السيارة، فانبسطت ملامحها على الفور، وكأنها رأت ظل أمان كانت تشتاقه.

اقترب هو على الفور، واتجه نحوها بخطى واثقة ونظرة مشتعلة، ثم ابتسم ابتسامة جانبية وقال بنبرة محملة بالعبث: هاا… إيه الدنيا؟

أومأت برأسها وتنهدت تنهيدة طويلة فيها راحة طفلة انتهت من واجب ثقيل:خلصت أخيرًا يا سلطان…

ابتسم على نحو ماكر، وصوته ينساب من بين شفتيه كنسمة حرة:أخيرًا هتفضيلي يا بت… دانا جبت آخري. تعالي.

سار إلى جوارها، وفتح لها باب السيارة، ثم دفعها برفق إلى الداخل كما لو كان يضع شيئًا غاليًا في خزنة من حرير…

صعد خلفها وانطلق بسرعة خاطفة، بينما ظلت ضي تنظر إليه بطرف عينيها، تحاول فهم ملامحه الصارمه

مضى بعض الوقت، ثم بدأت تشعر بأن الطريق الذي يسلكه ليس المعتاد، فالتفتت إليه فجأة وهمسة بدهشه :إحنا… مش رايحين البيت؟

استنشق نفسا طويلًا من سيجارته، وألقاها خارج النافذة، ثم قال بنبرة مشوقة:لأ… عاملك مفاجأة.

رفعت حاجبها بدهشة طفولية، عيناها تلمعان بشغف مكبوت:بجد؟… هي إيه؟

ضحك ضحكة واسعة، وصوته يحمل نغمة دافئة ومريبة في آن واحد: اصبري يا آخرة صبري.

لم تتحدث، لكنها شعرت أن شيئًا كبيرًا في الطريق… شيء يشبه قلبها حين يدق دون ترتيب، حين يخاف ويتحمس في اللحظة نفسها.

بعد قليل، توقفت السيارة أمام بوابة إلكترونية ضخمة انفتحت بمجرد وصوله. كانت تلك البوابة كأنها تبتلعهم إلى عالم آخر، غير مألوف… عالم يشبه الخيال.

تقدمت السيارة ببطء داخل الممر المرصوف بأحجار رمادية ناعمة تحفه الأشجار من الجانبين، وأصوات العصافير تتعالى وسط سكون ناعم، كأن الطبيعة كلها تهيئ قلبها لاستقبال مفاجأة تشبه الحُلم.

توقف أمام باب داخلي عال يتوسط واجهة فيلا أنيقة، بنيت على طراز عصري ناعم كأنها تحفة مهندسة للمحبين. ترجل سلطان، وفتح لها الباب بنفسه، ثم مد يده إليها وسحبها برفق من يدها:تعالي… هنا بقا الحتة اللي معمولة كلها… على ذوقك.

انقبض قلبها دون سبب، وربما لسببٍ واضح… بين الحذر واللهفة.

دخلت معه.

وما إن عبرت العتبة، حتى نظرت حوله بخفه بابتسامه مسروقه من الزمن ..

الحديقة كانت كأنها مشهد مأخوذ من جنة معلقة… الزهور تنمو في خطوط منتظمة على جانبي الطريق، كأن أحدهم صفّها بإزميل فنّان. نافورة رخامية تتوسط الممشى، تصدر صوت خرير يُشبه همس العشاق. وأشجار مزهرة تنثر بتلاتها البنفسجية فوق العشب بخفة الحنين.

كل شيء هنا بدا وكأنه كتب باسمها وحدها.

نظرت له بعينين دامعتين وهمسة بصدق مفاجئ: حلوة أوي… وشيك جدًا يا سلطان.

ابتسم ابتسامة فاخرة، ثم اقترب من باب زجاجي على اليسار وفتحه قائلاً: تعالي شوفي أوضتك الجديدة…

وأمام أنفاسها اللاهثة، دفع باب الغرفة، فكان الانبهار.

كانت غرفة على هيئة مكتبة منزلية لكنها ليست عادية. جدرانها من خشب الجوز اللامع، تحتضن رفوفا ممتدة من الأرض حتى السقف، تفيض بالكتب والروايات من كل لون ونوع. وضع كرسي هزاز أبيض من الجلد الناعم عند زاوية الحجرة، بجانبه طاولة مستديرة عليها ماكينة قهوة فاخرة، وعدة فناجين كأنها بانتظار ضيف خاص جدًا.

مدت أصابعها ببطء ولمست ظهر أحد الكتب، ثم تمتمت بصوت مهتز: كان عندي أوضة زي دي… في بيتنا.

اقترب منها، واحتواها بذراعيه كما لو كان يعيد إليها وطنًا سرق منها ذات يوم. قبل دموعها بطرف لسانه وهمس لها بلهجة صادقة:عارف… ودلوقتي عندك أوضتين واحدة فـي بيت أبوكي، والتانية فـي بيت جوزك… اللي بيموت فيكي.

وضعت يدها المرتجفة على صدره، ونظرت له بذهول:
إنت عرفت إزاي كل التفاصيل دي؟

اقترب منها حتى التصق جانب فمه بأذنها، وهمس بصوته المبحوح:كنت براقبك.

لم تكمل جملته حتى كانت شفتاه تلتهمان أذنها بعضة صغيرة تميل إلى التوحش، فانتفضت وهمسة مبتسمة بخوف:يا متوحش…

ضحك بخبث، وغمغم:لما أكلك على بق واحد… هتقولي إيه؟

ـ سلطان… بلاش تخوفني… عشان خاطري.

ضحك سلطان ضحكة خافتة وهو يراها تتراجع قليلًا، فمد يده وأمسك بكفها وسحبها خلفه، كأنه يسحبها من عالم مألوف إلى مغامرة لا تشبه شيئًا عرفته من قبل.

دخل بها إلى غرفة على اليمين  فتح الباب فغمرها عبير ناعم من العطر الأنثوي والجلد الجديد.

تقدمت بخطوات بطيئة، وعيناها تتسعان بدهشة حقيقية… كانت غرفة ملابس أشبه بصالة عرض. الجدران مكسوة بالمرايا من كل جانب، تتوسطها خزانات زجاجية شفافة، بداخلها رتبت الملابس النسائية بدقة مدهشة؛ فساتين خروج بألوان حية، ملابس منزلية حريرية تهمس بالراحة، وملابس نوم مغوية محاطة بلمعة الضوء الناعم، وكأن كل قطعة تنتظر لحظة ارتدائها.

تقدمت ببطء، ولمست فستانًا من الدانتيل الأبيض، كان يشبه ذاك الذي رأته ذات مرة في مجلة. عيناها لم تعد قادرة على إخفاء الدهشة. التفتت إليه وهمسة:
إمتى عملت كل ده؟

اقترب منها، وفتح أحد الأدراج الخشبية بسلاسة، وأخرج منها قطعة سباحة سوداء من قطعتين، صغيرة جدًا، وكأنها لا تكتفي بحجب شيء.

مدها نحوها وهمس بنبرة منخفضة مغريه :البسي ده يا ضي…

ترددت، وبلعت لعابها بصعوبة، ثم مدت يدها وأخذتها منه ببطء وهمسة بخجل طفولي: أصل… أصل أنا عمرى ما لبست بكيني قبل كده.

غمز لها بخفة، وضحك: هتلبسي معايا… هستناكي تحت.

خرج وأغلق الباب خلفه بهدوء.

وقفت للحظة، تنظر إلى القطعة بين يديها كأنها تمسك شرارة مشتعلة

وووووووووووووووووو

متنسوش التفاعل بفوت والكومنتات ي سكاكرررر ❤️

ساحره القلم ساره احمد 🖊️

5 3 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
10 أيام

❤️❤️❤️❤️❤️