عشق ملعون بالدم

عشق ملعون بالدم (الفصل الاول)

عشقتك بلا قيود، بلا خوف،
بقلبي الذي لم يعرف الانكسار،
وبروحي التي لا تهتز إلا بحضورك.

كنتَ دمي وكياني،
كنتَ كل ما أنا عليه…
وكل ما فقدته إذا ابتعدت.

كل لحظة بدونك موتٌ صامت،
وكل نفسٍ معك ولادة جديدة.
عشقتك… حتى صار الحب أنت،
وأنا لم أعد أرى شيئًا سواك.

في قريه درنكه،
حيث الجبال تمتد كعمود من صخر عتيق، وتتناثر الأكواخ البيضاء بين أشجار الزيتون والتين، بدا الليل مشبعًا بالبهجة والصخب…

الهواء كان يحمل عبق الأرض المروية وتلك الرائحة الفريدة للنيران المشتعلة في كل زاوية، حيث الدبايح تتراقص نيرانها،

والشموع والفوانيس تلمع كنجوم صغيرة تتساقط على التراب، والمزمار البلدي يعزف أنغامًا حادة تمزج بين الإثارة والاحتفال.

وفي قلب هذا النجع،
يعلو قصر الأنصاري شامخًا، كما لو كان جبلًا آخر من صخور التاريخ، جدرانه البيضاء المزخرفة بالأعمدة العتيقة والزخارف الذهبية تتلألأ في ضوء النيران،

وحدائقه الواسعة تتنفس حياة العائلة العريقة. كل زاوية في القصر كانت تشهد احتفالًا، كل فناء وكل ممر يعج بالحركة، بالضحك والرقص والتهليل، حتى الهواء نفسه بدا يرقص بين أصوات الحضور وصهيل الخيول.

على أحد الأفنية المفتوحة، ارتفع صهيل حصان عربي أصيل،

وارتسمت شكل فارس الأنصاري على ظهره. كان يقف شامخًا، جسده ممشوق، عضلاته المشدودة تتناغم مع حركة الحصان،

ووجهه المضيء الحاد يفرض حضوره بلا منازع. عيناه كالجمر المشتعل، وجاذبيته تفوق كل وصف، حضوره يشع قوة وفروسية، وكأنه وُلد ليكون فارسًا بحد ذاته…

بينما كان يرقص على أنغام المزمار، كان يتحرك وكأنه يكتب على الأرض قصة بطولته، كل حركة من يديه، كل ميلان من جسده، كل خطوة للحصان تحت قدميه، كانت تمثل فصلاً من الفروسية الصعيدية الأصيلة، حضور لا يُنسى.

ومن بعيد، ارتفع صهيل حصان آخر، هذه المرة بدر الأنصاري، ابن العم وعريس الليله،

اقتحم الفناء بكل جرأة وفخر، عيون الحضور تتجه نحوه، وقلوبهم تتسارع مع كل خطوة من خطواته على ظهر جواده…

جسده الممشوق، ملامحه الصارمة التي تحمل لمحة من العصبية والعنفوان، كل ذلك جعله يبدو كرمز للرجولة والفروسية، بينما قلبه يتسارع فرحًا وغبطة بمكانته الجديدة.

النجع كله تلاشى خلف صهيل الخيول، أصوات المزمار، وارتفاع الدبايح، ليصبح القصر والحفل لوحة صعيدية حية من القوة والفرح والجمال،

حيث تتلاقى الفروسية، العراقة، والحب الصامت في العيون المتألقة للحضور. كل نظرة، كل حركة، وكل صهيل من الخيول، كان يعلن بداية ليلة ستُخلد في ذاكرة النجع،

ليلة يُولد فيها الفخر والهيبة، ويمتزج فيها الحضور والجاذبية بالقوة والصخب الصعيدي العتيق.

ارتفعت الزغاريد في ساحة القصر، تملأ الأرجاء بفرحٍ صاخب، بينما كانت النساء يملأن الشرفات العالية، يمددن أعناقهن ليرين فارس القصر وهو يرقص على صهوة جواده العربي الأصيل، والعريس إلى جانبه، يمتطي حصانه وسط دقات المزمار البلدي وإيقاع الطبول الذي يهز الأرض.

تقدمت إحدى العاملات وهي تصيح ببهجة غامرة: هيمو! هيمو الغالي هيرجص علي الفرس هو والعريس!”

انطلقت النساء والبنات إلى الشرفات الواسعة، الضحكات تتعالى، والعيون تتلألأ بالفرحة…

غير أن وهيبة الأم، شدّها القلق من قلبها، فارتعشت شفتاها وهتفت بصوت يكسوه الخوف: احرجي البخور يابت، وطوجي فيه حصويتن ملح خشن… لأچل من نغزي العين عن الغالي وواد عمه العريس! هيمي يابت بالعچل!”

ركضت إحدى الخادمات مسرعة وهي تجيبها بانصياع: من عنيه يا حچه وهيبه!”

اقتربت فاطمة منها وربتت على كتفها بمحبة حانية، وهي ترفع بصرها نحو الساحة حيث يصول الفتيان فوق جيادهم، وقالت بنبرةٍ عامرة بالدعاء: عجبال الغالي يا خيتي… وتفرحي بيه وعياله يرمحوا جدامك.”

انفرجت أسارير وهيبة قليلًا، ثم ضمت صديقتها بحنو يختلط برجفة في القلب: يسمع منك ربنا يا خيتي…”

رفعت عينيها نحو السماء، والدموع تلمع فيهما، وهتفت برجاء صادق يشبه النحيب: اسمع منيها يا رب… وانضر ولد الغالي جبل ما أموت.”

ضغطت فاطمة على كتفها، تحاول أن تدفع عنها غيوم الخوف وقالت بحنق : أباي ليه الفال العفش ديه يا خيتي؟ دانتي هتچوزيه وتربي ولده كمان.”

أغمضت وهيبة عينيها برجاء، وصوتها يتهدج كأنها تحاول أن تطرد شبحًا يطاردها منذ زمن: مخه يابس يا خيتي… بصي إكده علي كل الچدعان… من أي عيله، وبيت!!
الچدع منهم يدوبك خمس وعشرين سنه وعياله يرمحوا جدامه يطلعوا فب طوله… كتفهم فب كتفه… مفيش غير ولدنا اللي انكتب عليهم الغلب ديه.”

أمسكت بيدها بقوة والدموع تتساقط من عينيها وغمغمت: عفصتي علي الوچع يا خيتي… يا خوفي بدر يموت البنيه في يده … يا خوفي يكون هيحبها.”

ضربت وهيبة صدرها بيدها بعنف، والدموع تنحدر غزيرة غمغمت : يامري! ديه تبجي وجعه مجندله ومشندله يا فاطنه… انتي مش جولتي اخت صاحبه؟ وهو راح علب السيره… وعشان صاحبه صهيب؟”

هزت فاطمة رأسها، والقلق ينهش قلبها، وردت بصوت واهن: جال إكده يا خيتي… بس مجدراش أصدجه… حاسه كنه هيدس عليا وميش هيجول الحج…
عينه هتلمع يا وهيبه كل ما تيچي سيرت البنيه… ويخوفي يعمل فيها كيف ما عمل أخوه في عروسته… ليله دخلتهم.”

شهقت وهيبة بفزع، وبصقت على يسارها ثلاثًا، وهي تتمتم باكية: وه تفيها يا خيتي… ليه الفال العفش ديه في يوم مبارك؟”

أرسلت فاطمة بصرها نحو ابنها، هناك في الساحة، على صهوة حصانه، رجولته تتفجر مع كل حركة، والفرح يكسو ملامحه،

لكنه فرح مشوب بظل من التوتر لا يغيب عن عين أم تعرف أبناءها. دمعت عيناها وهمسة بحرقة مكتومة:
ربنا يستر… ويبعد عنه الجهر المخفي… يا جادر يا كريم.”

على طرف الشرفه،
ظلت نغم تراقب ابنة عمها إيمان بدهشة مكتومة، وهي تراها غارقة في ملكوت آخر، عيناها تلمعان كمن يسرح وراء حلم بعيد… اقتربت منها وهمسة بغيظ ممزوج بالقلق:عينك يابت عمي… لحسن توچعك.”

رفعت إيمان عينيها إليها، والحنق يشتعل فيهما، ثم غمغمت بخبث ظاهر: وانا كنت جولت ليكي عينك وانتي هتاكلي أدهم أخوي بيهم.”

انعقد حاجبا نغم بدهشة صريحة، وارتفع أحدهما بسخرية: أنا هبص لي أدهم علي إيه يا ختي؟ ده حتي كشري ومكلضم طوالي… كت أدبيت إياك!”

قهقهت إيمان بضحكة قصيرة ملؤها الغيظ، وردت بغل خفي: كنك مدبوبه صوح يا بت عمي…ياختي ماله أدهم يا غندوره؟ هو في كيف أخوي في البر كلاته؟”

زفرت نغم بضيق، ولكزتها في جنبها نزقًا وهتفت بامتعاض: خلهولك يا اختي!”

في تلك اللحظة، اقتربت مريم بخطوات سريعة ونظرة جادة، وهتفت: يلا يا نغم، راحين يچيبوا العروسه.”

أومأت نغم برأسها في طاعة هادئة وقالت: حاضر يا مرت أخوي.”

لكن إيمان لم تفوت الفرصة، فقبضت على ذراع مريم بإصرار، وقالت بشغف نافد: أچي معاكم يا أم عاصم!”

ابتسمت مريم ابتسامة خفيفة، ثم هزت رأسها موافقة:
تعالي يا إيمان، حد حاشك؟ إياك بس بطل نچيز علي الرچاله… البت تكون عينيها متكحله بالحيا، يزين عنيه كيف الكحل الرباني.”

هزت إيمان رأسها بعناد ظاهر، وأجابت بصوت متهكم مفعم بالنزق: ديه البنات الخايبه! أنا هنجي علي عچب عيني يا أم عاصم.”

تبدلت ملامح مريم ما بين الدهشة والامتعاض، ثم غمغمت بغيظ مكتوم: وه شوف البت!”

أما إيمان، فقد رمتها بنظرة تحدي مستفز، ثم استدارت وانصرفت بخطوات ثابتة نحو الخارج، تاركة خلفها أثرًا من الغموض والجرأة.

ظلت مريم تحدق في ظهرها باندهاش عميق، ثم همسة لنغم بنبرة متوجسة: البت ديه… يا خوفي منيها! عينها بيضا جوي.”

أومأت نغم برأسها، وقد انكمشت عيناها بجدية، وهمسة:
حاطه الغالي ف نص عينه البيضا ديه.”

ضحكت مريم بخفوت، وفي نبرتها سخريةٌ تحمل بعض الحذر: همليها تحط علي كيفها… الغالي مش دريان أنها في الدنيا من أصلوا. يلا، همي جبل ما يزعجوا.”

أومأت نغم، وانطلقت خلفها بخطوات سريعة، تتوجهان معًا نحو بيت سلام الكاتب ليأتوا بالعروس الجديدة… ليلة، زهرة الليلة الموعودة.

في الأسفل، دوى صخب الحياة كأن القرية كلها قامت على قدميها…
اقترب فهمي من والده الشيخ رماح وقبل راسه وهتف :
مش هتيچي معنا يا ابوي نچيبوا عروسه بدر
ربت رماح علي كف ابنه وهتف : لاه يا ولدي علي ايه تشيلوا وتحطوا خليني أنا مع الناس اهنه وروحوا انتو بالسلامه
اقترب فارس وجثي امام جده وقبل يده ببر صادق وهتف بحب : اشيلك علي راسي يا چدي وتنورنا ونتبارك بيك
ربت رماح علي منكب فارس بحب وقال : يسلم راسك يا جلب چدك هروح معاك وانت هتچيب عروستك يا غالي جبل ما اموت
هز فارس رأسه بالنفي وغمغم بحزن ؛ لا يا چدي بعد الشر عنيك ربنا يطولنا في عمرك
ربت رماح علي منكب فارس بحب وقال: مهما طول بردك جصير يا ولدي يلا روح مع ولد عمك كتفك في كتفه
اوما فارس برأسه وقال: امرك يا چدي
نهض فارس وخلفه فهمي وانطلق الموكب يشق طريقه في زفة مهيبة، تتهادى فيها السيارات الفارهة على إيقاع المزمار البلدي الذي يجلجل في الفضاء،

وتخترقه أصوات الطلقات النارية التي تطلق في الهواء كأنها تعلن قدوم ملوك لا مجرد عريس وأهله…

كان الموكب أسطوريًا، فخم، يثير في النفوس مهابة ودهشة معًا، كأن الأرض ترتج تحت وقع الأقدام والأهازيج.

توقفت السيارات عند بوابة فناء آل السوالم، ذاك البيت الكبير الذي يشبه القلاع…

انفتحت الأبواب، وانطلقت التحايا الصاخبة من حناجر الرجال، ممزوجة بضحكاتهم وصلواتهم،

فيما ارتفعت بنادقهم مرة أخرى نحو السماء لتصب زخات متلاحقة من الرصاص ابتهاجًا، كأن الرصاص صار أغنية مضافة للمزمار.

وقف سلام الكاتب، شيخ العائلة ووجهها المهاب، يستقبل القادمين بوجه طافح بالرضا والفخر…

إلى جواره وقف ولداه، صهيب وصابر، ثابتان، عيونهما تلتمع فرحًا وكبرياءً، وإخوته وأبناء عمومته من حوله كجدار متين من الرجال…

كان المشهد كله يفيض برجولة صاخبة لا تعرف الهدوء، وكأن الحشد بأسره يريد أن يثبت أن زفاف آل السوالم وآل الانصاري ليس مجرد ليلة فرح، بل مناسبة يحفر صداها في ذاكرة القرية كلها.

وسط الفناء العريض، ارتفعت الأهازيج والطلقات مع عناق الرجال وتصاعد زغاريد النساء من خلف الجموع.
تقدّم سلام الكاتب بخطوات واثقة، ذراعيه مفتوحتان كأنهما حضن البيت كلّه، وصوته الجهوري يهتف بحرارة:
أهلا… أهلا! نورتونا يا رچاله… البيت فج نوره.

اندفع إليه فهمي، يطوقه بذراعيه بمحبة صادقة، وغمغم وهو يربت على منكبه: ديه نورك يا سلام… ألف مبروك، وربنا يتمم بخير يا واد العم.

ضحك سلام، وعيناه تلمعان فخرًا، وربت على منكبه بقوة قائلاً: الله يباركلك يا أبو نسب.

اقترب بدر بخطوات ثابته، لكن سلام لم يمهله، بل احتضنه برجولة وحنان، وصوته يجلجل بين الجموع:
بتي أمانة في رچبتك يا ولدي..

ارتسم التوتر على ملامح بدر، لكنه ابتسم بصدق وهتف بحزم: في عيني يا عم سلام.

هنا اندفع صهيب، يضم بدر بعنفوان الصداقة ورابطة الدم، صوته يخالطه الضحك: مبروك يا صاحبي.

بادل بدر العناق بنفس القوة وربت على منكبه وهتف:
الله يبارك فيك… عجبال التانية.

لم يفوت صابر الفرصة، فلكز بدر بخفة وهتف بصوت عالي أثار الضحكات: طب جولي أنا… عجبالي.. بدل ما هو يتچوز تاني!

تعالت ضحكات بدر وصهيب في انسجام صاخب، وردّا معًا: عجبالك يا أبو عمو!

توالت المصافحات، والقبلات الرجولية، وأصوات الدعاء تتداخل مع صخب الطبول والمزمار. اقترب سلام من فارس، وضمه بقوة الأب إلى ابنه، صوته مشبع بالفرح: عجبالك يا غالي… أفرح بيك يا ولدي.

ابتسم فارس ابتسامة واسعة بشوشة، عينيه تشعّان سعادة وهو يرد باحترام: في حياتك يا عم سلام.

في الطابق العلوي، كان صخب النساء يتردد كالموج المتلاطم، زغاريدهن تعانق جدران البيت وتتشابك مع دقات الطبول في الأسفل…

حين صعدت نساء آل الأنصاري، اندفعت فاطمة كالنهر الجارف، تحتضن ليلة عروس ابنها، وعيناها تشعان كبريق الفضة وهتفت بفرح غامر: يا صلاه النبي عليكي يا مرت ولدي… كيف الجمر.

ذابت ليلة في حضنها، وصوتها المرتجف يخالطه الحب: ربنا يخليكي لينا يما… إنتي اللي عينيكي زينه.

جاءت وهيبة، تضم العروس بحنان دافئ، ولسانها يلهج بالدعاء: مبروك يا بتي… وربنا يتمم التمام ع خير إن شاء الله.

بادلتها ليلة العناق وهمسة بعاطفة صادقة: إن شاء الله يا خاله وهيبة… عجبال نغم والغالي يا رب.

أومأت وهيبة برأسها، تغالب دمعة في محجرها، وهتفت بحرارة: يا رب يا بتي.

وفجأة انطلقت شهية بزغرودة مدوية، كسرت كل صخب الغرفة، ثم هتفت وهي تفتح ذراعيها: يا خطوه عزيزه يا أم بدر! نورتونا وكترتونا.

أسرعت فاطمة إليها، تضمها بمحبة جياشة، وردت بفرح:
ديه نوركم ونور عروستنا يا أم صابر.

تقدمت وهيبة بدورها، فضمت شهية بحرارة، وصوتها متهدج بالعاطفة: مبروك يا خيتي… ربنا يتمم ليهم ع خير يا رب.

ربتت شهية على منكبها بحنان وابتسامة عريضة، وقالت:
الله يبارك فيكي يا أم الغالي… عجبال الغالي زينه الشباب والبنيه، وتفرحي بيهم يا حبيبتي.

ارتعشت شفتا وهيبة بغصة لم تخف عن أقرب القلوب، لكنها تماسكت وأومأت بقوة، وهمسة بصوت يكاد يتكسر:
يسمع منك يا أم صابر… يسمع منك يا خيتي.

اشتعلت الزغاريد مجددًا، تتعالى كالنار في هشيم الأفراح، وارتفع غناء النساء وتصفيقهنّ الصاخب في موجة عارمة. فجأة، دوى صوت امرأة من الصفوف الخلفية: الجاضي ابتدى يكتب الكتاب!

تسمرت ليلة في مكانها، عيناها تزاغان بتوتر، كطائر حبيس على وشك أن يطلق في فضاء مجهول…

نهض الجميع، يندفعون نحو الشرفات، عيونهم متطلعة بلهفة إلى ساحة الطابق السفلي، حيث بدأت مراسم كتب الكتاب وسط بهجة عارمة.

في الأسفل،
حيث اجتمع الرجال في بهو واسع يفيض بالأنوار والوجوه المتهللة، جلس بدر أمام سلام ، ومد يده بقوة ورجولة، وفي عينيه خليط غريب من السعادة والتوتر…

تداخلت الأصوات لحظة صمتها المأذون، وهو يفتح كتاب الله ويتلي الآيات الكريمة، فتساقطت الكلمات على القلوب بخشوع، وبدأت مراسم الزواج.

ردد بدر خلف المأذون بصوت يتهدج، فيما كان يشعر أن قلبه يكاد يقفز من صدره، وأن أنفاسه تتلاحق كعداء يقترب من خط النهاية…

رفع عينيه، فالتقت بعيني فارس، فابتسم الأخير ببشاشة صافية، وأومأ برأسه مرددا بصوت خافت: مبروك يا واد عمي.

غمزه بدر مازحًا، كأنه يخفي ارتباكه تحت ستار العبث. إلى جوار فارس، جلس أدهم، الذي لم يحتمل صمته، فلكزه بمرح وقال وهو يزفر: أصغرنا اتچوز واحنا جعدين… كيف خيبتها.

ابتسم فارس بوقار، ورد هامسًا: هو حد حاشك عن الچواز؟

قطب أدهم حاجبيه، وانحنى قليلًا بوجهه وهو يقول بضيق: ما أنا مش هتچوز عشان يجولوا اتچوز… وأعيش محروم من متعته اللي الناس هيتحملوا جرف الچواز عشانها.

أومأ فارس بتفهم، وصوته هادئ كمن يزن الأمور: عندك حج يا واد عمي.. بدر بس اللي مغامر جوي.

هز أدهم رأسه بأسى، وغمغم بنبرة مثقلة: لاه… بدر عشجان… عشان إكده غامر بالواعر… ربنا يستر.

اقترب منهم سند بخطوات واثقة، ومد يده يصافح فارس وهتف بمحبة: عجبالكم يا شباب.

أومأ أدهم له، فيما ربت فارس على منكب شقيقه وقال بابتسامة هادئة: تشكر يا اخوي.

نظر سند إليهم مليا، ثم قال بصوت يحمل نبرة الحكيم:
يا خوي… الچواز بردك ينفع من غير ما تغامر بوچعك.

أطرق فارس للحظة، ثم ابتسم ابتسامة باهتة، وصوته متهدج بالصدق: كده وچع… وكده وچع.

انتهى المأذون من عقد القران بالدعاء المأثور، وما إن ختم كلماته حتى دوت الزغاريط العارمة في أرجاء القصر،

وانطلقت الأعيرة النارية تضيء سماء القرية كألعاب نارية بدائية، يختلط رنينها بهتافات الرجال وضحكاتهم.

نهض بدر وسط الجموع، ووجهه يتلألأ بعرق الفرح، وبدأ يتلقى التهاني والمباركات، أذرع الرجال تعانقه، وأكفهم تضرب على مناكبه، فيما عيناه تبحثان بلا وعي عن شيء آخر أعمق من كل تلك الضوضاء.

ضم فارس بدر إلى صدره بقوة، ثم غمغم ف اذنه بصوت رخيم مسكون بالوجع، يعب عن تحسره: غلطان يا صاحبي.

أومأ بدر برأسه بحسم يكاد يفجره الألم، وأجاب بلا رتوش ولا تزيين: عارف إني غلطان وعارف إني فتحت باب الوچع على جلبي، بس كل ديه أهون من وچع إنك تلاجي حبيبتك في حضن غيرك ديه الوچع اللي يحرج الروح والجلب مع بعض.

تجمع الكلام في صدر فارس، وتنفس طويلًا حاول أن يسعفه به، ثم قال، صوته يئن بالاستسلام: بس انت كده هتعذبها معاك وهتعذب حالك بيها.

أغمض بدر عينيه لبرهة، وكأن هذه اللحظة وحدها تنقب عن كل جراحه، ثم رد بصوت خاشع في أعماق الحناجر: اتعذب بيها واعذبها بس وهي في حضني ملكي طوع يدي أهون من الهلاك اللي هنعيش فيه وهي بعيد عني وفي حضن راچل تاني؛ ديه الهلاك بعينه يا ولد عمي.

ربت فارس على منكبه بيد ليست رقيقة، بل مملوءةٍ بحكمة مرة، وغمغم بصوت يحمل أخوةً وأسى: ما تتكلمش كده بس… مانت كمان مچربتش الجهر المخفي .. إيه دراك يمكن يكون..

قاطعه بدر بنبرة خالية من مقاومة، راجفة كما لو أن امتلاء صدره قد انفجر: عشان عمرك ما عشجت

ثم رفع عينيه صوب السماء، ونظرة خاطفة إلى الشرفة حيث تتلألأ أنوار القصر، فسمع خفقان الليل وخافتات من الأقدام، وهمس بصوت أجش: يوم ما تعشج مش هتحسبها.

تلاشت الكلمات، وبقي الهواء يلفهما كغلاف بارد. حولهما كانت وجوه الرجال تلتقط بقايا الكلام؛ هنا الحزن يقترب من الاحتفال، وهنا الصمت يجعل السهام أقوى… ومثلما تنكفئ الريح قبل العاصفة، شعرا أنّ شيئًا ما أكبر منهما يترصد زاوية القدر.

أمل فارس أن يجد في عين بدر خطة أخرى، نصيحة تقبض على النشاز قبل أن يتحول لندبة،

لكن بدر بدا كالجبل المائل، متحمّلًا قرارًا لا رجعة فيه. ساد لحظة من الصمت الثقيل،

ثم تعالت من بعيد زغاريد، محاولة يائسة لإعادة الفرح لمساره، لكن صداها هنا بدا كأنه من عالم آخر، بعيد، لا يلمس ما بينهما.

اقترب فارس خطوة إلى الأمام، مد يده إلى كتف بدر ببطء، كمن يدرك تمامًا أن لا يد تنقذ إنسانًا من نفسه إلا بتعاطف جادّ: لو عشجت حد… لو أي حد… هاعرف أحميه، مش أهلكه!!

نظر بدر إلى يده على كتفه، ثم إلى الدرج الذي تنزل عليه ليله مع والدها ببطيء وعينيها تلمعان بسعاده وخجل ، لا تدري أن ليلتها لن تكن كما تمنت…

شعر كلاهما بأن هذه الكلمات ليست نصيحة بقدر ما هي نداء أخير للعقل والضمير.

وبين همهمة الناس وزغاريدهم، ولحظة قبل أن يعود الفرح إلى مجراه، صار في الهواء برودة دقيقة، لم تكن صادرة عن نسمة عابرة، بل عن شيء آخر  برد يخترق العظام ويسمي النفس خوفًا…

ظل الاثنان واقفين، كأن الكون كله توقف ليستمع إلى نبض يحتضر في صدر أحدهم، أو إلى همسة آتية من أعماق كهف بعيد.

كانت تلك اللحظة نفسها، لحظة ما قبل انقلاب كل شيء، حين لم يكن أحد يجرؤ على توقع ما سيحمله الصباح، أو الليل الذي سيليه.

أوما فارس برأسه بعدم اقتناع، كأن قلبه ما زال مثقلاً بالهواجس، قبل أن يلتفت مع باقي الشباب حين اشتعلت الأجواء بالفرح الصاخب…اخترقت الزغاريد جدار السماء، وصوت المزمار البلدي اندلع كالنار في الهشيم، يُشعل القلوب ويجر الأقدام إلى الرقص.

اقترب بدر، وخلفه فارس وأدهم وسند ورماح، وبقية شباب آل الأنصاري يسيرون بصلابة وفخر، كأنهم جدار يحمي العريس في يومه الموعود.

وصل سلام اسفل الدرج ، مهيبًا، وجهه يضيء بفرحة الأب، يمسك بيد ابنته بثبات ودموع الفرح تلمع في عينيه…

كانت ليله تتهادى بجلال في فستانها الأبيض الضخم، الموشى بالدانتيل والفصوص التي التقطت الضوء فصارت كنجوم متلألئة تحف بها من كل جانب.

تجمّد الزمن في تلك اللحظة بالنسبة لبدر. نظر إليها بعشق فاق احتماله، كأنها حلم عنيد رفض أن يغادره ثم استحال حقيقة واقفة أمامه…

التهم ملامحها بعينيه بنظرات نارية، جريئة، مشبعة برغبة طال كبتها…

شعرت ليله بلهيب عينيه يحاصرها، لكن حياءها غلبها؛ لم تقو على رفع نظرها من الأرض، ووجنتاها احمرّتا حتى بدتا كزهرتين ملتهبتين تحت ضوء الشمس…

وصل سلام أمامه، وقدم ابنته إليه بصوت متهدج بالفرحة والرهبة: مبروك عليك يا ولدي.

مد بدر يده المرتجفة بالعاطفة، قبض على يدها بقوة حانية، وهتف بصوت اختلطت فيه الرجولة بالامتنان:
الله يبارك فيك يا عمي… يا زين ربيتك يا عمي.

شعرت ليله بحرارة كلماته، لكن الخجل كان قد كبل عينيها بالأرض، والحمرة غطت وجهها كأنها وردة لا تحتمل النظر في شمس العيون المتقدة.

تحرك بها بدر وسط صخب الزغاريد وأزيز الأعيرة النارية التي اخترقت السماء كتحية مهابة للعروسين… تقدم الشباب يحوطون الموكب، فيما تقدم سند ليفتح باب السيارة الفارهة بيديه.

صعدت ليله بخطوات مترددة بمساعدة بدر وفارس، فاستقرت في المقعد الخلفي كحمامة مرتجفة،

وما زالت وجنتاها مشتعلة بالاحمرار. التفت بدر إليها بنظرةٍ حانية ممزوجة بنار العشق، ثم دار حول السيارة وصعد من الجهة الأخرى بجوارها.

أغلق سند الباب بإحكام، وارتفعت الزغاريد مرة أخرى كأنها موجة أخيرة تبارك الانطلاقة…

تحرك الموكب، وانطلق مع دوي المزمار، وأزيز الطلقات، وهدير المحركات، ليشق صخب الليل بزفة أسطورية، مهابة، تهتز لها جدران القرية وتحفر في ذاكرتها للأبد.

شعرت ليله في تلك اللحظة أن الفرح أكبر منها، أكبر من جسدها المرتجف، بينما بدر بجوارها يشعر أن العالم كله قد انكمش حتى صار في يدها، في تلك اليد الصغيرة التي يحتضنها….بينما قلب بدر يهتف وحده: صارت لي، أخيرًا صارت لي.

في داخل السيارة الموشحة بالزينة، حيث ضجيج الزفة يتلاشى شيئًا فشيئًا خلف زجاج النوافذ المغلق،

مد بدر يده ببطء، ليمسح بأنامله على ذراعها برقة مغلفة بشئ من التملك الفطري، تملك يفيض عشقًا…

ارتعشت ليلى للمسته، وانكمشت إلى جوار الباب كمن يبحث عن مهرب، ثم همسة بخجل متوتر: بدر… لم يدك.

ابتسم ابتسامة جائعة، بلل شفتيه بعطش السنين، ثم مال نحوها حتى لامس أنفاسه أذنها، وهمس بحرارة مشبوبة:
ليا تلات سنين لمم يدي عنيكي يا ليل البدر… بكفاكي خشي يابت ، ليا تلات سنين هموت على لمسة من شفايفك.

ارتبكت أكثر، جالت بنظرها في أرجاء السيارة كمن يخشى أن تتسرب الكلمات إلى الخارج، ثم همسة بذعرٍ مرتبك : يخربيتك… حد يسمعك.

قهقه بدر بجرأة ملأت أرجاء السيارة، واقترب أكثر حتى كاد يحاصرها بجسده، وهمس بوقاحة عذبة: خلاص… إنت دلوق مرتي، وكلها مشوار السكة… وهتبجي چوه حضني… وأنا بين رچليكي يا بت.

شهقت ليلى بحرقة، ولكزته بعنف طفولي وهي تدمع، تغمغم بصوت مرتجف :  اتلم يا حزين… وكفاياك جلة أدب… هنط من العربية! هي حالة فاطمه كانت مشغوله چوه.. كده نست تربيتك!

زاد ضحكه صخبًا، ثم هتف بفرحة عارمة: بحبك جوي… وانتي هتبرطم كده.

مدت يدها المرتعشة إلى فمه، تضغط عليه بخوف ودموع حائرة، وهمسة: هوس… حد يسمعني.

قبض بدر على كفها الصغيرة بحنو زلزل قلبها، ورفعها إلى شفتيه، وطبع عليها قبلة عاشقة، كأنها ختم ملكية لا رجعة فيه، ثم غمغم بصوت أجش يقطر يقينًا:  يا بت… خلاص، عقدنا… واتكتبتي على اسم بدر الأنصاري.

أومأت ليله برأسها بالنفي بعناد يائس، والدمع يلمع في عينيها، ثم غمغمت بصوت مخنوق: لا… لسه، دول ممكن يطلجونا جبل ما يچوزونا… لو دِروا إننا هنحب بعضنا من سنين.

شد بدر على يدها بقوة، سحبها نحوه حتى صارت أنفاسها المذعورة تلامس فمه، ثم همس أمام شفتيها بصوت أجش صارم، يزلزل الداخل قبل الخارج: لو الشرجي طربج علي الغربي… مهيحلنا عن بعض… حتى الدم يا ليل.

شهقت ليلة بخفوت كأن روحها انتفضت في صدرها، رفعت عينيها المرتعشتين إلى عينيه، فرأت فيهما عشقًا فاق حده، عشقًا يتجاوز كل خوف… ظلت صامتة، مكتومة الصوت، حتى توقفت السيارة فجأة أمام البيت الكبير…

عند الباب الداخلي لثريا آل الأنصاري، توقف موكب الزفة، وضجت الساحة بزغاريد النساء وأصوات الأعيرة النارية التي اخترقت سماء الليل…

ترجل بدر من السيارة بخطوة واثقة، ودار حولها، فيما كان صهيب وصابر قد أسرعا لفتح الباب. انحنى بدر، ومد يده الكبيرة ليقبض على يدها الصغيرة المرتعشة، وسحبها برفق، وساعدها وصهيب في الإفلات من قيود الفستان الأبيض الضخم المرصع.

وفجأة، حملها بدر على حين غفلة، وسط دهشة الجميع. شهقت ليلة بصوت خافت، وأخفضت رأسها وعينيها بخجل حارق،

بينما انحنى عنقها تحت وطأة الخجل، وذراعا بدر تحتضنانها باطمئنان رجولي، يمضي بها وسط الموكب. اشتعلت الزغاريد حولهما كأمواج متلاحقة، وتعالت أصوات الطلقات النارية في السماء كأنها تعلن انتصار الحب.

عند عتبة الداخل، وقفت فاطمة، شامخة بين النساء، تحمل في يديها كوبين من الحليب. لما اقترب بدر، هتفت بصوت يفيض دعاء وفرحًا:  اشرب يا ولدي… ربنا يبيض ليلتكم ويبعد عنكم الشر.

انحنى بدر قليلًا، وأنزل ليلة برفق على قدميها، ثم قبض على الكوب الأول، وارتشفه دفعة واحدة، حتى سالت قطراته عن جانب فمه، وهمس بامتنان:  تشكري يما.

ثم تناول الكوب الآخر، ورفعه برفق نحو فم ليلة، وهمس بصوت خافت مبحوح يقطر حنانًا: اشربي يا ليلة.

هزت رأسها بضعف، والارتباك يعصف بوجهها، وهمسة بتوتر مخنوق: مش جادرة يا بدر… حاسه حالي هطب من طولي… ومعدتي معجودة عجد.

أطرقت فاطمة برأسها نافية،

وهي تلوح بيدها بحزم مشوب بالحنان: لاه يا بتي… اشربي، ديه العادة عاد، حتى ملو خشمك… وبكفاية.

أومأ بدر برأسه، ثم أعاد الكوب إلى شفتي ليلة، وهمس بنغمة دافئة، صوته يذيب اضطرابها: اسملله عليكي… اشربي شفطة وخلاص.

أطاعت وهي ترتجف، ارتشفت رشفة صغيرة بالكاد لامست حلقها، فأعاد بدر الكوب إلى يد والدته…

ثم التقطها بين ذراعيه من جديد، وحملها كما لو كانت أثمن ما في الوجود، وصعد بها درجات السلم بخطوات ثابتة نحو جناحهما الخاص.

خلفهما، كانت الزغاريد تتفجر في كل ركن من أركان الثريا، كأن البيت بأسره يعلن بدء ليلة جديدة، ليلة مقدسة تسجل في ذاكرة آل الأنصاري.

في الخارج …
جلس أمير العزيزي ، وربت على فخذ صديقه برفق مزجة عتاب ومواساة…وهمس أمير وقد رفت صوته بمزحة تعلوها المودة:  عجبالك يا صاحبي.

مال فارس برأسه، كأنه يردّ بابتسامة لم تكملها الشفاه، ثم قال بجدية تصقلها المرارة:  لاه خلت عنها البيعه الخسرنه ديه يا صاحبي انت عارف أنا مهطكش الصنف كله.

ضحك أمير بصخب يعانقه الإشفاق، وضمّ يده إلى فخذه ملقياً الكلام مقتضب: هموت منك مطجوج!! ليه يا اخوي؟ امال صنف ايه اللي يحله ليك؟!

رفع فارس حاجبيه، وعيناه توشيان السكر بين الفكاهة والحنين، ثم همس ببطء كأنما يفتش عن الكلام المناسب لوصف ما في جوفه:  واحده كده كيف الحوريه.. لما عيني تجع عليها.. انسي اسمي، تخربط حالي ،وتنسيني أنا مين من أصله…

ربت أمير على ساقه متبارك بالدعاء، غامرًا بالكلمة الصادقة:  ربنا معاك ،وان شاء الله تلجي الحوريه بتاعتك!! المهم بدك تشتري فرس اخوي طه الله يرحمه؟!

نظر له فارس بدهشة ، ثم قال باندهاش مختلط بقرار:  ليه بدكم تبعوا؟! أنا عارف الفرس ديه فرس زين جوي.

أنحنى أمير قليلًا، وبدا أثر الحزن يختلس من صوته، كمن يتحدث عن مهر فقد فارس صاحبه:  هو في بعد طوفان! بس من يوم اللي راح فيه صاحبه.. والفرس صحته في النازل! وكده هيموت يا ولد عمي.. وديه خساره كبيره!! الفرس خساره..

هز فارس رأسه، والحزم في عينيه يملأُ صدره، فقال مقتنعًا: لا اخده احسن ما لا جدر الله يصيبه عفش.

ابتسم أمير بابتسامة نصفها تمني، نصفها عتاب رفيق، وقال: هستناك بكره.

أومأ فارس، وأجابه بصوت دافئ حاسم:  ماشي يا صاحبي.

وساد الصمت بينهما، صمت لا يقل حنانًا عن الكلام، بينما في الأفق تنطفئ أخر شرارات الاحتفال، وتبقى على الأرض آثار عرسان جاؤوا بالأمل ليلاً وذهبوا به إلى رفيق الدهر.

………….
في جناح بدر الانصاري

حيث الزينة تتدلى من الجدران، ورائحة العطور الشرقية تختلط مع بخور العائلة الذي أُشعل منذ الصباح،

دلف العريس إلى حجرته وهو يحمل عروسه بين ذراعيه كأنها كنز طال انتظاره…

وضعها برفق فوق السرير، ثم جثا أمامها على ركبتيه، وعيناه تلتهمان ملامحها بذهول، كأنه ما زال غير مصدق أن الحلم الذي عاش فيه ثلاث سنوات كاملة صار واقعًا بين يديه.

أمسك يدها، رفعها إلى فمه وقبلها بحنو وهمس بصوت أجش متقطع بالعاطفة: الحلم اللي عشيت فيه تلات سنين معجول يا ليل البدر.

أومأت برأسها بخجل، وارتجف صوتها وهمسة كأنها تخشى أن يسمعها قلبها: بدر…

اقترب منها أكثر، وصوته يخرج مشبع بالوله والجنون:
البدر من غير ليله ملهوش وچود يا جلبي.

حاولت دفعه بخجل مرتبك وهمسة: أنا…

قطعها بأنفاس لاهثة وهو يزداد قربًا: متخفيش ولا تدرعي… أنا بدي اهملك تاخدي عليا شويا… وانتي عارفه عوايدنا… وناسك تحت أكيد مستنيين يطمنوا عليكي عشان يروحوا يا جلبي.

أومأت برأسها، وارتعاشتها زادت حتى قبضت على ثوبها بعنف. نظر بدر إلى ارتباكها بشفقة ممزوجة بالحب، فمد يده يلمس كتفها بخفة وهمس : ليله… يا روحي… اهدي. الحكايه بسيطه جوي… أنا هضمك كده… والموضوع هيخلص في رمشة عين… متخفيش.

ابتلعت لعابها بصعوبة، وخرج صوتها خافتًا: أمي وعتني… وأنا فاهمه يا بدر… منيش صغيره…أنا بس هايبه وخايفه ..

ارتسمت على جانب فمه ابتسامة، وقال وهو يميل نحوها: دانتي ست البنات… وشويه كده وهتبجي ست الستات في حضن چوزك… متهبيش حاچه في حضني ولا تخافي ..

وقف وسحبها برفق لتقف أمامه، صوته يفيض حنانًا ودفئًا: تعالي… الفستان كبير جوي… تعالي أساعدك أُسلتك من چوه… كيف الكتكوت المبلول يا جلبي.

ضحكت بخجل وهي تمسح دمعة سقطت على وجنتها وهمسة: انت تحب تتمچلت عليا طوالي كده… يمكن انت اللي ضخم چوي… أنا مالي ؟!

ألقى جلبابه بسرعة، واقترب منها وهو يحاوط خصرها بذراعيه وهمس بحرارة أمام شفتيها: وحيات الليل مش هتمچلت يا جلبي… دانا من حبي فيكي إنتي في عيني الجمال والدلال كلاته.

عندها أغمضت عينيها لأول مرة، مستسلمة لدفء حضنه الذي اجتاحها كتيار دافئ يذيب خوفها ببطء… بينما بدر، وهو يضمها بقوة، شعر بوخزٍ غامض يبدأ تحت جلده، ثم يمتد في صدره كخيط جليدي يتسرب داخله.

قبض على أسنانه محاولًا إنكار الألم، وهو يمرر يده على ظهرها ويفك سحاب الفستان بلمسة مرتجفة.

انزلق الثوب الثقيل من جسدها، فتساقط عند قدميها كقطعة قمر انطفأت في لحظة، فشهقت بخجل عارم، تحاول أن تحتمي من عينيه اللتين تحولتا إلى شعلة تتقد بالشوق. ابتسم رغم ارتباكه، واقترب منها هامسًا عند أذنها : اهدي يا بت… هتترعشي إكده من الخوف ولا من البرد؟”

كتمت وجهها في صدره، وخرج صوتها متقطعًا مرتبكًا:
معرفاش… يمكن التنين.. براحه عليا يا بدر.”

رفعها بذراعيه عن الأرض كما لو كانت ريشة، وألقاها برفق بين الغطاء والوسائد، ثم انحنى فوقها…

صرخت بخجل وهي تحاول التملص من ثقله، لكن حركتها تحت جسده أشعلت نارًا لا تقاوم في عروقه…

سحب الغطاء فوقهما وأطبق عليها بذراعيه، وهمس في أذنها بحرارة: اهدي… يا حبيبي… أنا بدر… حبيبك..براحه جوي اهو !!

قبلها بعنف، كمن يساق بقوة خفية لا يملك ردعها… كانت قبلة شرسة، افتراس عطش، فمه ينهش شفتيها ليسكت اشتياقه…

لسانه اجتاحها كعاصفة، فيما ارتجفت أصابعها وهي تتشبث بالغطاء… انسحب ليلامس عنقها، وقبلها ببطء متعمد، كأن شفتيه تبحثان عن نبضها لينهل منه حياة.

شهقت بفزع، ودموعها كادت تنفلت، همسة بصوت متقطع: بدر… لاه…

لكنه لم يكن يسمع. كان يزداد اندفاعًا، والقبلة تتحول إلى نهش محموم.
ويده تنزلق علي جسدها بنعومه يشوبها التملك..مغلف بعشق طال الصبر فيها حد نفذ ..

شهقت ليله بخجل.. وحاولت دفعه بوهن يشوبه الدلال …عندما لامست أطراف أصابعه أنوثتها وبدأ يداعبها بخفه ..

وهنا تماما في تلك اللحظة… تبدلت أجواء الغرفة.

هبط عليها صمت ثقيل، صمت حي، غريب، يلتف حولهم كالأفاعي… ازدادت الغرفة برودة حتى بدت أنفاس ليله كخيوط دخان بيضاء،

وأصابعها تجمدت على كتفه. ارتعش بدر فجأة، وخرج من صدره صوت همهمة غليظة، غريبة، كأنها ليست صادرة منه وحده.

تجمدت ليله مكانها، والهواء نفسه صار أثقل من أن يستنشق… الظلال في زوايا الغرفة بدأت تتحرك، تتراقص كأنها كائن يتنفس…

رفرف الستار بلا ريح، والزينة على الجدران أخذت تصدر خشخشة خفيفة.

صرخت ليله بعينين متسعتين رعبًا: بدر… في نفس معنا … في حد معنا في  الأوضة!

لكن بدر لم يعد يسمعها. عيناه غشيهما بريق بارد، وصدره يعلو ويهبط وهمهماته تتحول إلى زمجرة… زمجرة كأن وحشًا يسكن أعماقه.

انطفأ دفئ الغرفه دفعة واحدة، كأن روحًا مظلمة انبثقت بين جدرانها… ارتجفت ليله بعنف، التفت بذراعيها حول جسدها المرتعش وهمسة بخوف: بدر… في إيه؟ الچو برد جوي!!

لم يرد. نظر لها وجحظت عيناه كمن يحدق في فراغ لا يُرى، وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة. فجأة صرخ بألم مبحوح، وكأن نصلًا يغرس في عمق قلبه…

انحنى على صدره بيد، وبالأخرى شد كتفها بعنف غير مقصود، ثم ارتطم رأسه براسها بجنون.

صرخت ليله بفزع:  بدر! بتوچعني، سيبني يا بدر!

لكن الألم الذي سحق صدره كان أعمى، يقوده كوحش لا يرحم…

عيناه لم تعودا تشبهان عينيه، كأن شرارة مظلمة استوطنت بؤبؤيه…

رفع يده الثقيلة، وهوت على وجهها بضربة خاطفة، فصرخت بحرقة وسقطت للخلف،واصتطدم راسها بحافه السرير ، ودموعها تساقطت مختلطة برعبها.

أمسكها من ذراعها بعنف، وهزها هزا كالمسعور، وهو يلهث بين أنينه وصراخه المكتوم…

صرخت ليله بفزع زلزل كيانها : يا خلج! حد يلحجني!هموت يما الحجوني…

خارج الغرفة،
بدأت أصوات الطرق على الباب تعلو… وفاطمه تضرب براحة يديها وهي تصرخ: بدر! افتح يا ولدي ؟ بدر!

وانضمت إليها وهيبه، وهي تضرب الباب بقبضتها وتصرخ: بدرررررر!! ارچع لعجلك يا ولدي!! بدرررررر!!

في الداخل،
سقطت ليلى على الأرض، وبدر فوقها ينهال عليها بيديه المرتجفتين، لا عن قصد ولا بوعي، وإنما تحت وطأة الألم الممزق الذي يعصف بصدره…

كانت صرخاتها تمزق الليل، تصرخ باسمه : لالا!! يا بدر لا ..
ظلت تتخبط وتتوسل إليه أن يتوقف،  : لاجل خاطري فوج يا بدر …أنا ليله

بينما عيناه شاخصتان كمن يرى عالمًا آخر ولا يشعر بأي شيء.. سوي الالم الذي يفتك به … ويسحق قلبه دون رحمه …

وفجأة… انفتح الباب بعنف، لتقتحم الظلمة صرخات الأهل، ووجه بدر يطل من بين الظلال ككابوس،

يلهث، وعيناه حمراوان، ويداه ترتجفان وهو ممسك بعروسه كمن يوشك أن يفتك بها….

في عيونهن، بدا بدر مخلوقًا آخر، يعلوه العرق والجنون، وليلة تتخبط على الأرض تبكي وتشهق.

صرخت فاطمه بصوت يملؤه الرعب: بدر… إنت هتعمل إيه؟! دي مرتك يا ضنايا!”
ووووووووووووووووو

ساحره القلم ساره احمد 🖋️

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
abd alrahman
المدير
19 أيام

aSAxSAXxA

abd alrahman
المدير
19 أيام

ABDELRAHMAN TEST

Mero ❤️
Mero ❤️
19 أيام

تسلم ايدك 😘😘

Roma
Roma
19 أيام

تحفه