بين أحضان قسوته

بين احضان قسوته (الفصل الثلاثون)

بين احضان قسوته (الفصل الثلاثون)

سامحني.
كنت اكتب لاني كنت اظنك تقرأ
وكنت انزف لاني كنت اظنك تشعر
وكنت اناديك لاني كنت اظنك تسمعني
وكنت الوح لك وانا اختنق من فراقك
لاني كنت اظنك ترني
وكنت امد لك يدي وانا فى قمة غرقي
لاني كنت اظنك سترمي بطوق النجاة لي
وكنت احلم بالطيران اليك لاني كنت اظنك تنتظرني 
كنت اظن وكنت اظن وخاب ظني!💔

نهضت المديرة فورا، وهتفت بمهنيه بحته : كويس إنك جيتي يا مدام ونس… عشان تشوفي بنفسك بنتك عملت إيه! جيلان اتعدت بالإيد على زميلتها قدام الفصل كله!
قطب سليم حاجبه بذهول تام ونظر لهم بصدمه مكتومه وغمغم : مدام ونس !!

تجمدت ونس بأرضها ، ونظرت لجبران ثم للمديرة، ثم وقعت عينيها على سليم…
سكت لحظة، وغمغم بصوته منخفض، كأنه يحدث نفسه:
يعني إيه مدام ونس؟!!

نظر لهم بذهول مخلوط بالغضب وهدر: بنتك ازاي ؟!
نظر له جبران واشاره له بحزم وهتف: نحل مشكلة اختك اهم يا سليم!!

اقتربت ونس من جيلان وهي تحاول اخفاء عينيها من سليم وضمتها بحنان وقالت : أنا جيت مع جيلان من فتره حفله المدرسه يا سليم ..عشان كده في المدرسه افتكرو في علاقه بتربطنا.. بس جيلان زي اختي الصغيره!!

قطب سليم حاجبه بدهشه وغمغم: عشان كده افتكروها بنتك ده معقول ؟؟
نظر لها جبران وقلب عينيه بقهر وغمغم: المهم خلينا في المهم دلوقتي !!

أشار إلي مديرة المدرسة وهتف : جيلان لو غلطانه هتعتذر لي زميلاتها بس انا متاكد ان بنتي مش هتعمل كده من غير سبب!!
اومات مديرة المدرسة وهتف بمهنيه : فعلا زملاتها غلطت الاول.. بس ده مش معناه أنها تاخد حقها بايدها بالشكل ده !! هم في مدرسه انترناشيونال من أكبر مدارس البلد.. وليها نظامها ،وقوانينها ،وإدارة المدرسه مش هتسمح بالتجاوز ده ..

نظر جبران إلي جيلان وهتف بحسم : حصل ايه؟ وقلتلك ايه عشان عملتي فيها كده؟ اتكلمي يا جيلان …
بلعت لعابها بصعوبه ونظرت الي ونس التي اومات لها بتأكيد ..وربتت علي ظهرها تبث بها الثقه والأمان عادت جيلان بالنظر الي والدها وقالت : قالتلي اني مليش ام زيهم ..وحتي لما ونس جاءت معايا الحفل ومجتش تاني.. أنا اللي كنت ضاغطه عليها عشان تيجي مجتش برضاها !!

ضغط جبران علي فكيه بغضب وفتح فمه ولكنه توقف عندما رفعت ونس حاجبها بغضب وهتفت : يعني ايه وانتي يا بنت ازاي تقوليها كده؟ أنتي كنتي شفتي اني جايه غصب عني!! وايه اللي هيغصبني!! وكمان ازاي تتنمري علي زميلتك علي حاجه ملهاش يد فيها ..
وربنا اللي كتب عمر مامتها وعمرك وعمري واعمارنا كلنا دي حاجه محدش ليها يد فيها يا حبيبتي !!

نظر لها جبران بغرور بها وقد أثلجت صدره بدفاعها عن ابنته بكل شراسه وكأنها ابنتها…
رفع سليم حاجبه والشك يزيد في قلبه من طريقه ونس العنيفه في الدفاع عن شقيقته …

عالت شهقات الفتاه وغمغمت بدموع: أنا اسفه مكنش قصدي بجد!!

هزت ونس راسها بدهشة ونظرت الي مديره المدرسه وهتفت بصرامه وحسم : حضرتك بتقولي أن المدرسه هنا من احسن المدارس الإنترناشيونال في البلد ..تمام! بس اكيد مش من قوانين المدارس الإنترناشيونال اللي قايمه علي نظام وقواعد أن الطلاب يتنمروا علي بعض ..

نظرت لها مديره المدرسه وهتفت: يا مدام احنا…
قاطعتها ونس بحسم : جيلان كانت رد فعل مش اكتر..
لما حضرتك تحاسبي الفاعل ..رد الفعل مش هيكون موجود !!

رفع جبران حاجبه بدهشه وهو يشعر أنه يقع في عشق تلك الونس من جديد.. لكن أين هو ذلك العشق من عشقه لها ؟! هل يوجد بعد عشقه لها عشق وجنون !!

تنهد واقترب سند بيده علي المكتب وغمغم بهدوء مريب: البنت اللي اتنمرت علي بنتي لازم تتعلم أنها متتنمرش تاني!! وأن ده غلط يا مدام.. وانا بنتي هعرف ازاي اعلمها تاخد حقها من غير ما تضيعه !!

هزت مديرة المدرسة راسها ومسك جبران كف جيلان وخرج من المكتب وخلفه ونس وسليم الذي نظر في آثارهم والشك يزيد في قلبه وهو ينوي الوصول إلي ما يخفيه والده عنه !!

توقف جبران علي صوت الهاتف وقف وأخرج هاتفه ورفعه علي أذنه وهتف بقتامه : وصلت ؟!
صمت لحظات وهتف بصوت حاد: جاي حالا !!

نظر له سليم وفتح فمه قاطعه جبران بحسم : عندي مشوار مهم وبعده لينا قعده مع بعض يا سليم ..
فتح جبران باب السياره وصعدت ونس وجيلان واغلق الباب وصعد السياره وانطلق بسرعه…

وسليم ينظر في آثارهم والشك ينخر قلبه ..
مسح على شعره بحيره وغمغم: لا مش ممكن ده يحصل اكيد في حاجه غلط !!

…………………………………..
في المصنع

كان المصنع صاخبا كعادته، تدور الآلات، وتختلط الروائح الحلوة بالتعب…لكن في قلب الضجيج، كان هناك صمت لا يرى…صمت استقر في صدر وائل، لا صوت له… لكنه كان مدويا ..

وقف أمام طاولة التزيين، يحدق في الكريمة البيضاء دون أن يراها، يداه تعملان، لكن ذهنه… كان معطل
هناك شيء ناقص…

شيء لا يعرف كيف يسميه… ولا يريد أن يعترف به.
لكن أين آمل؟ عصف هذا السؤال بعقله كثيرا
مرت ساعات منذ بدأ العمل، ولم يسمع صوتها.
لم تقتحم المطبخ بحماسها المفرط، لم تثر الفوضى المعتادة، لم تحرق شيئا وتضحك، ولم تكسر شيء وتعتذر بدموع ولم تسأله بسذاجة عما هو بديهي….

غابت ليه ؟وليه فارقة معايا أصلا؟؟
سأل نفسه كثيرا ، لكن قلبه لم ينتظر الجواب.
كان قد أجاب بالفعل… منذ اللحظة التي بدأ يبحث عنها بعينيه كل بضع دقائق…

كلما مرت إحداهما بجانبه يرفع عينيه ثم يخفضهما بسرعه وكأنه ارتكب جريمه…

ثم يرفع عينيه نحو الباب، كأنه ينتظر أن تدخل في أي لحظة، لكن لا دون جدوي غاص في مقعده، وسحب نفسا بطيئا، وتمتم:كل ده عشان البت دمها خفيف؟
ولا عشان… خدت مساحة جوا قلبي وأنا مش واخد بالي؟

كان يخشي من هذا السؤال.ويخشي من الإجابة أكثر.
ما زالت آثار خذلان قديم تحفر في داخله، تذكره بأن المشاعر ليست دائما ملاذا… بل قد تكون فخا أيضا ..

همس لنفسه بحسره وكأنه يذكر عقله قبل قلبه :  لا يا وائل ونس لما مشيت، سابت جواك جرح
وانت يدوم لميت نفسك بالعافيه…وآمل؟
جاءت من غير استئذان، تضحك، وتكسر، وتدخل القلب في لحظه ..وأنت مش مستعد تاني لكسره جديده ابعد احسن !!

لكنه كان يعرف، في قرارة نفسه، أنه لا يفتقد صوتها فقط…بل يفتقد حضورها وضحكتها وعيونها وعفويتها وردودها الغير متوقعه يفتقد قنبله السكر كثيرا …

آمل كانت صاخبة… ملأت الفراغ الذي لم يعرف يوما كيف يسده.كانت مثل الطفولة، فوضوية، لكنها صادقة.
مسح وجهه بعنف وغضب من نفسه وهمس : أنا مش عايز أتعلق تاني مش مستعد أعيش نفس الوجع!!
بس برضه… مش قادر أمنع نفسي أفكر فيها…

نهض فجأة، بخطاه ثقيلة، وقلبه أثقل.. اقترب من أحد العاملين، وسأل بصوت متماسك:حد شاف آمل؟

  • لا يا شيف… ما جاتش النهارده…
  • ماشي…

عاد لمكانه، وجلس بصمت في داخله اشتعل سؤال لم يرد له إجابة :لو مجتش بكرة… هافضل مستني؟
ولا دي كمان… هتكون بداية النهاية؟

وبينما آلات الحلوى تدور من حوله كان قلبه يدور هو الآخر… كان المصنع ملأ بالسكر ، لكن لا توجد قنبله السكر الخاص به تنهد وهو يشعر أنه بداخل دوامة اسمها: امل !!
………………………………

كان الليل يغطي المدينة بوشاح داكن، وصبحي يسير في شارع خال إلا من صدى خطواته المرتعشة…

يحمل كيسا صغيرا في يده به زجاجه خمر ، ويهم بتدخين سيجارة، حين سمع صوت محرك يقترب بسرعة.
لم يدرك ما حدث، إلا والظلام يبتلع جسده…

سيارة سوداء انزلقت بجانبه كالأفعى، وبلمح البصر… يدان قويتان تسحبانه من عنقه وتكممان صوته.

صرخة مكتومة خرجت منه وكيس أسود غطاء رأسه.
وأصفاد باردة قيدت معصميه وصوت رجولي غليظ همس في أذنه:قول يا رب يا صبحي… اللي جاي مفيهوش رحمه!!

حاوطه الظلام الدامس، ورائحة جلد وكحول غمرته، وتسرعت أنفاسه كأنها تحاول الفرار من جسده قبل أن يفر هو….

فتح عينيه ليجد نفسه ملقي أرضا بعنف، والسجادة الفاخرة التي ارتطم بها لم تخفف شيئا من وجعه….

رفع بصره، فتجمدت أوصاله وهو يري أمامه جبران بطوله الفاره والصمت يلف الغرفة، لكن عينيه .. عينيه كانت تتكلم. وكأن نظراته تتجسد بداخلها شياطين لا رحمة فيها، ولا إنسانية….

وقف جبران بثبات مخيف، يداه معقوده خلف ظهره، منكبيه عريضان كأنه جبل من نار.. الأنوار خافتة… والجو خانق…

حتي أخيرا غمغم بصوت منخفض عميق، كأن الغضب نفسه يتحدث: عارف يا صبحي… انا كنت مستني اللحظه اللي اجيبك فيها تحت جذمتي من امتي.. مش هتصدق؟!

ابتلع صبحي لعابه بصعوبة،وارتجف  جسده وهمس  بصوت واهن: جـ جبران باشا … أنا… أنا غلطان… كنت محتاج… كنت..

قطع جملته عندما تحرك جبران واقترب منه بطريقه أثارت الرعب والتهديد في نفس صبحي ..
ثم انحنى جبران قليلا نحوه، وعينيه تقدحان شرر ،  ونظر لوجه صبحي المذعور وهدر : بتسرق مني؟وتسرق عقد أنا جايبه لمراتي ؟وتهددها؟وتمد إيدك النجس دي عليها وتاخد منها فلوس؟ يا ابن الـ…

حاول صبحي التراجع بذعر وهز رأسه بالنفي وغمغم : لالا أنا كنت بهزر.. مكنش قصدي اسرقه.. انا حتي رجعته ليها لما جات البيت مع اميره.. أنا لو كنت سرقته كنت بعته في نفس الوقت.. هستني ليه يا باشا ؟!.

نظر له وابتسم جبران فجأة… ابتسامة مرعبة، تشع جليد  وقال:أنا سايبك تتكلم عشان أدوبك في خوفك، مش عشان أسمعلك…كنت مفكرني نايم ع وداني؟
مفكر إن حد يدخل بيتي ويخرج من غير ما أحس؟
دا أنا بشم الخيانة في الهوا، وبسمعها في نبض الحيطان !!

ارتجف صبحي برعب ينخر عظامه وغمغم بدموع :
والنبي يا باشا … والنبي كنت مضغوط… أنا كنت..

قطع جملته بضحكة قصيرة مرعبة وقال ببرود:أنا كنت بسيبك عشانها…بس دلوقتي؟أنا هشيلك من على وش الدنيا،وهخلي التراب يقرف يلمك !!

انهار صبحي برعب هستيري وانحني علي قدم جبران يقبلها بندم وفزع وغمغم : أنا غلطان يا جبران باشا… بحق العيش والملح… أنا كنت مغلوب على أمري غصب عني كنت محتاج …

رفع جبران حاجبه وتمتم ببطيء قاسي سحق قلب صبحي من الرعب : العيش والملح اللي انت خنته ؟
دا انت حشره ولا تعرف قيمة العيش ولا الملح ،ولو بتموت قدامي مش هخليك تشم ريحة العيش…
خدووووه…

سحب رجال جبران صبحي وكأنه كيس قمامه وهو يصرخ ويتوسل،
لكن صوته لم يصل الي اذن جبران ولا احد من رجاله وكأنه حان وقت خلاص الحقوق وتحجرت القلوب مثلما تحجر قلبه هو من قبل …

هدر جبران بصوت جاحد حاد : ارموه في البدروم مش عايزه يشوف نور الشمس لحد ما يعمي او يموت ومتنسوش واجب الضيافه !

انغلق الباب الحديدي…وبدأ صبحي يواجه الجحيم…
اذاقوه كل انواع العذاب ..كان حقا وكأنه في الجحيم الذي يستحقه … كانت صراخته ترج الجدران بعنف… سحقه جسده بعنف وقسوه ..وانتهكوا حتي بات يأن بخفوت ممزوج بالألم… الالم الذي جعل جسده يرتجف وعقله غير قادر علي استيعاب الالم الذي يحاوط جسده بعنف …

وقف جبران ينظر له بتشفي.. وهو يتذكر كل دمعه ورجفه من ونس ..كان هو السبب فيها يوما …ويتمني لو يستطيع اقتلع روحه بيده..

رمقه بنفور وقال بهدوء:شكلك حلو وانت متبهدل كده…كنت دايما بتقولي إنك راجل…فين الرجولة دلوقتي؟فين صوتك العالي؟فين جبروتك؟
راح فين وش الديب اللي كنت بتهاجم بيه بنتي؟

رفع صبحي رأسه بصعوبه وهو يحاول السيطره على اترجف جسده وغمغم بدموع وانفاس متقطعه:
أنا آسف يا جبران باشا… والله ما كان قصدي…كانت ساعة شيطان… ونس في الاول والاخر بنتي..

قاطعه بجنون وصوت حاد كطلقات تنخر الجسد : بنتك؟
دي بنتي أنا…دي اللي لو دمعتها نزلت، أنا بدبح  بسببها بص لي كويس يا صبحي…أنت دخلت سكة غلط،
وسكت عنك كتير عشانها، عشانها هي وبس بس أنت؟
لا تعرف حب، ولا دم، ولا أصل.
أنت مجرد تاجر وسخ، بيبيع حتى ضهره…

اقترب منه وانحني ونظر له وهدر بفحيح خطير وعينيه تلمع بشرر حارق : لو كنت فاكر إنك خدت كل اللي عايزه… يبقى استعد عشان تدفع الثمن..وابتزازك؟
مش هيتكرر…مع اني هسيبك تعيش…بس من النهاردة، هتعيش حشره في الدنيا، تاكل بالعذاب  وتنام بالخوف، وتقوم بالرعب.وهبقى في ضهرك طول الوقت….

أول ما تفتح بؤك بكلمة زيادة، أو تمد إيدك على قرش مش بتاعك…أنا اللي هاجي آخد روحك بإيدي.
وساعتها؟
مش هتتعذب… أنا حرقك وانت حي !!

انهار صبحي برعب وهو يمرمغ وجهه بتراب حذاء جبران ويتذلل حتي يعفو عنه هذا المتجبر ..لكن السماح كان بعيد المنال أكثر ما كان صبحي يتصور …
…………………………………
في اليوم التالي ..
في فندق جبران الباشا ..
في مكتب ونس ..

رن الهاتف عدة مرات متتالية، رفعت ونس السماعه بهدوء وقالت : أيوه!

جاءها علي الطرف الآخر صوت أحد موظفي الاستقبال متوتر : في مشكلة كبيرة يا أستاذة ونس… نزيل بيزعق وعامل دوشة، بيقول حاجات اتسرقت من أوضته!!
ورافض يسمع أي كلام. ومستر جبران مش موجود…

سكتت لحظة، وتنهدت ووقفت بثبات وقالت : تمام، أنا جاية حالا ..

أغلقت الهاتف وتحرك بخفه الي الخارج ..لحظات وخرجت من المصعد بخطوات واثقة رغم الارتباك في صدرها،..

تقدمت نحو بهو الفندق… كان الصوت يعلو تدريجيا كلما اقتربت، لتجد رجلا في أواخر الأربعينات، بملابس أنيقة لكن أسلوبه لا يمت للرقي بصلة،

يصرخ في وجه موظفي الاستقبال:أنا هفضحكم ! اوتيل سبع نجوم ومفيش أمان! أنا حاجتي اتسرقت من غير ما حد يحس؟! أنا هقفلكم الاوتيل ده علي دماغكم !!

اقتربت منه ونس بلطف، محاولة تهدئة الموقف وهتفت بثبات :حضرتك ممكن تهدى شوية؟ إحنا أكيد هنساعدك ونتصرف فورا بس بهدوء.. لو سمحت!
نظر إليها باستهانة وصاح بحدة: وانتي مين بقا ؟ سكرتيرة يعني ولا ايه ؟ انتو جايين تهزروا؟! إنتي حتى مين سمحلك تتكلمي؟

ارتبكت قليلاً ولكنها حافظت علي تماسكها ونظرت حولها بخفة وقالت :أنا مديرة المكتب التنفيذي لجبران باشا ، وممكن نحل المشكلة لو حضرتك سمحت؟؟

اقترب منها أكثر، وهتف  بغطرسة : مديرة إيه يا بت ؟ أنا عايز صاحب الزفت ده ! أنا مش هتكلم مع حراميه !!

جحظت عينيها من وقاحته وهتفت : حضرتك انت في مكان محترم ..والموظفين هنا كلهم محترمين.. وصاحب المكان مش بيشغل عنده حراميه!

اقترب منها ولكزها في منكبها بعنف وهدر بغضب: لا مشغل حراميه.. ومعندكوش ذوق كمان ..حتة موظفه متسويش تلاته مليم واقفه تناطح معايا راس براس ..

أزاحت يده وهتفت : لو سمحت متمدش ايدك وكلمني زي ما بكلم انت من بدري بتتوقح وانا ساكته وبحاول احل مشكلتك!!

رفع يده بحدة ليدفعها، لكنها تراجعت بسرعه حتي تعثرت للخلف وكادت تسقط…

لكن قبل سقوطها امتد ذراع قوي حول خصرها والتقطها باحضانه وجذبها بقوه لصدره ..وذراعه الأخرى أمسكت يد الرجل الغليظة التي كادت أن تلمسها.. وملامح وجهه تحولت إلى بركان مشتعل…

ظل جبران قابضا على يد الرجل بقسوة جعلت عظام أصابعه تصرخ، وعيناه تتوهجان بوميض قاتل، لا يرى أحدا سواه، وكأن الزمن توقف عند لحظة اقتراب ذاك الحقير من ونس…

حاول الرجل التملص صارخا: سيبني! إنت بتعمل إيه؟ دي موظفة عندك مش أكتر!
دوى صوت جبران كالرعد وهدر بوعيد حارق : إيدك تتكسر قبل ما تطولها…

حدق به بعينين عاصفه ناريه وهدر : اللي كنت هتمد ايدك عليها دي تبقي مراتي.. مرات جبران الباشا !!

عالت الشهقات المصاحبه لهمهات بذهول.. وبهت وجه سليم بشدة الذي اتي مع جبران حتي يتحدثوا كما وعده جبران بالأمس.. نظر لهم بذهول وهو لا يصدق ما يسمع ولا ما يحدث ..

وقف الجميع في بهو الفندق، كأن الزمن قد تجمد، العيون معلقة بجبران، ونس بين ذراعيه وجسدها يرتجف بوضوح …

وتخفي وجهها في صدر جبران وتنحب بصمت ، والنزيل يحدق بهم يذهول تام ويتألم من قبضت جبران علي يده التي تزيد كل لحظه بضراوه قاتله…

كان الصمت  أثقل من الرصاص… إلى أن دوى صوته في المكان رعدي قاطع :مراتي
نظر حوله بحده وهدر بكلمات ثقيله دامغه لا تقبل النقاش: مراتي واللي يلمس شعرة منها، أو حتى يرفع صوته عليها… بيتحسبله حساب تاني…

ثم نظر بحدة لرجال الأمن الواقفين في ذهول وهدر :
إنتو واقفين تتفرجوا؟ خدوه… اقفلوا الكاميرات فورا، وبلغوا الشرطة إن في اعتداء على حرم جبران الباشا ومديرة المكتب التنفيذي للمجموعة…

اقترب من النزيل الذي يرتجف من الرعب والألم وغمغم بصوت منخفض لكنه مرعب:وبلغوا المحامين… القصة دي مش هتعدي على خير !!

نظر في عينيه بوعيد حارق وهدر : هتشيل ايدك ، وهتلف على دكاترة مصر كلها تدور على علاج، ولو ما اختفيتش من هنا في خلال دقايق… هتخرج من البلد دي في تابوت فاهم؟

اوما برأسه وجسده يرتجف بقوه وغمغم : أنا… أنا آسف… أنا مكنتش أعرف!!
قاطعه بنظرة حاده تقطع الروح : معرفتك مش عذر. الجهل هنا تمنه دم…

اوما برأسه بذهول مخلوط بالرعب وسحبه رجال الأمن واقترب سليم بوجه مصدوم وعينيه تلمع بخيبه أمل وغمغم : اتجوزتها .. اتجوزتها يعني ايه؟! أنا مش فاهم اتجوزتها من ورايا ؟؟

قبضة ونس علي سترت جبران وحاولت الانسحاب وهي تخفض عينيها أرضا.. تمسك بها بقوه وثبتها بحضنه وهتف بهدوء وبساطه مرعبه: من وراك، ولا من قدامك، ولا من فوق دماغ الدنيا كلها أنا بحبها… وإتجوزتها…

همسة سليم بصوت مرتجف غاضب : وانا.. وجيلان كنت هتفضل مخبي لحد إمتى؟!
نظر له وهتفت بتاكيد عاصف : مشكلتنا اننا كنا عايزين نراعي مشاعركم علي حساب حياتنا .. أنا عملت اللي شايفه صح… الباقي بقا تبلوه وتشربوا ميته !!

نظر لهم سليم بصدمه يعلوها خذلان يفتك به وهتف : عمري ما هسامح انك حطت واحده تانيه مكان امي..
امي اللي ضحت بحياتها عشانك ولا نستها ؟!

نظر له جبران بنيران مستعار واقترب منها وهدر بغضب: عمري ما نسيتها ولا هنسي!!  بس انا مش هحاسبك علي الكلام ده ..عشان لو حسبتك هخسرك وتخسرني للابد !!

هز رأسه وتمتم بغضب ومقت شديد : انت خسرتني ومش أنا وبس.. وحتي جيلان متفتكرش أنها هتقبل بالوضع ده !!

نظر الي ونس بحقد وهتف : وانتي كنت شايفك ملاك! بس يا خساره ..لو كنتي فاكره نفسك لعبتيها صح وهتطلعي كسبانه.. أنا هطلعك خسرانه كل حاجه !!

نظرت له ونس بدموع منهمره.. وفتحت فمها برجاء ولكن قطعها جبران ورفع يده بحسم وهدر: هي ملهاش دعوه كلامك معايا متنساش أنها مراتي وكرامتها من كرامة جبران الباشا ومش هسمحلك تمسها بحرف !!
ابتسم بسخرية وغمغم : خساره والله !!

وانصرف بغضب حارق ، أغمضت ونس عينيها وهي تشعر بكل شىء ينهار فوق راسها.. وهتفت بصوت مخنوق:سليم… استنى ارجوك ارجع والنبي ! هيتخانق مع دمع …

تمسكت بجبران وهتفت بنحيب : ألحقه ارجوك ..عشان خاطري.. هتحصل مشكله بينه وبين دمع !!
اغمض عينيه بيأس وضغط على فكيه بغضب.. وهما يتحرك بخطوات عنيفه ..لكنه شعر بجسدها يهاوي علي الأرض.. وارتجاف يدها يزيد

عاد مره اخري وهو ينظر لها برعب ولف ذراعيه حولها وضمها بقوه وغمغم : مالك يا روحي ؟!اهدي مش هيحصل حاجه ..هحل كل المشاكل بس اهدي !!

حدق بها بذهول مخلوط بالرعب عندما وجد وجهها شاحب بشده ..مسح على وجنتها وحملها بين ذراعيه وتحرك بها الي المصعد ثم جناحهم …

وقلبه يخفق بقوه واخيرا استطاع نطقها أمام الجميع
ونس زوجته وملكه الي الأبد ..
دلف جبران من باب الجناح واغلقه بقدمه وتحرك وضعها علي الفراش برفق…

دفنت ونس رأسها في صدره كأنها تدفن خوفها…وهي تنحب وتشهق وجسدها يرتجف بقوه
مسح على شعرها بكل العاصفه الصامته التي تحتاجه بكل اللهفه التي تعتريه ..

غمغمت بصوت متحشرج بالوجع: ليه يا جبران؟ ليه عملت كده قدام الكل؟ أنت عارف إننا مخبيين جوازنا… وسليم… سليم اتصدم وزعل اوي !!

اغمض عينيه وتمتم بصوت عميق بدون ذرة ندم : كنت عايزاني اشوفك بتتهزقي من واحد مايستاهلش حتى يبص ناحيتك وأسكت؟ كنت هسيبك تتشتمي وتتهيني وأنا واقف أتفرج؟ لا يا ونس… أنا راجل، وجوزك، ومراتي محدش يمد إيده عليها ده علي موتي يا ونس !!

اومات برأسها وهمسة بحزن : بس… إعلانك كده فجأة كسر كل اللي كنا بنحاول نحافظ عليه… سليم اتجرح… دمع لو عرفت، اكيد هتزعل… وهيفهمونا غلط!!

قبلها بعمق على جبهتها وتمتم بحنق :أنا ماكذبتش، ولا خبيت… كنت سايبك على راحتك تحافظي على مشاعرهم… بس أنا؟ قلبي اتشل لما شفتك بتتهزقي قدامي… نطقت من غير تفكير… لأنك مراتي، واسمك لازم يتقال، ويتعرف، ويتحفر جمب اسمي يا قلبي!!

نظرت له بعشق انفجر داخل قلبها ومشاعر جياشه لكنها متناقضة ما بين عشق ممزوج بالفخر والأمان.. ووجع من الصدمه اللي سببها لأقرب الناس لقلبها …

اومات برأسها وهمسة : سليم مشي… ومش عارفه هيعمل ايه مع دمع ؟!
مسح دموعها ومرر يده على جسدها بنعومه وهمس: لو كان بيحب دمع بجد مش هيهون عليه يزعلها أو يخسرها.. مش هيقدر اصلا يخسرها ولو مش بيحبها يبقي خسارته مكسب ليها !!

ضمها إليه وشدد عليها وهمس بصوت أجش : سامحيني لو وجعتك… بس أنا ماعرفتش أكون ساكت، وأنا شايفك بتتهاني قدامي .. وانا هروح لسليم وهتكلم معه واصلح كل حاجه يا حبيبي …

اومات برأسها داخل صدره وهمسة : يارب يا حبيبي مش عايزه اخسر اختي ولا انت تخسر ابنك !!
اوما برفق وهمس: أن شاء الله مفيش خساره يا قلبي …
………………………………..
في فيلا سليم الباشا

دلف سليم الغرفة وأغلق الباب بعنف، وتبعته دمع بدهشة من حالته الغريبه التي تراها لاول مره وهتفت : سليم في ايه ؟! مالك ..ايه اللي حصل ؟!

استدار لها فجأة ونار الغضب تشتعل في عينيه وهدر : ايه عايزه تفهميني انك مكنتيش تعرفي!! اختك ..حبيبتك امك التانيه.. مقلتلكيش علي اللي عملته ؟!

نظرت له بدهشة وردت: قلتلي ايه؟ وعملت ايه يا سليم؟ أنا مش فاهمه ؟!
ضحك بسخريه موجعه وهتف بحنق : مش فاهمه !!مبروك يا دمع اختك اتجوزت ابويا في السر من ورانا كلنا !!

شهقت دمع ..وتجمدت بأرضها .. وهي تشعر كأن شلل أصاب كل عضله في جسدها.. وجحظت عينيها ، وارتجفت شفتيها وهمس :ونـ… نـ… نـس…؟

تراجعت خطوة وخطوة كأن الأرض تهتز تحت أقدامها ، حتي اصطدم ظهرها بالكرسي وسقطت فوقه وشهقه  مكتومة انفلتت منها ، بعيون زائغه ترفض التصدق…

نظر له بغضب والقي أحد الفازات بحنق وهتف بصوت مر ممزوج بالقهر  : أيوه… أختك دلوقتي مرات أبويا!!
إتجوزوا واحنا اخر من يعلم ، ومحدش له لازمة في المعادلة دي غيرهم هما الاتنين.. كأنه ملهوش ولاد ولا كان له ست ضحت بكل حاجه عشانه وفي الاخر خسرت حياته بسببه!!!

نظرت له بارتباك ورفعت يدها وهمسة بتشويش : أنا مش قادره اصدق ..مستحيل!  ونس متعملش كده ابدا.. مستحيل اصدق !!

اقترب منها وجذبها بقوه وهدر بصياح هز جدران الغرفه من شدته : لا صدقي ..اختك مرات ابويا يا دمع !!
همسه بصعوبه وصوتها يرتجف :اكيد في سبب.. اكيد ونس مش هتعمل كده غير سبب أنا عا..

سليم قاطعها بحدة:سبب!! اقلك أنا سبب ..عشان تبقي مرات جبران الباشا ..اختك طمعت يا دمع والا مكنتش اتجوزته في السر وبالسرعه دي!! قبل ما تتكشف نيتها ..

انهارت دمع بنحيب حاد ، ودموعها تنهمر بغزارة وهي تتمسك بذراعه وهتفت : لا يا سليم بلاش تظلمها.. ونس عمرها ما فكرت كده! عمرها ما طمعت في حاجه مش بتاعتها  ..مستحيل تكون عملتها علشان مصلحة أو طمع زي ما بتقول لازم تشوفها صح !!

سليم شد ذراعه من بين يديها بقسوة، واقترب منها، بصوت خفيض لكنه مشحون بغضب :ابويا اللي كنت بشوفه فوق الكل.. اختك كسرت البرواز اللي كنت حافظه فيه طول عمري !!
بس أنا شايفها بعين تانية، شايفها في مكان ماينفعش يكون فيه حد غير أمي…
شايفها بتكسر الصورة اللي كنت شايلها في قلبي لجبران الباشا..  وهو بيفضل ذكرى أمي على أي ست تانية…
دلوقتي؟الست اللي أبويا حبها واتجوزها، هي أخت مراتي؟دي مهزلة… دي لعنة مش جوازه!!

حاولت دمع التمسك به لكنه سحب نفسه بعنف وهدر :
ماتقربيش… مش عايز أسمع منك دلوقتي…
كل اللي حواليا بيخدعوني…
أبويا، أختك… حتى إنتي دلوقتي مش عارف أنتي في صف مين!

همسة بكسره : أنا في صفك يا سليم… بس برضه في صف أختي…مش قادرة أكرهها، ومش هقدر أكرهك…

هز رأسه بالنفي وهدر وعينيه تشتعل بجنون: لا يا دمع لازم تختاري أنا ولا هي لازم واحد يعيش في قلبك والتاني يموت !!

جحظت عينيها وهزت راسها بذهول وهمسة : يعني ايه ياسليم؟ انت عايز تبعد عني بعد ده كله ؟!
اقترب منها وهدر بغضب مكبوت: تقدري تحافظي عليا وعلي بيتك لو عايزه!!

نظرت له ودموعها تنهمر تحفر حفرة علي وجنتيها وهمسة : ازاي يا سليم ..أنا مش فاهمه ؟!
ضغط علي فكيه بغضب وهتف: تقولي لأختك تطلب الطلاق.. الجوازه دي لازم تنتهي!!

تجمدت مكانها وكتمت فمها تمنع شهقتها وغمغمت بنحيب : ايه؟؟
هز رأسه وتمتم بحنق وغضب : ايوه يا دمع ولحد ما ده يحصل خليكي بعيد عني !!

تراجع للخلف ودمع تحاول التمسك به.. تحاول أن تشرح لكنه كان مشتعل بنار الغضب ..خرج من الغرفه وهي خلفه تحاول الوصول له ..وصاحت بنحيب : سليم
سليم استنى! استنى الله يخليك!أنا… أنا مش مستوعبة والله استني والنبي !!

نظر لها من أسفل الدرج وهدر بعنف: اوعي تتوقعي مني اني ابارك ولا افرح مهم حصل.. الكارثه دي لازم تخلص !!

ورحل وهو يستمع إلي صوت نحيبها المسموع وقلبه يكاد يتوقف من الحزن والغضب ..سقطت دمع أرضا وهي تنحب وتشهق وجسدها يرتجف وهي لا تستوعب كلماته التي تشبه الخناجر اخترقت قلبها ومزقته الي أشلاء ..
…………………………………….
في المصنع

جاء الصباح كسول كأن الليل رفض الرحيل،… وفي قلب المصنع ، كان وائل يقف ، يظن أنه منشغل في إعداد خليط جديد، بينما كان ذهنه عالقا عند بابٍ لم يفتح بعد.
زفر بحنق وهمس : ماجتش امبارح… يمكن تعبت.يمكن زهقت.يمكن مش راجعة أصلا!!

تنهد وهو يقلب المزيج أمامه دون روح…
لكن في اللحظة التالية… سمع صوت خطوات ضعيفة، مترددة،ثم انفتح الباب ودلفت آمل ببطء وبهدوء علي غير العاده …

نظر لها وكأن الهواء نفسه أثقل من أن يتنفسه
بلع لعابه بصعوبه كان وجهها شاحب، وعيناها تغلفهما ظلال التعب.أنفها الصغير أحمر قليلا، وصوتها خرج خافت وهي تحاول التماسك: صباح الخير!!

وقف وائل متجمد وشيء في داخله ارتجف.كأن قلبه خفق فجأة بعد سكون طويل وهمس : جت…رجعت.
مسبتنيش!!

لكن صوت عقله كان أقسى من قلبه:وإيه يعني؟ جات الشغل… مش جاية ليك أنت ما تبقاش أهبل!!

رآها تتجه نحو ركنها المعتاد، تحاول بدء العمل، لكن حركتها كانت بطيئة، وأنفاسها متقطعة…
اقترب منها دون أن يشعر، نظر لها مليا، ثم قال بصوت خفيض قلق : إنتي صوتك متغير… عندك برد؟

حاولت رسم ابتسامه مرهقة وغمغمت :شوية برد كده… مش حاجة يعني!!
نظر له ولم يرد تراجع خطوتين… ثم استدار فجأة وذهب نحو ركن العصائر وصوت عقله يصرخ:رايح تعمل لها عصير؟ ليه؟ما تبعد، ما تكررش نفس الغلط! انت مجنون !!
لكن قلبه كان يسوقه دون رحمة…

أعد عصير ليمون ساخن، ووضع فيه لمسة من العسل،
ثم حمل الكوب نحوها ومد يده، حاول أخرج صوته طبيعي:خدي… اشربي ده، هيهدي زورك ويخفف التعب سلمتك يا امل !!

رفعت عينيها بدهشة، خذلتها قوتها فاستسلمت للكوب وهي تهمس: الله يسلمك يا شيف انت طيب أوي ، مش زي ما بتعمل نفسك جامد كده وتشخط فيا كل شويا !!

كادت كلمتها تجرحه… لكنها فقط زادت ارتباكه.
وابتسم بخفة، ثم تراجع خطوتين، وأدار ظهره، كأنه يهرب من نفسه وهمس : ولا طيب ولا حاجه ؟ أنا بس…
قلبي بيجري عليكي ، وأنا مش عارف أسكته؟

حاول التركيز في عمله، لكن كل حركة منها كانت كأنها تترد صدها بداخله صوتها المبحوح بالم ، أنفاسها الثقيلة،وصوت سعالها الخافت  وحتى سكونها… كان يولمه ..

نظر لها بدهشة وهمس: لما تعبانة… جايه ليه ؟!
جاية تشتغل وهي مش قادرة !! جاية ليه؟جاية عشاني؟
نفض الفكرة من رأسه بعنف وغمغم : كفاية خيال، متصدقش أنت … مش غبي!!

لكن قلبه…كان قد اتخذ قرار في داخله ، كأنه يكتب سطرا جديدا في حكايته:آمل…
اسمك خفيف، بس وجودك تقيل على قلبي.
تقيل… بحلاوة تخوف ..

انتهى اليوم ببطء، ثقيلا على القلوب قبل العقول كأن الساعات ذاتها كانت تقاوم الانقضاء.
راقبها وائل من بعيد، وهي ترتب أدواتها بتعب ظاهر… حركة يدها أبطأ من المعتاد، وكتفها يميل كل بضع ثوان كأنها تكاد تسقط…

كتم تنهيدة حارقة، وتراجع خطوة للوراء، لكنه لم يستطع الرحيل.ظل واقفا هناك… ينتظر وغمغم عقله : خليك عاقل… خليك بعيد!!
لكن قلبه همس : بس هي تعبانة…وكمان لوحدها!!

سمع صوت سعالها الضعيفة، ولم يحتمل
اقترب بهدوء، كأنه يخشي  أن تلاحظ كم هو يقترب.
وقال بنبرة ناعمة أكثر مما اعتاد: هتروحي إزاي كده؟
رفعت رأسها وابتسمت برقه وقالت : زيي زي الناس… هركب المترو…

هز رأسه وقلبه يصرخ:لو نزلت كده، جسمها هيتهد…
هتمشي وسط الزحمة دي ازاي؟!

دنا منها وقال وكأن الأمر لا يقبل نقاش:هستناكي.
هنمشي سوا …
رمشت بدهشة وابتسامة خفيفة هربت لشفتيها وقالت :
هتوصلني يعني؟
رد دون أن ينظر لها:مش هسيب حد تعبان يروح لوحده!!

خرج الاثنان من المصنع…وصمت ثقيل خيم عليهما.
لم يكن صمتا جاف، بل كان نابض، متوترا… كأن الهواء بينهما صار أضيق من أن يتنفس دون أن يفضح شيئا…

وصلا لمحطة المترو، نزلت خطواتهما على السلالم ببطء، حاولت  آمل أن تخفي ارتجافة خفيفة في أطرافها… بينما وائل كان ينظر للأمام، لا يريد أن يراها تتألم، كي لا يشعر بها  أكثر…

لكن قلبه كان يراها…يسمع أنفاسها، يراقب ارتباك أصابعها، وتلك المحاولة الحمقاء للتظاهر بالقوة…

ركبا المترو، جلسا جنبا إلى جنب وظلت صامتة.
نظر الي الارض وقال بهدوء : مش كنتي ترتاحي يوم كمان؟ باين عليكي التعب لسه ماسك فيكي !!

ردت بابتسامة خفيفة وهي بتشد الكوفية على عنقها :
لو استنيت على نفسي يوم كمان، كنت هتجنن. القعدة في البيت وحشة اوي …

نظر لها، وغمغم بتردد:وحشة؟
مع إنك طول الوقت بتضحكي وبتتحركي كأنك مش بتعرفي تقعدي دقيقة. انا متخيلك في البيت اصلا ..
لابسه بيجامه مرسوم عليها كرتونك المفضل وشعرك ناعم ومفرود علي وشك !!

ضحكت ضحكة صغيرة، مرهقة بدهشة: فعلا كأنك معايا في البيت ، بس عشان الحركة بتنسيني…بس لما بتقف، كل حاجة بتطلع مرة واحدة!!

صمت  لحظة… وهمس بصوت أخفض: بتطلع إزاي؟

تنهدت بثقل ونظرت له وهمسة ببطء:زي كأنك فجأة بتفتكر إن مافيش حد يستناك  ولا حد فاكرك.
ولا حد هيسأل لو اختفيت اصلا ..

نظر ليها للحظة طويلة، وعينه تموج بصراع، وعتاب، واندهاش وقال :بس… أنا سألت يعني… كنت واخد بالي انك غايبه !!
رفعت حاجبها، وقالت بسخرية خفيفة:آه؟ من بعيد لبعيد
أنا مش بضعف بسهولة… بس يومين التعب دول، حسسوني إني لوحدي أوي.

لم يرد… فقط استدار لينظر لها وحدق الي عينيها التي  ممتلي بالدموع وابتسامه صغيره تزين وجهها لكنها مكسورة ..هنا سقط الحاجز كأن شيئا بداخله انكسر فجأة دون إنذار.
وقال بصوت خافت:إنتي مش لوحدك !!

نظرت له بسرعة لكن وجهه كان ثابتا…
كأن الجملة صدرت منه رغما عنه، لا إرادة له فيها.
ثم أردف، محاول
تخفيف وطأتها: يعني طول ما أنا موجود هنا في الشغل…هتلاقيني حواليكي!!

لم ترد لكن تلك الدموع التي لم تسقط، والراحة التي غلفت ملامحها فجأة كانت كفيلة بأن ترد.
نزل معها في محطتها… أوصلها حتى باب العمارة، دون أن يسأل لماذا، أو يعترف بأنه لا يستطيع أن يتركها تمشي وحدها في هذا البرد وحين وقفت على العتبة، التفتت له وقالت بخفوت:متشكرة أوي يا شيف.

ابتسم وهو يرد، ودفن يديه في جيبيه: متشكرنيش يا قنبله السكر بس خليكي دايما بخير

ضحكت رغم التعب، وهزت رأسها وقالت : قنبلة السكر  بخير، بس متلجة شوية!!

همس دون أن يدري:وأنا بدوب التلج ده… غصب عني.
نظرت له بدهشة وابتسمت بخفوت وهمسة: تصبح على خير يا وائل!!
هز رأسه وتمتم: وانتي من اهل الخير يا قنبلة السكر ..

صعدت الدرج بسرعه وهو ينظر في آثارها حتي اختفت وتحرك بعقل شارد.. وقلب فقد أحدي دقاته وانتهي الأمر .. 
…………………………………………
في مكتب سليم الباشا

سكن كل شيء في مبنى الشركة، وكأن الزمن توقف احتراما للجرح المفتوح داخل صدر سليم…

كانت الأضواء الخافتة تراقص الظلال على الجدران، بينما وقف هو عند النافذة، شاخص ببصره في المدينة التي ترفض أن تنام، تماما كقلبه…

قبض علي يده خلف ظهره، وصدره يعلو ويهبط بنفس ثقيل، كأنه يخرج من روحه غصة لا تقال.
طرق الباب بخفة ودلف وترك الباب … وصدح صوت ثقيل : سليم !!

ذم شفتيه ولم يتحرك لم يلتفت … ظل صامت، يطالع الزحام من بعيد، بينما الصراع الحقيقي على بعد خطوات منه فقط …

اقترب جبران خطوة وجلس وغمغم: كنت متخيلك هتزعل ! بس هتفهم وتقدر.. أنا جتلك مش علشان أبرر…
ولا انا بحب أبرر، ولا عمري كنت بعرف أشرح…
بس جيت كأب… اب ضيع سنين كتير بعيد عن ولاده بس مش عايز ابعد اكتر !!

غمغم سليم دون أن يلتفت : أنا ما بقيتش بزعل … اتعلمت من حضرتك إن السكوت اصعب… السكوت بيجرح أكتر من أي كلمة…

دنا جبران للامام وهتف بصوت قوي : بلاش تغلط غلطتي.. وتعيش ولا تسمع ولا تفكر .. السكوت اوقات بيغرقنا وانا مش عايزه تغرق يا ابني !!

أدار سليم رأسه ببطء، ونظر له وعينيه كالجمر تحت رماد وهتف : بأي حق؟اتجوزت أخت مراتي من ورايا…
ما قلتش حتى! أنا إيه؟ مليش لازم في حياتك ؟
أنا مكنتش أستاهل كلمة ياباشا ؟

زفر جبران بعمق، ونهض واقترب منه حتي وقف أمامه بهيمنته المعتاده وقال :  لازم تفهم… إني اتجوزت ونس مش عشان طيش… ولا شهوة، زي ما عقلك بيصورلك
أنا اتجوزتها… عشان كنت ميت، وهي رجعتلي النفس..

هز سليم رأسه بسخريه وغمغم بمراره : وهي وافقت ليه؟عشان بتحبك؟ولا عشان طمعانة فيك؟
واحدة أصغر منك باتنين وعشرين سنة، شافت فيك إيه؟

رفع جبران عينيه وغمغم بصوت حاد : ونس؟
ونس ابعد ما يكون عن الطمع.. ونس اطهر
وأنضف من إني أشك لحظة إنها دخلت حياتي طمع.
أنا اللي كنت طمعان…
طمعان في حضن يدفيني، في كلمة تطلعني من وحدتي،
في قلب يصدقني بعد سنين كنت فيها بكلم نفسي.
أنا كنت طمعان أعيش باقي العمر في حضنها.
اللي فيه أمان، ودفا، وحنان…
الحاجات اللي اتحرمت منها من زمان…

ابتسم سليم  بجانب فمه بسخريه ونظر الي الشرفه بحنق ..زفرا جبران بحنق وهتف بصوت أجش : أنا اتجوزت ونس  غصب عنها…أنا اللي ضغطت عليها، هددتها…
قلت لها لو ما وافقتيش، سليم ودمع مش هيكملوا.
وهي… اختارت سعادتكم هي ما غلطتش.
دي دفعت التمن عني وعنك…
ونس ضحت بحياتها علشانك تتجوز اللي بتحبها.

اهتزت ملامح سليم للحظة، لكنها استعادت صلابتها بسرعة وهتف :يعني اتجوزتها بالعافية؟ليه تعمل فيها وفينا كده ليه ؟! ودلوقتي لما عشقتها وعشقتك العشق اللي شوفته في عنيكم كان عافيه برضو ؟!

هز جبران رأسه وتمتم بصوت متحشرج موجوع : آه… عشقتها يا سليم…غصب عني، وعنها…
عشان كنت حاسس إني بضيع، وكنت شايف إنها طوق نجاتي.
بس ماكنتش عارف إن الطوق ده هيغرقني في عشقها ..

عض سليم داخل فمه وقال بصوت خافت حزين :
وامي ازاي قدرت تدخل واحده مكانها ؟!
ازاي هان عليك.. ازاي يا بابا !!

اقترب جبران أكثر، وتمسك بذراعيه وهزه برفق وهتف بعجز لاول مره : أنا عمري ما نسيت أمك…أمك كانت كل حياتي… ولما ماتت، أنا اللي مت…بس ما حدش دفني… عشت ميت…كنت بصحى وأكمل يومي زي التمثال.
حاولت أكون قوي علشانكم…

بس الحقيقة؟ أنا كنت وحيد… ومش بني آدم اتحولت لشخص تاني بارد اوي وخالي من اي مشاعر …بس قلبي اتفتح من تاني يا سليم…

وونس ما أخدتش مكان حد…هي خلقت مكان جديد، مكان ما حدش عمره كان فيه..

زفر سليم بوجع  كأنه يحاول كتم وجعه، بس فشل تماما
نظر له جبران واضاف بصوت مبحوح : أنا ماجيتش أطلب انك تقبل أو ترفض …بس جيت أطلب منك تفكر،
قبل ما تخسر قلب كان كل اللي بيعمله… إنه بيحبك…
دمع ملهاش ذنب ولا ونس ..الذنب ذنبي وعشان كده كان لازم اجيلك !!

رفع سليم وجهه وانزلقت دمعه من جانب عينيه بصمت وقهر وغمغم بجفاء : أنا مش قادر أكره دمع!!
بس مش قادر أبلع اللي حصل…
ومش قادر أتقبل إن واحدة تانية تاخد مكان أمي…
أمي اللي ماتت من خمستاشر سنة ولسه ريحتها في قلبي….

اوما برأسه وقال بوجع يضغط على صدره: أنا آسف…بس ماكنتش عايزك تحس إني بخون أمك.ولا عايزك تشوفني ضعيف…
لكن أنا إنسان يا سليم… إنسان اتعلق بنور صغير في آخر نفق اتقفل عليه من سنين…

أعاد سليم  نظره للنافذة، وقال بصوت مشروخ:
سيبني دلوقتي…عايز أتنفس بعيد عن كل حاجة وجعتني…

اوما برأسه وتراجع للخلف حتي وصل إلي الباب والتفت وهتف بهدوء : هسيبك يا سليم ..بس متنساش، ونس ما خدتنيش منكم …بالعكس هي رجعتني ليكم ..

خرج جبران، وترك الباب مفتوح ..
وظل وسليم يقف مكانه…وعينيه غارقتان في اللاشيء،
وقلبه بين نبضة ونبضة…يصرخ في صمت…
………………………………………..
مر أسبوع…
لم يكن اسبوع  عاديا ، بل أسبوع كفيل بأن يترك في الروح ندوب لا تشفى، أن يهدم ثقة بنيت طوبة طوبة، ويبعثر ملامح الونس، الأمان، واليقين…

وقف جبران… على حافة الانهيار.
قلبه ينزف ولا يستطيع البوح.
يري ونس تذبل كل يوم، ويجاهد معها بكل حنو وهو يحترق بدموعه،

يمد يده كي يواسيها  ، لكنه يشعر في كل مرة يقترب، كأنه يزيد الوجع…
إحساسه إنه خسر سليم، يؤلم قلبه مع كل ساعة صمت،

يتذكر زوجته ، يتذكر سنين الوحدة،
يتذكر كيف أعادت ونس له نبضه وأعادته للحياه ..
لكن رجوع النبض كان تمنه دموع الغاليين في حياته ..

لكن ونس…كانت تموت بالحياه
تتجول في البيت كأنها تمشي وسط مقبرة،
كل جدران البيت  تهمس لها: خنتي نفسك ..ضيعتي عمرك، خسرتي الكل…

تحاول أن تبتسم لجبران، تكتم الألم، تحضنه حتى تهرب من برد الوحدة، لكن الدموع تخونها، وتسبقها كل ليلة.

هي التي ضحت…هي التي حملت أخطائهم، سندت ضعفهم، كانت تنام والجوع يلتهم احشاءها حتي تشبع دمع ،..

واليوم … صارت متهمة، مطرودة من حضن الأمان،
كل ما فعلته بحب ، أصبح الآن يحسب ضدها.
ولأول مرة، تشعر إنها وحيدة…

وحيدة تمام ، بداخل بيت دفيء ، بين أحضان رجل تعشقه، لكن لا تستطيع السعاده معه ..

دمع…لم تعد ترى في المرآة سوى ملامح باهتة لفتاة غريبة، عينان محمرتان من السهر والبكاء، وقلب يرتجف من الخوف… من الخذلان…

ترسل الرسائل لسليم ولا يصلها رد، تتصل وتقابل بالصمت القاسي،..

تشعر أن الأرض ضاقت بها ، أن كل الطرق تؤدي إلى لا شيء… كل ذكرى لأختها تحرقها…ونس التي كانت أمها، سندها، قلبها…صارت في لحظة متهمة،
وصارت دمع سجانة، تحبسها خلف جدران الغضب والخيبة…

ولا تدري، أي ذنبٍ ارتكبت حين سمحت للغيرة أن تطغى على الوفاء؟

سليم…لم يكن غاضبا فقط، بل كان مكسور.
كأن سنوات عمره انقسمت إلى ما قبل الصدمة… وما بعدها…كل شيء صار مزيفا، مختلا…

يشعر أن قلبه ينتزع من صدره كل مرة يغمض فيها عينيه،

يرى وجه والدته ، يتذكر ضحكتها، حنيتها، احتوائها له،
ثم تتسلل صور زواج والده السري من ونس ، فينهار كل شيء.

لم يكن يتوقع أن يزرع خنجر الخيانة بهذا العمق،
منهم… من أقرب من امتلك قلبه…يتحرك بجسده فقط،
أما روحه؟ فمدفونة تحت أنقاض الزعل، وصراخ الأسئلة التي لا يجد لها أي أجابة ..
……………………………………

كان أسبوع، لكنه بدا كألف عام من القهر.لا كلمة ربتت على قلب موجوع،ولا حضن لملم شتات الروح،ولا نظرة غفرت أو صفحت.بل قلوب… انكسر منها الظهر.

كانت ونس جالسة بجانب جبران، عيونها ملتصقة بالزجاج، ولكن عقلها غارق في بحر من الهموم. كانت عيونها متعبة، وروحها أرهقتها الأيام التي مرت. وجبران يلاحظ ذلك، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى أعماقها.

يحاول أن يهدئ من روعها، ولكن لا شيء يخفف من الألم الذي يطغى على قلبها. قلبها المكسور، الذي لم يجد في يدها سوى الحزن والخيبة…

وبين لحظه ولحظه ، شعر جبران بشيء غريب. فجأة، ارتفعت صوت الفرامل التي لا تجدي نفعا، واهتزت السيارة بشدة…

حاول جبران بكل قوته أن يتحكم بها، يدور المقود بعنف ويضغط على الفرامل التي استحال عملها

نظرت له ونس في هذه اللحظة، وادراكت أن الأمر خرج عن سيطرته…
صرخت بفزع وجحظت عينيها برعب وتسارع قلبها ورعشة شديدة سرت بجسدها وغمغمت بدموع : جـ جبران

كان جبران مشغولا بالمقود، عيناه مشدودتان إلى الطريق، لكن جسده مشدود أكثر نحوها. كان يعلم أنه لو فقد السيطرة على السيارة، فإن الخطر سيطالها أولا. لم يكن أمامه خيار سوى أن يضع حياته على المحك من أجلها…

صاحت بنحيب ودموعها تنهمر وتتمسك بذراع جبران ، وهو يحاول تثبت نفسه… وهي تلهث بجانبها، وعينيها تتسارع مع حركاته والرعب يفتك بها …

هدر جبران محاولة لتهدئة قلبها : متخفيش ياونس هوقفها !!

تحول الجو العام لحالة من الارتباك والضغط النفسي، والتوتر سكن أرجاء السيارة. كل ثانية كانت كأنها ساعة، وكلما كانت السيارة تسرع، كانت ونس تزداد خوفا. أما جبران، فكل همه هو حمايتها.

كانت السيارة تترنح على الطريق وكأنها وحش جريح فقد السيطرة على جسده، وكل ثانية تمر تهدد بأن تكون الأخيرة….

خفق قلبها بجنون،وغرقت عيناها بالدموع، وارتجف جسدها برعب  أما جبران، فكان يقاتل المقود بيديه الثابته ، يحاول أن يسيطر على وحش انفلت من زمامه وهدر : امسكي نفسك يا ونس، ما تخافيش… أنا معاكي، ومش هسيبك!!

كلماته خرجت مرتعشة لكنها مملوءة بيقين الرجولة والعشق…
لم يكن يفكر في نفسه لحظة، بل كان كل ما يشغله هو أن تخرج هي سالمة…

رآى الشجرة تعترض الطريق، لم يتردد. حاد بالسيارة بجسارة، ووجه جانبها نحو الجذع الغليظ، متعمدا أن يتلقى هو الضربة… لا هي….

لحظة التصادم كانت كأنها انفجار، صوت حديد ينتزع من قلبه، وجسد يقذف بقسوة نحو الأمل الوحيد.
كانت الضربة صاعقة… تطاير الزجاج، واهتز العالم… وفجأة سكن كل شيء وفقط الصمت …

مر وقت قصير وتململت ونس وهي تلهث، وجسدها يرتجف، لكن دون دماء، ولا اي أذى ظاهري

نظرت بسرعة إلى جوارها…وصاحت بصوت مرتجف برعب لم تعرفه من قبل : جـ جبران جبراااان

رأته كان  غارق في الدماء… بجرح عميق يقطب جبينه، وذراعه اليمنى ملتوية بطريقة غير طبيعية… وشحوب وجهه جعل قلبها ينهار….

صرخت وهي تحاول فك الحزام وضمته بذراعيها المرتجفين ..ضمت رأسه إلى صدرها كان ثقيلا، صامتا… همسة بضعف وصوت يرتجف : جبران جبران يا روحي.. فوق يا حبيبي متخوفنيش يا بابا ما تسبنيش… ما تسبنيش يا جبران… أنت وعدتني إنك مش هتسيبني… أنت وعدتني يا روحي !!

انحنت عليه تقبله بين حاجبيه، تمسح الدم بيديها المرتعشة، بينما الدموع تنهمر على وجهه. كانت يداه ساكنه ، لكن قلبه لا زال ينبض قربها…

همسة له بقلبها: أنا بخير عشانك… بس إنت، بالله عليك ارجعلي.. فوق عشان خاطري!!

في لحظة حنونه مكسورة بالألم، فتح جبران عينيه ببطء، شهقة ألم خرجت من صدره، وابتسامة باهتة اعتلت شفتيه وهمس: انتي كويسه ؟

لم تستطع الرد، فقط هزت رأسها وهي تبكي وتقبل جبينه المدمى…
نظر لها كوداع حارق وسقطت رأسه مرة أخرى على صدرها، ونبض قلبه يتباطأ بسرعه،

وقد ارتسم على ملامحه تعبير لا ينسى… مزيج من الألم والرضا… لأنه أنقذها…
ضمته ونس إلى صدرها بكل قوتها، وانبحي صوتها وهي تصرخ وقلبها يرتجف ويصلي بألف دعوة، ترجوه أن يبقى… أن لا يرحل… أن لا تكون هذه لحظة الوداع وووو
…………………………
ساحرة القلم ساره احمد

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments